في ساحة فناء خافتة الإضاءة، مع بدء العرض التمثيلي، يبدأ الفنانون الذين يجلسون خلف ستارة بيضاء أمام ضوء ساطع، في أداء المسرحية باستخدام دمى جلدية صغيرة مثبتة على نهايات أطراف عصي. يرى المشاهدون على الجانب الآخر من الستارة صور دمى خيال الظل وهي تتشقلب أو تمشي أو تتحدث، في محاكاة لحركات البشر. يجلس كل من الأطفال والكبار على مقاعدهم وهم يستمتعون بالأساطير الرائعة أو قصص الحب والكراهية الكلاسيكية التي يتم تمثيلها بواسطة دمى خيال الظل؛ وحيث ينصب انتباه الجميع على الستارة، يبدو كأن العالم الصغير يتجسد في فن مسرح خيال الظل للدمى المصنوعة من الجلد أو مواد أخرى مناسبة.

قبل ألفي عام، كان الإمبراطور وو دي (156- 87 قبل الميلاد) من أسرة هان الغربية (206 ق.م - 24 م) يتابع عرضا مماثلا على ستارة سحرية ويتمتع بمشاهدة صورة محبوبته لي، التي كانت قد توفيت قبل ذلك بزمن. يقال إن فكرة هذا الفن استحضرها لي شاو فنغ، أحد خادمي الإمبراطور. عندما رأى لي شاو فنغ أن الإمبراطور يفتقد محبوبته لي كثيرا، قام بقطع ورقة عريضة من شجرة، صنع منها صورة ظل لحبيبته لي. ثم في ضوء الشمس، تم إلقاء ظل الورقة على الستارة، وكان مشهدها يريح الإمبراطور إلى حد كبير. هذه هي أقدم أسطورة تتعلق بفن دمى خيال الظل في الصين.

نشأ فن مسرح دمى خيال الظل خلال فترة أسرة هان الغربية منذ حوالي ألفي عام. اليوم، هذا الفن ليس فقط عنصرا من التراث الثقافي غير المادي على المستوى الوطني في الصين، وإنما أيضا تم الاعتراف به من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) باعتباره كنزا ثقافيا عالميا. تبدو أدوات التمثيل لهذا النوع من المسرحيات بسيطة، إلا أنها في الواقع فن شامل يتضمن التصميم والنحت والأداء والمزيد من المهارات.

مسرحيات بكين لخيال الظل

مسرحيات خيال الظل، أو العروض المسرحية لخيال الدمى الجلدية، فن درامي فريد من نوعه في الصين، يجمع بين النحت والغناء ورواية القصص والإضاءة والظلال، ويلقي صور ظلية شفافة للشخصيات المسرحية، منحوتة من جلود حيوانات مثل البقر والحمار والحصان والغنم، إلخ، على الشاشة باستخدام الضوء. أثناء العرض المسرحي، يمكن رؤية ظلال صور الدمى وهي تؤدي بوضوح حركات مختلفة على ستارة بيضاء مع إضاءة ساطعة في الخلفية. نشأ فن خيال الظل في مقاطعة شنشي في عهد أسرة هان الغربية، وهو أول فن صور متحركة مع صوت بشري متزامن في العالم، ومن ثم يعتبر مقدمة السينما الحديثة.

ولمسرحيات خيال الظل في الصين، العديد من الفروع المختلفة، منها مسرحيات بكين لخيال الظل التي تتمتع بخصائصها الفريدة في تقنية النحت ونمذجة الشخصية ونظام الغناء الكامل.

كانت مسرحيات بكين لخيال الظل، في فترتها المبكرة، تنقسم إلى المدرستين الشرقية والغربية، قبل أن تنقرض المدرسة الشرقية. المدرسة الغربية الحالية فتم تشكيلها خلال فترة تشنغ ده (1506- 1521) لأسرة مينغ. في عام 1842، ورث لو ده تشنغ، وهو من أبناء قومية مان بالصين، الفن وأنشأ فرقة "بكين شيانغشون لخيال الظل". منذ ذلك الحين، استمر توارث عرض خيال الظل للمدرسة الغربية، من جيل إلى جيل في عائلة لو لأكثر من مائة عام وحتى اليوم.

