على مقهى في الشارع الصيني < الرئيسية

تعليم الفتيات في الصين

: مشاركة
2021-02-04 15:31:00 الصين اليوم:Source حسين إسماعيل:Author

في الثاني والعشرين من شهر ديسمبر عام 2015، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا باعتبار الحادي عشر من فبراير من كل عام "اليوم الدولي للمرأة والفتاة في ميدان العلوم"، من أجل تعزيز الوصول الكامل والمتساوي للنساء والفتيات للمشاركة في العلوم، والاعتراف بالدور الذي تلعبه النساء والفتيات في العلوم والتكنولوجيا. جاء القرار الأممي استكمالا لسلسلة طويلة من الجهود بذلها المجتمع الدولي لإنصاف المرأة وتعزيز حقوقها، ومنها الحق في التعليم.

التعليم في الصين له تاريخ طويل، فقد بدأ التعليم المدرسي في هذه البلاد منذ نحو ألفين وخمسمائة عام على يد الفيلسوف التربوي الكبير كونفوشيوس (551- 479 ق م). قبل كونفوشيوس، كان التعليم حكرا على أبناء الطبقات العليا في المجتمع. أما المدرسة الخاصة غير الحكومية التي أقامها كونفوشيوس، فكانت تقبل تلاميذ بدون النظر إلى أصولهم العائلية، وقد أعدت أكثر من ثلاثة آلاف تلميذ، وزاد عدد المتفوقين منهم على سبعين تلميذا. اعْتَبَر كونفوشيوس التعليمَ، مثل الماء والهواء، حقا يجب توفيره للجميع من دون تمييز. غير أن "الجميع" هنا لم يكن من بينهم الفتيات، فقد ظلت الفتاة الصينية محرومة من الحق في التعليم حتى نهاية فترة أسرة تشينغ سنة 1911، والتي أرخ سقوطها لانتهاء الحكم الإمبراطوري في الصين.

في بداية القرن العشرين، عرفت الصين النظام المدرسي الحديث على النمط الغربي، وسُمح للفتيات في ذلك الوقت بالذهاب إلى المدارس في مؤسسات تعليمية أقيمت خصيصا لهن. لكن، بسبب رسوم الدراسة المرتفعة والتمييز التقليدي بين الجنسين في الصين، لم يكن ممكنا لمعظم فتيات الصين الحصول على التعليم المدرسي الرسمي. وعندما تأسست جمهورية الصين الشعبية سنة 1949، كان تسعون في المائة من فتيات ونساء الصين فوق سن 15 عاما أميات.

 لأسباب عديدة، يولي الصينيون أهمية كبيرة للتعليم منذ قديم الزمان، فالتعليم على مدار تاريخ الصين وسيلة لارتقاء السلم الاجتماعي وتغيير مصير الفرد والعائلة. بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية، أولت الحكومة الصينية والحزب الشيوعي الصيني اهتماما كبيرا للتعليم. وقد أدت الحملة الوطنية للقضاء على الأمية التي انطلقت في خمسينات القرن العشرين وتعزيز التعليم الإلزامي في السنوات التالية والعديد من المشروعات الحكومية وغير الحكومية لمساعدة الفتيات للحصول على التعليم، إلى تغيير الوضع. تطبق الصين التعليم الإلزامي المجاني لمدة تسع سنوات، أي من المرحلة الابتدائية حتى انتهاء المرحلة الثانوية. ويلتهم الإنفاق على التعليم حاليا جزءا كبيرا من دخل العائلة الصينية التي لديها أبناء في أي مرحلة من مراحل التعليم. الأهم في كل ذلك، أن الفتاة الصينية أصبحت جزءا هاما من كل هذه العملية.

خلال القرن العشرين، قطعت الصين رحلة طويلة وشاقة على درب التعليم، من المدارس ذات المعلم الواحد وصولا إلى الجامعات ذات المستوى العالمي، والتميز في مجالات مختلفة بما في ذلك العلوم والتكنولوجيا. ووفقا لتقرير نشرته صحيفة ((تشينا ديلي)) الصينية في 29 ديسمبر 2020، فإن مسحا أُجْرِي مؤخرا يبين أن 9ر99% من فتيات الصين في سن الدراسة يتلقين تعليما رسميا، وذلك بفضل الجهود التي بذلتها الحكومة على مدى عقود لضمان المساواة بين الجنسين في التعليم. وتظهر الإحصاءات أن الفتيات يشكلن 34ر44% من طلاب المدارس الثانوية، وأكثر من 50% من طلاب الجامعات ومؤسسات التعليم العالي المهني التي تمنح درجة البكالوريوس، وحوالي نصف إجمالي طلاب الدراسات العليا.

