كلنا شرق < الرئيسية

نهضة الصين ودورها في النظام العالمي الجديد (1-2)

: مشاركة
2021-05-10 12:13:00 الصين اليوم:Source عادل عبد المهدي:Author

استخف كثيرون بما كتبه آلان بيرفيت "Alain Payrefitte" في سنة 1973 في مؤلفه ((عندما تستيقظ الصين سيرتجف العالم)). فالفقر يومها كان يعم الصين، وصعوباتها وتحدياتها كثيرة ومعقدة، وكانت نفسها من بلدان العالم الثالث. علما أن المقولة منسوبة أيضا لنابليون الأول في ((سانت هيلين)) عام 1816، بقوله: "اتركوا الصين نائمة، فالصين عندما تستيقظ سيرتجف العالم كله."

في عام 1972، كان معدل الدخل الفردي للصين بالأسعار الجارية 132 دولارا أمريكيا للفرد، ومرتبتها 114 عالميا، بينما كان في الولايات المتحدة الأمريكية 6094 دولارا أمريكيا للفرد، ومرتبتها الثانية. وفي عام 2019، بلغ معدل دخل الفرد في الصين 10410 دولارا أمريكيا، ومرتبتها 66 عالميا، وأصبح في الولايات المتحدة الأمريكية 65118 دولارا أمريكيا للفرد، متراجعة للمرتبة التاسعة. فارتفع المعدل في الصين خلال 47 عاما حوالي 77 مرة، بينما ارتفع في الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 10 مرات فقط للفترة ذاتها. وكان الناتج الوطني الإجمالي بالأسعار الجارية في الصين 688ر13 مليار دولار أمريكي في عام 1972 ومرتبتها السابعة عالميا، وجاءت الولايات المتحدة الأمريكية في المرتبة الأولى محققة 279ر1 تريليون دولار أمريكي. وفي عام 2019، صارت الصين الثانية عالميا ببلوغها 342ر14 تريليون دولار أمريكي، لتقترب من الولايات المتحدة الأمريكية والتي بقيت الأولى محققة 374ر21 تريليون دولار أمريكي. فارتفع الناتج الوطني الإجمالي خلال 47 عاما بمقدار 16 مرة تقريبا في الولايات المتحدة الأمريكية، وارتفع في الصين خلال نفس الفترة 126 مرة. وتشير التقديرات إلى أن الاقتصاد الصيني سيتجاوز نظيره الأمريكي في عام 2028، بدلا من عام 2033 كما كان يُقدر سابقا. وفي عام 2020، تقدمت الصين على الولايات المتحدة الأمريكية في حجم التجارة مع الاتحاد الأوروبي، إذ بلغ 586 مليار يورو، وهو أكثر بنحو 31 مليار يورو من حجم التجارة الأوروبية مع الولايات المتحدة الأمريكية، والذي بلغ 555 مليار يورو في نفس العام، حسب "يوروستات".

في الحقيقة، لم ولا يرتجف العالم لنهضة الصين، بل ارتجف ويرتجف من كان يأخذ وينهب من حقوق وحصص وإمكانيات وثروات الصين وبلدان العالم الثالث طوال قرون طويلة. يرتجف من يريد تجديد النظام الاستعماري الاستلابي بشكل أو بآخر. لهذا، عاد آلان بيرفيت ليكتب في سنة 1996 كتابه "الصين قد استيقظت"، مؤكداً إنجازاتها الكبرى.

الشعوب الآسيوية وشعوب العالم الثالث، بل شعوب العالم عموما تستبشر خيرا بنهضة الصين، لأنها ترى في نهضتها نهضة وفائدة لها. فإذا كانت الصين قد تمكنت من التخلص من استعمارها وتبعيتها وضعفها وفقرها، وتصبح أمة تمتلك تكنولوجيات متقدمة ومؤسسات علمية واقتصادية وإدارية عريقة تقدمت فيها على أكثر الدول تقدما، فلماذا لا تلهم هذه التجربة دول العالم الثالث الأخرى؟