تشكلت مسرحيات بكين لخيال الظل عبر تاريخ طويل، كما أن لأدائها ونغمات أصواتها ونمذجتها خصائص فنية مختلفة عن فروع مسرحيات خيال الظل في المناطق الأخرى. وقد استفادت خلال فترة تكوينها الطويلة، من نغمات أوبرا كونتشيوي الشمالية وأوبرا بكين وأنماط أخرى من الموسيقى الشعبية، لتشكل أسلوبا فريدا خاصا بها، كما أنها تتمتع بدقة التعبير والمبالغة فيه، وهناك مهارات فنية فريدة لها تتميز بتفاصيل التعبير الحي الرائع، مثل نظر شخصيات المسرحية إلى المرآة وبكائها، وارتدائها الملابس. إلى جانب ذلك، استفادت مسرحيات بكين لخيال الظل أيضا من أوبرا بكين في نمذجة شخصيات المسرحيات، فظهرت فيها التصميمات الملونة على وجوه ممثلي أدوار المسرحيات كما في أوبرا بكين، مما زاد صبغتها المحلية، فيمكن لشاهد عروض مسرحيات بكين لخيال الظل أن يرى مكياج الوجه والأزياء التي يراها الجمهور في أوبرا بكين.

صنع الدمى والعروض الفنية

يمر صنع دمى خيال الظل بعملية متعددة الخطوات، تتضمن اختيار المواد والنحت والتلوين والخياطة والرسم. هناك نوعان من الأدوات الأساسية لإنتاج صور الدمى في فن بكين لدمى خيال الظل الجلدية، وهما لوح الشمع- سنادة النحت وسكين النحت.

لصنع لوح من الشمع، يُغلى أولا خليط من الشمع الأصفر وشحم البقر والتوابل، قبل صبه في وعاء معدني أو خشبي حتى يبرد. أخيرا، بعد الضغط عليه بإحكام، تظهر لوحة من الشمع. الصفة الجيدة في ألواح الشمع هي أنها يمكن إعادتها إلى حالتها الأصلية حتى بعد استخدامها لفترة طويلة.

الأدوات المستخدمة في صنع دمى خيال الظل، تشمل المخرز والمقص، ومع ذلك، فإن لوح الشمع وسكين النحت هي الأدوات الرئيسية المستخدمة لصنع الدمى من جلود الحيوانات. في الماضي، استخدم الحرفيون سكاكين خشبية للقيام بالمهمة، لكن سكاكين اليوم أكثر حدة. في صنع دمى فن خيال الظل البكيني، هناك أسلوب قص فريد يتم باستخدام الحرفي لسكين واحد فقط. بغض النظر عن مدى إتقان صنع الدمية الجلدية، يكفي سكين واحد لصنعها.

بعد نحت الأشكال، يقوم الحرفي بطلاء الجلد الشفاف بفرشاة كتابة وألوان مائية. يعد اختيار الألوان وطلاء الأنماط الكاملة بمثابة اختبار لمهارة الحرفي. الخطوة الأخيرة، هي ربط أجزاء مختلفة من الدمية المنحوتة بخيوط تثبتها.

عملية إنتاج دمى خيال الظل لها تأثير حاسم في فاعلية العرض المسرحي الذي تستخدم فيه تلك الدمي. تبدو الدمى التي يصنعها الحرفيون نابضة بالحياة، وحتى الشعر أو شعر اللحية يشبه الشعر الحقيقي. الدمى الرائعة هي أيضا منتجات فنية يمكن تعليقها على الحائط كقطعة من الديكور الداخلي. بالإضافة إلى ذلك، أثناء العرض، يجب أن تكون العصي التي تربط الدمى، متوازية مع الأرض بزاوية 90 درجة مع الدمى.

العروض المتنقلة

دُمى خيال الظل الصغيرة، وهي في أيدي الممثلين ومع أداء يكون مصحوبا بالغناء بنبرة عالية أو منخفضة، تتنقل بين الأماكن المختلفة لعروض كوميدية أو درامية أو أو ميلودرامية.

في العصور القديمة، كانت مجموعة من ستة إلى سبعة أشخاص مجهزين بصندوق يضم دمى خيال الظل في منطقة ريفية تشكل فرقة دمى الظل. كان يكفيهم صندوق مُضِيءٌ وستارة لتقديم عرضهم الفني، سواء كان ذلك في سوق أو في ساحة أو فناء. كانت الفرق الشعبية كثيرة التنقل، ويمكن للفرقة أن تؤدي ما يصل إلى 40 عرضا في اليوم، وعندما ينتهون، يقومون بلم وتعبئة جميع أدواتهم والذهاب إلى وجهتهم التالية. كانت عروض خيال الظل تقدم في مناسبات الأعياد أو الاحتفال بالحصاد الوافر أو حفلات زفاف، وكانت الفرقة تواصل عروضها طوال الليل أحيانا، من أجل الجماهير الذين أتوا من أماكن بعيدة للمشاهدة.

