ملف العدد < الرئيسية

السياسة الاجتماعية في الصين والوصول لمجتمع الحياة الرغيدة

: مشاركة
2022-09-01 14:02:00 الصين اليوم:Source د. خديجة عرفة:Author

على مدار العقود الأربعة الماضية، شهد نظام الحماية الاجتماعية في الصين تطورات تدريجية، وذلك استجابة للتحولات المهمة وحتى الأزمات التي شهدتها البلاد؛ تمثل أبرزها في تحقيق معدلات مهمة للنمو الاقتصادي، والتغيرات التي طرأت على هيكل السكان، إضافة إلى الأزمات الإقليمية والعالمية الاقتصادية والصحية، يُضاف لذلك العولمة وما فرضته من تحديات اقتصادية والتداعيات الاجتماعية لذلك. فالتسارع في معدلات النمو صاحبه تحديات جديدة ارتبطت بضرورة إيجاد آليات لإعادة التوازن، كما أن الأزمات المتتالية تطلبت سياسات حماية حكومية موجهة للفئات الهشة والأكثر تضررا، بحيث جاءت التطورات في نظام الحماية الاجتماعية في البلاد استجابة لتطورات اقتصادية وسياسية، ليصبح لدى الصين حاليا أكبر نظام للحماية الاجتماعية على مستوى العالم بنظام متكامل الأبعاد.

هذا وتُشير التحليلات إلى أن هذا النظام مر بمراحل عدة، استمر كل منها نحو عقد من الزمان أو ما يزيد قليلا وصولا للوضع الراهن؛ بحيث مثلت كل مرحلة خطوة نحو الانتقال لمرحلة أكثر نضجا.

تزامنت المرحلة الأولى، والتي تعود بدايتها إلى عام 1978، مع بداية عصر الإصلاح الاقتصادي في البلاد، إذ صاحب الانتقال من التخطيط الاقتصادي والاجتماعي المركزي إلى اقتصاد السوق تغيرات هيكلية، لتتخذ الدولة خطوات مهمة فيما يخص دور الدولة في الحياة الاجتماعية. وعامة، تُعدّ السياسة الاجتماعية استجابة مؤسسية للتأثيرات السلبية لاقتصاد السوق الحر وما يصاحبها من مخاطر. وفي الصين كانت السمة الأبرز في هذا الشأن هو الانتقال نحو خصخصة الخدمات الاجتماعية والبعد عن نموذج الرعاية الاجتماعية التقليدي القائم على الرعاية الأبوية، بحيث أصبحت الدولة معنية بشكل أكبر بوضع الإطار التنظيمي الخاص بالسياسة الاجتماعية، إضافة إلى مسؤولية الدولة عن شبكات الحماية الاجتماعية الخاصة بالفئات الضعيفة والهشة.

ومن أبرز البرامج الاجتماعية التي تم تبنيها خلال تلك المرحلة، نظام الضمان الاجتماعي الموجه للعاطلين عن العمل؛ هذا النظام أسهم تدريجيا في حل مشكلات البطالة. وكذلك التأمين الصحي والتأمين الصحي الخاص بالمتقاعدين والذي حل محل نظام التأمين على العاملين داخل الشركات. لتشهد تلك الفترة التفكير في إنشاء نظام حديث للضمان الاجتماعي، كما بدأت الشركات المختلفة في تجربة أنظمة خاصة للحماية الاجتماعية لتطبيقها على العاملين بها.

وعلى غرار المرحلة الأولى استمرت المرحلة الثانية عقدا آخر، إلا أنها لم تكن مرحلة تجربة على غرار المرحلة الأولى، وإنما هدفت بالأساس إلى توحيد وبلورة نظام للضمان الاجتماعي في البلاد؛ خاصة أن تلك الفترة شهدت تطورات اقتصادية صاحبها تعديلات في هيكل العمالة الصينية، كما واجه نظام الحماية الاجتماعية الذي كان في مرحلة التبلور تحديا مرتبطا بالأزمة المالية الآسيوية عام 1997، والتي تركت تداعيات اجتماعية كان على النظام مواجهتها. ومن أبرز البرامج التي تم تبنيها خلال تلك الفترة، نظام تقاعد موحد لموظفي المنشأة ويعد هذا النظام حجر الأساس في نظام المعاشات في الصين في الوقت الراهن.