حِرْصُ الحكومة الصينية على وضع تعليم الفتيات ضمن أولوياتها ليس فقط من أجل إنهاء التمييز بين الجنسين في التعليم، وإنما أيضا لأنها تتخذ التعليم أساسا لبناء "الصين المتناغمة"، باعتبار أن الفتيات، واللاتي يصبحن أمهات هن جوهر عملية بناء الإنسان من خلال تربية أبنائهن. وكما في دول عديدة، تلعب الأم في الصين الدور الأهم في تربية الأبناء. وقد أظهر مسح أجري في شانغهاي في سنة 2015، أن الأمهات يلعبن الدور الأكثر أهمية في تعليم أطفالهن في 90% من عائلات هذه المدينة الكبيرة، بزيادة بلغت نسبتها 10% عن عام 2005. هذا لا يعني أن الآباء لا يلعبون أي دور في تربية أبنائهم، وإنما يعني أن الأم تلعب الدور الأهم، ومن بعده تأتي أدوار أفراد آخرين في العائلة مثل الأب والجدين والجدتين وربما الأقارب. وفي حالات كثيرة لعائلات أصدقائي الصينيين، لاحظتُ أن الزوجة تُولِي تعليم أبنائها اهتماما أكثر من الاهتمام الذي يوليه الزوج لتعليم الأبناء.

من أجل ضمان حصول الإناث على التعليم على قدم المساواة مع الذكور، أصدرت الحكومة المركزية الصينية وطبقت العديد من القوانين واللوائح، بما في ذلك التعليم الإلزامي لمدة تسع سنوات للفتيات. في سنة 1985، قبل عام من صدور قانون التعليم الإلزامي، كانت نسبة الفتيات في المدارس الثانوية 25% فقط. في سنة 1986، دخل "قانون التعليم الإلزامي لجمهورية الصين الشعبية" حيز التنفيذ. ينص هذا القانون على أن يحصل جميع المواطنين الصينيين على تسع سنوات على الأقل من التعليم، بتمويل من الحكومة. بفضل نظام التعليم الإلزامي وتعزيز المساواة بين الجنسين، تم القضاء على الفجوة بين الجنسين في التحصيل العلمي بشكل كبير في العقود الماضية. وهناك لوائح لضمان عدم تسرب الفتيات من المدارس، وتم تنفيذ سياسات داعمة خاصة لمساعدة الفتيات، وخاصة الفتيات من العائلات الفقيرة، على الالتحاق بالمدارس. وحسب تقرير لوكالة ((شينخوا)) للأنباء في 17 يونيو 2020، فإن الميزانية المركزية للصين خصصت 59ر169 مليار يوان (الدولار الأمريكي يساوي 5ر6 يوانات حاليا)، من الإعانات لدعم التعليم الإلزامي في عام 2020، بزيادة قدرها 3ر8% على أساس سنوي. ونقلت الوكالة عن وزارة المالية الصينية أن حوالي 154 مليون طالب وطالبة على مستوى الصين معفيون من الرسوم المتنوعة ويحصلون على كتب مدرسية مجانية، وأن حوالي 25 مليون طالب وطالبة من عائلات فقيرة يحصلون على إعانات معيشية، ويستفيد 32 مليون طالب وطالبة من المناطق الفقيرة من برنامج تحسين التغذية كل عام.

بالإضافة إلى زيادة الاستثمار في التعليم باستمرار، اتخذت الحكومة الصينية أيضا تدابير لتشجيع المؤسسات الاجتماعية على تعزيز تعليم الفتيات. من بين البرامج غير الحكومية، هناك "مشروع الأمل" و"مشروع براعم الربيع" اللذان أُطلقا في عام 1989، وهما المشروعان الأكثر نجاحا في هذا المجال. ساعد "مشروع الأمل" ملايين الأطفال الفقراء، ومعظمهم من الفتيات، على العودة إلى فصول الدراسة، بينما ساعد "مشروع براعم الربيع" الفتيات حصريا على إكمال التعليم في المرحلة الثانوية. مازالت صورة فتاة الملصق الدعائي لـ"مشروع الأمل" تتراءى أمام ناظريّ كلما جاء ذِكْرُ تعليم الفتيات في الصين. وأحسب أن كثيرا من الصينيين يعرفون اسم سو مينغ جيوان، الفتاة ذات العينين الواسعتين التي صارت رمزا لهذا المشروع الخيري التعليمي. في سنة 1991، عندما كانت سو في الثامنة من عمرها، التقط مصور بصحيفة ((شباب الصين اليومية)) صورة لها في مدرستها المتهالكة بمحافظة جينتشاي الفقيرة، آنذاك، في مقاطعة آنهوي. أثّرت صورة سو في عدد لا يحصى من الصينيين فتبرعوا بمبالغ كبيرة لمساعدة الأطفال على مواصلة تعليمهم. منذ انطلاقه في سنة 1989 حتى سنة 2016، بلغ إجمالي التبرعات التي حصل عليها "مشروع الأمل" نحو ثلاثة عشر مليار يوان، استخدمت لبناء أكثر من تسعة عشر ألف مدرسة ابتدائية ومساعدة أكثر من خمسة ملايين وخمسمائة ألف طفل وطفلة في المناطق الريفية لمواصلة الدراسة. أما "مشروع براعم الربيع"، فقد ساعد خلال السنوات الثلاثين الماضية، باستثمارات من الحكومة والمؤسسات والأفراد، في بناء ألف وثمانمائة وإحدى عشرة مدرسة، تحمل كل منها اسم "مدرسة "براعم الربيع". وتولَّى المشروع رعاية ثلاثة ملايين وستمائة وتسعين ألف فتاة فقيرة لإكمال التعليم الإلزامي لمدة تسع سنوات.