لتقديم عرض فني جيد، كان على فناني خيال الظل أن يتدربوا كثيرا. بالإضافة إلى الغناء ورواية القصص، كانوا يحتاجون إلى إتقان التلاعب بالدمى الجلدية، ومن خلال حركات الدمى يتم تقييم مهاراتهم في الفن.

تضيف مسرحيات بكين لخيال الظل نكهة العصور القديمة إلى مسرح بكين الفني، وتحظى بالترحيب من كبار السن والأطفال على حد سواء. وقد تم جمع وحفظ بعض دمى خيال الظل الرائعة من قبل متاحف أجنبية.

نقل فن خيال الظل إلى الجيل القادم

عند الحديث عن مسرحيات بكين لخيال الظل، لا بد من ذكر وإلقاء الضوء على فرقة بكين لمسرحيات خيال الظل. لو باو قانغ هو رئيس الفرقة وممثل ورثة مسرحيات بكين لخيال الظل على المستوى الوطني، وهو وريث من الجيل الخامس في عائلة لو. وقد كرس حياته، مفعما بالحماسة وبالعواطف العميقة، لهذا الفن التقليدي العريق. في نوفمبر 2019، أضيفت فرقة مسرحيات بكين لخيال الظل إلى قائمة مؤسسات التراث الثقافي غير المادي المحمية على المستوى الوطني في الصين.

قال لو إن هناك العديد من مدارس مسرحيات خيال الظل في الصين. في الوقت الحاضر، يأتي أكثر من نصف المنتجات الثقافية الإبداعية المتعلقة بفن خيال الظل من مقاطعة شنشي، و40% من مقاطعة خبي. أما منتجات بكين لهذا الفن، فهي قليلة، نتيجة ضعف تطوره في بكين.  قال لو: "أنا قلق بعض الشيء. بصفتي وريثا، من واجبي ومسؤوليتي أن أعرف الوارثين الشباب بجوهر مسرحيات بكين لخيال الظل ليواصلوا تطويرها وتوارثها بشكل أفضل. وإلا فإن هذا الفن قد ينقرض."

انضمت تشن روي، وهي متدربة لدى لو، إلى الفرقة في عام 2013. وبفضل إبداعها وعملها الجاد، تم الاعتراف بها كوريثة لمسرحيات بكين لخيال الظل، في أكتوبر 2018. قالت تشن، "بصفتي امرأة شابة، أتمنى أن أجلب الحيوية إلى فريق الوارثين، وأن أساهم بجهودي في حماية هذا الفن."

اليوم، أدى ظهور أشكال ترفيه حديثة متنوعة إلى تهميش فن خيال الظل إلى حد كبير، رغم أنه تألق ببراعة عبر التاريخ. لا يوجد حاليا سوى حوالي 10 فرق فنية لخيال الظل في الصين يمكنها إدارة عروضها المسرحية ولديها القدرة على إعداد المتدربين. ومع تقاعد الفنانين الأكبر سنا ووفاة بعضهم، تواجه مسرحيات بكين لخيال الظل صعوبات شديدة في تطورها، على الرغم من جهود لو وزملائه في إدارتها، حيث لا تجد الفرقة مقرا لها منذ عام 1979، ولا يوجد مكان عرض ثابت لها، فضلا عن أنها مثقلة بأعباء الديون.

حاليا، يحاول السيد لو وزملاؤه التعاون مع أشكال الترفيه الأخرى التي يهتم بها الجمهور لترويج هذا الفن التقليدي. قال السيد لو: "فن خيال الظل في بكين، هو ثقافة فنية تقليدية للغاية. قد لا يعرف الكثير من الشباب ما هو، لذلك نتعاون مع شركات الألعاب والأفلام لنجعل هذا الفن المسرحي معروفا بشكل أفضل في الصين." وقالت تشن روي: "لا يزال الطريق وعرا، لكننا سنكتشف سبلا للمحافظة على هذا الفن وتطويره."