شهدت الفترة التالية مرحلة جديدة، استمرت حتى عام 2013، والتي شهدت بلورة لنظام الحماية الاجتماعية في البلاد. فقد كانت هناك أشكال لعدم المساواة الاجتماعية وذلك كنتيجة للتطورات الاقتصادية والتغيرات المستمرة في هيكل السكان، لذا هدفت السياسة الاجتماعية آنذاك إلى تحقيق الانسجام داخل المجتمع، وذلك من خلال وضع الآليات الكفيلة بإعادة التوازن داخل المجتمع. وفي ذلك الوقت لم تكن الخدمات الاجتماعية جزءا من السياسة الاجتماعية، لذا تم التركيز على تقديم مجموعة متنوعة من الخدمات الاجتماعية.

شملت الإصلاحات خلال تلك الفترة وضع قانون للتأمين الاجتماعي، وإيجاد برامج تأمين اجتماعي وطنية لكل من الخدمات الصحية والتأمينية. كما تم إيلاء اهتمام خاص لتقليل الفجوة بين سكان الحضر والريف، وتحسين جودة الحياة في المناطق الريفية. وكذلك إيجاد نظام شامل للمساعدة الاجتماعية بهدف تحسين أوضاع العمال والحماية الاجتماعية للعمالة المهاجرة من الريف للحضر. يُضاف لذلك إصلاح النظام الضريبي؛ ففي عام 2001، قام مجلس الدولة الصيني بتجربة نظام للإصلاح الضريبي في الريف ليتوسع البرنامج تدريجيا ليشمل مجمل البلاد وذلك في عام 2003.

وقد شهد نظام الضمان الاجتماعي في الصين توسعا سريعا، وخاصة منذ عام 2000 ليتحول إلى أكبر نظام شامل للحماية الاجتماعية على مستوى العالم وتُشير المصادر إلى أن النظام الصيني الراهن يتكون من ثلاثة أنواع هي: تأمين اجتماعي قائم على الاشتراكات، وتأمين اجتماعي غير قائم على الاشتراكات، والرعاية الاجتماعية الممولة من الضرائب.

وخلال الخطة الخمسية الحادية عشرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية (2006- 2010) أولت الحكومة اهتماما أكبر بالمساواة والعدالة الاجتماعية. وبدأت تُصاغ مفاهيم "مجتمع متناغم" و"النمو الاحتوائي" وخلال ذلك الوقت كان الهدف أن تحقق الصين مجتمع الحياة الرغيدة وذلك بحلول عام 2020. لذا انصب التركيز على سبل تحقيق مجتمع الحياة الرغيدة في البلاد، ففي عام 2007، قدمت وزارة الشؤون المدنية مبدأ الرفاه الإرشادي وتم تبني إصلاحات تدريجية لنظام الرفاه الصيني بالتركيز على التكامل والعالمية والحقوق الأساسية.

تحقيق هذا الهدف تطلَّب التحرك على أكثر من مسار؛ فمن ناحية تم التوجه نحو التوسع الأفقي من خلال مد مظلة الحماية الاجتماعية لقطاع أكبر، والعمل على تحسين النظام من خلال زيادة الإعانات مع معالجة أوجه القصور التي ظهرت خلال المرحلة السابقة. ففي ظل المشكلات التي كان يُعانيها نظام الرعاية الصحية، حظي هذا القطاع باهتمام خلال تلك الفترة؛ حيث هدفت خطة الإصلاح إلى تغطية مجمل الشعب الصيني بنظام للتأمين الصحي بمن فيهم المهاجرون. وفي عام 2003 تم تقديم البرنامج الطبي التعاوني الريفي الجديد بهدف تغطية سكان الريف وبدأ تطبيق البرنامج في عام 2005. وفي عام 2006 تم تقديم التأمين الطبي الأساسي للمقيمين في الحضر والذي وُجه بالأساس للعاطلين من سكان الحضر غير المشمولين بنظام التأمين على العاملين بالحضر.

وقد أسهم نظام التأمين الصحي الجديد في زيادة نسبة التغطية. فخلال الفترة من عام 2004 وحتى عام 2014 زادت نسبة تغطية التأمين الصحي في المناطق الريفية من 15% إلى 94% وفي المناطق الحضرية من 51% إلى 94%، كما زادت النسبة من 9% إلى 87% وذلك فيما يخص المهاجرين من الريف إلى الحضر.