في حوار مع القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، في الخامس من يناير 2021، سألتني المذيعة أمنية الخياط: كيف استطاعت الصين تخليص شعبها من الفقر المدقع؟ من بين مقاربات عديدة انتهجتها الصين لتحقيق هدف التخلص من الفقر المدقع، أشرتُ بشكل خاص إلى التخفيف من حدة الفقر من خلال التعليم، وتحديدا تعليم الفتيات، بالنظر إلى الدور المحوري للمرأة في العائلة الصينية. كان المستوى التعليمي المنخفض سببا رئيسيا للفقر في الصين، والتعليم أيضا وسيلة ناجعة لمنع انتقال الفقر بين الأجيال. في يوليو سنة 2013، أصدرت الحكومة الصينية "الآراء حول تنفيذ مشروع التخفيف من حدة الفقر من خلال التعليم"، والتي تطرح بوضوح أن "التخفيف من حدة الفقر من خلال التعليم مهمة ذات أولوية للتخفيف من حدة الفقر". في سنة 2015، اعتمد مؤتمر الحكومة المركزية للتخفيف من حدة الفقر "قرار الانتصار في المعركة ضد الفقر"، ودعت الحكومة المركزية إلى ضرورة تعزيز التخفيف من حدة الفقر من خلال التعليم وتنفيذ مشروع التخفيف من حدة الفقر من خلال التعليم. كان التخفيف من حدة الفقر من خلال التعليم جزءا هاما من إستراتيجية الدولة للتخفيف المستهدف من حدة الفقر وسياسة أساسية للنهوض بالمناطق الفقيرة وتخليص العائلات الفقيرة من الفقر.

 في الثاني والعشرين من ديسمبر 2020، أصدرت مصلحة الدولة للإحصاء تقريرها لعام 2019 حول مخطط تنمية المرأة الصينية (2011- 2020). وفقا للتقرير، بلغ عدد الصينيات اللائي واصلن تعليمهن في مرحلة الدراسات العليا مليونا وأربعمائة وخمسين ألفا في سنة 2019، بنسبة 6ر50% من طلاب الدراسات العليا في الصين، بينما بلغت نسبة الفتيات في الكليات الجامعية 7ر51% من الإجمالي (في عام 2012، كانت هذه النسبة 4ر51%). هذا يعني تفوق إناث الصين على ذكورها في التعليم برغم حقيقة أن نسبة الذكور إلى الإناث في الصين هي 5ر105 ذكور مقابل كل مائة أنثى. وقد انعكس ارتقاء مستوى تعليم الفتيات في الصين في نواح عديدة بالمجتمع الصيني، فحتى نهاية سنة 2016، بلغت نسبة الإناث 1ر43% من القوى العاملة في الصين، وبلغ عدد العاملات في المناطق الحضرية 18ر65 مليونا، بزيادة بلغت نسبتها 34% مقارنة بعام 2010، وبلغت نسبة النائبات في المجلس الوطني الثالث عشر لنواب الشعب الصيني، أعلى هيئة تشريعية في الصين، 9ر24% مقارنة مع 4ر23% في المجلس الثاني عشر و33ر21% في المجلس الحادي عشر، وتجاوزت نسبة النساء في المجلس الوطني الثالث عشر للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني 20% من إجمالي الأعضاء.

"النساء يحملن نصف السماء"، كما قال الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ. وقد أثبتت الفتاة الصينية المتعلمة أنها مشاركة فاعلة في بناء وطنها وصامدة في مواجهة تحدياته، كما تتقاسم منجزاته وتنعم بخيراته. الفتاة الصينية، مثل كل فتيات العالم، قطعت المسيرة الطويلة للتحول من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، تتحمل فيه مسؤولياتها وتحصل على حقوقها العادلة، وفي مقدمتها الحق في التعليم.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4