وفيما يتعلق بالتعليم، ففي ديسمبر 2005، قدَّم مجلس الدولة الصيني برنامجا بشأن إصلاح آليات تمويل التعليم الإلزامي في الريف؛ والذي هدف إلى ضمان الموارد المالية لتقديم التعليم في الريف في ظل نظام واضح للقواعد والمسؤوليات. وفي يونيو 2006، تم وضع قانون التعليم الإجباري المعدل والذي هدف إلى تعزيز مسؤولية الحكومة ماليا عن التعليم الإلزامي في المناطق الريفية.

وخلال المؤتمر الوطني السابع عشر للحزب الشيوعي الصيني في عام 2007 وضع هدف توسيع نظام المعاشات ليشمل كل الصين بحلول عام 2020. وذلك من خلال إدراج مجموعات جديدة في نظام المعاشات، وبالفعل شهدت الفترة التالية تطورات مهمة حيث تم وضع معايير جديدة شملت برنامج المعاشات الاجتماعية الريفية الجديدة في عام 2009، وبرنامج المعاشات الاجتماعية لسكان الحضر في 2011. وكلاهما كان اختياريا وكان يتم تمويلهما من خلال مساهمات الأفراد إضافة لمساهمات حكومية. وبالفعل فخلال الفترة من 2004 إلى 2014 زادت نسبة تغطية المعاشات من 8 إلى 47% في المناطق الريفية، ومن 52 إلى 62% في المناطق الحضرية، ومن 7 إلى 32% بين المهاجرين من الريف للحضر.

وما يهمنا هو المرحلة الراهنة والتي تعود إلى نوفمبر 2012، والتي تزامنت بدايتها مع انعقاد المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني، حيث شهدت الفترة التالية تطورات هيكلية في نظام الضمان الاجتماعي في البلاد. والذي لم يعد مقتصرا على نظام للمعاشات وتأمين صحي خاص بالدولة فحسب، بل صاحبه تحركات من الشركات نحو وضع معاش تكميلي ونظام صحي تكميلي. إضافة إلى إدراج التأمين ضد الأمراض الخطيرة. وكتكملة لذلك تم وضع أنظمة تأمينية يمكن للأفراد شراؤها.

وخلال تلك المرحلة بدأت البلاد تتجه للمسؤولية بشكل أكبر عن رفاه الشعب، فقد تحركت الدولة نحو نموذج أكثر احتواء، مع التركيز على كل من التنمية والشمول الاجتماعي في الوقت ذاته.

فيما يتعلق بنظام المعاشات، في عام 2014، قامت الحكومة الصينية بدمج برنامجي المعاشات للريف والحضر اللذين سبقت الإشارة إليهما وتحويلهما إلى نظام تقاعد موحد للمقيمين في المناطق الحضرية والريفية. كما تم تطوير نظام معاشات للعاملين في القطاع الحكومي في عام 2015 حيث سمح للعاملين في القطاع الحكومي بالمساهمة في المعاشات الخاصة بهم.

وخلال المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، تم الإعلان عن أن الصين تدخل مرحلة تاريخية حديثة حيث بدأت البلاد في التحول لاستخدام عوائد التنمية في تحقيق العدالة الاجتماعية لكافة فئات المجتمع. وبالفعل فقد تم خلال تلك الفترة تقديم مجموعة من البرامج الهادفة للإبداع في تقديم الخدمات الاجتماعية والتي شملت الخدمات الرقمية والصحة الرقمية والتعليم عن بُعد، إضافة إلى تعميق وتوسيع نطاق العديد من البرامج المطبقة بالفعل. كما توسعت برامج التأمينات والمعاشات وزادت بشكل كبير.

وقد شهدت الخطة الخمسية الثالثة عشرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الوطنية (2016- 2020) تطورا كبيرا في نظام الحماية الاجتماعية في البلاد؛ حيث توسعت التغطية وتحسنت جودة الخدمات المقدمة من حيث زيادة قيمة المعاش الأساسي للمتقاعدين وكذلك زيادة قيمة التأمين ضد إصابات العمل والتعطل عن العمل. وبنهاية الخطة أصبح نظام التأمين الأساسي ضد الشيخوخة يغطي أكثر من 992 مليون شخص أي ما يمثل 99ر99% من المعنيين بهذا البرنامج، وثلث إجمالي المشمولين بهذا البرنامج على مستوى العالم، إضافة إلى 3ر1مليار شخص أصبحوا مشمولين بنظام التأمين الصحي وهو ما يعني النجاح في الوصول لهدف التغطية الصحية الشاملة (ففي عام 2019 كان 329 مليون صيني مشمولين بالرعاية الصحية الأساسية للموظفين في الحضر، بزيادة بنسبة 309% مقارنة بالعام السابق، هذا بالإضافة إلى 02ر1 مليار من المقيمين في الريف والحضر بانخفاض بنسبة 3ر0% مقارنة بالعام السابق) إضافة إلى تأمين ضد البطالة شمل 214 مليون شخص، وتأمين ضد إصابات العمل شمل 264 مليون شخص. كما شارك 17ر214 مليون شخص خلال عام 2019 في تأمين الأمومة بزيادة بلغت نسبتها 8ر4% مقارنة بالعام السابق. كما عملت الحكومة الصينية على تطوير المنصات الخاصة بتقديم الخدمات الاجتماعية وأصبح هناك 33ر1 مليار شخص يحملون بطاقة الضمان الاجتماعي. كما تم التوسع في التطبيقات الإلكترونية لمساعدة الأشخاص في الحصول على تلك الخدمات إلكترونيا ليصبح هناك 314 مليون شخص يحملون بطاقات الضمان الاجتماعي الإلكترونية.

وتجدر الإشارة إلى أن التطور في تقديم الخدمات الاجتماعية لم يصاحبه تحميل الأفراد أعباء مالية أكبر، إذ تُشير الأرقام إلى أنه خلال الفترة من 2015 وحتى عام 2019 تم تخفيض مساهمات الأفراد في التأمين الاجتماعية نحو ست مرات.

 برزت أهمية تلك التطورات في نظام الرعاية الاجتماعية في الصين والصحية بوجه خاص في ظل أزمة كوفيد- 19، فقد استخدمت الصين نظام التوظيف والحماية والاجتماعية كعنصر رئيسي في الاستجابة لكوفيد- 19؛ حيث قدَّمت الصين برنامج مساعدة طارئ لتوفير المساعدة الاجتماعية للمواطنين خلال فترة الإغلاق، حيث وفرت مساعدات للفقراء والفئات الهشة، وإعانة بطالة للمتعطلين عن العمل، وكذلك وقف قيمة المساهمات في التأمينات الاجتماعية. وخلال النصف الأول من 2020 أنفقت الحكومة الصينية 68ر0% من الناتج المحلي الإجمالي على الحماية الاجتماعية والإجراءات الموجهة للعمالة. وفي 23 يوليو 2020، وضع مجلس الدولة الصيني مخططا لإصلاح النظام الطبي والصحي وذلك للنصف الثاني من عام 2020. وقد اشتمل على زيادة الدعم الحكومي للتأمين الصحي الأساسي بقيمة 30 يوانا (الدولار الأمريكي يساوي 8ر6 يوانات حاليا) للفرد، وإصلاح إجراءات الدفع الخاصة بالتأمين الصحي، وتطوير الرعاية الصحية عبر الإنترنت، وتسريع تطوير التأمين الصحي الخاص. وغير ذلك من الإجراءات التي تم تبنيها خلال فترة الأزمة.

وختاما، تطورت السياسة الاجتماعية في الصين على مدار العقود الأربعة الماضية، وبخاصة السنوات العشر الأخيرة، تطورات جادة ومهمة، بحيث نجحت في الوصول للهدف المنشود وهو تحقيق مجتمع الحياة الرغيدة، وهو ما تؤكده الأرقام. فوفقا للبنك الدولي، انخفض معدل الفقر في الصين من 88% عام 1981 إلى 2ر10% في عام 2012 ثم 6ر0% عام 2019، وبذلك نجحت الصين في إخراج أكثر من 800 مليون شخص من براثن الفقر. كما انخفضت نسبة الأمية بشكل كبير، ففي عام 1965 بلغت نسبة المتعلمين في البلاد 51ر65% وفي عام 2018 بلغت 84ر96%. إلا أنه على الجانب الآخر، ففي ظل الأزمات والتحديات المتزايدة، فإن مواجهة تلك التحديات يتطلب مزيدا من التطوير في نظام الحماية الاجتماعية في البلاد، كما أن هناك حاجة لتزايد الفهم للاحتياجات المتعددة الأبعاد للأسر والأفراد.

--

د. خديجة عرفة، باحثة سياسية من مصر.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4