لم تحقق الصين هذه النهضة باستعمار ونهب غيرها، ولم تسعَ لنقل أنماط عيشها وثقافاتها ونظمها ومعاييرها الخاصة، بل حققتها بجهدها الخاص أساسا، وبتعبئة قوى شعبها، وبرسم طريق متوازن لنهضتها، يجمع بين تراثها الفكري والتطبيقي من جهة وبين التعلم من التجارب العالمية خصوصا الغربية من جهة أخرى. فنسبة استثماراتها الخارجية في ناتجها الوطني الإجمالي كانت 09ر1% في عام 2019، وكان في عام 1993 صفرا، حسب "غلوبل إيكونومي". فإذا كانت الصين قادرة على ذلك وهي المطلوب منها إطعام وتعليم ورعاية حوالي خُمس سكان الأرض، فلماذا لا يستطيع غيرها تحقيق ذلك؟ فالبشرية سبق وألهمتها النهضة الغربية وحاولت الاستفادة والتعلم منها واقتباس الكثير من تجاربها. لكن، يبدو أن النهضة الغربية لازمها الكثير من الموروثات الاستعمارية والإمبريالية والاستعلائية والعنصرية، مما أغلق الباب على البشرية للاستفادة من هذه النهضة الهائلة كما يجب. بل تحولت النهضة الغربية- في حالات كثيرة- إلى غزوات وحروب وتهجير واستيطان ونهب وإفقار وحصار وعقوبات وإجراءات تمييزية مورست بحق الكثير من الأمم، مما قاد إلى تمزيق كل علاقاتها وروابطها التاريخية والمجتمعية دافعة بها لطرق تنموية محبوسة، وللانشغال بمعارك فيما بينها حسب الخرائط والمفاهيم المجتزأة التي غرستها الخرائط الاستعمارية، مما قسم العالم إلى شمال عصري متقدم، وجنوب فقير متخلف.

أدركت التجربة الصينية في فترة مبكرة الاختلافات بين الشعارات والواقع، وبين النظريات والتطبيق، فاختطت لنفسها طريقا خاصا. فسارت بتجربتها من الأرياف إلى المدن. وجعلت عمادها الفلاحين قبل العمال. ولم تدمر قديما لقدمه، ولم تستورد حديثا لحداثته، بل تبنت من القديم والحديث كل ما يساعدها وينفعها. وزاوجت بوعي بين الثقافة التقليدية والكونفوشية وخصوصية اشتراكيتها مع الثقافة الغربية، بما فيها ثقافة الأحزاب الاشتراكية والشيوعية الغربية. فقدمت نموذجا بديلا من خلال تجربة مريرة معمدة بالدماء والمعاناة والنجاحات والاخفاقات؛ نموذجا يعتمد على استنهاض قواها ويطور بناها التحتية والارتكازية، رابطا أرجاءها الواسعة بشبكة فعالة للمواصلات والاتصالات، ولتتبنى أنماط العمل ووسائل الإنتاج الأنسب لأوضاعها وقدراتها، ولتصبح بضائعها العالية الجودة والرخيصة الكلفة هي المدفعية الثقيلة التي تفكك بقايا النظام الاقطاعي أو الاستعماري القديم في الصين وفي العالم، وتعيد للشرق مكانته ودوره عبر تفوق وتقدم الأقدر وانتصار الأفضل عبر المنافسة المتكافئة، وليس عبر القسر والإخضاع أساسا.

نحو نظام عالمي جديد: التزاوج والتعايش والتنافس وليس الهيمنة هو الإطار والسبيل

لا بديل سوى تزاوج الغرب والشرق، من دون أي هيمنة أو سيطرة أو فرض قيم. النظام العالمي ليس نظاما شيوعيا أو رأسماليا أو إسلاميا أو مسيحيا أو يهوديا، أو غير ذلك. النظام العالمي هو الجميع بتلاوينهم. هو نظام بأنظمة متعددة، حواري بتنوعه، تضبطه معايير عادلة تمنح الفرصة لكل الشعوب والأمم. نظام عادل ومؤسسات شفافة، لا تقف خلفها محافل ومنتديات وتجمعات وشبكات سرية وشبه سرية هي التي تتحكم بقراراتها وسياساتها. تتحرك تحت لافتة "المجتمع الدولي"، الذي يمثل حاليا قرارات وسياسات عدد محدود من الدول ومجتمعاتها تسعى للتحكم بأغلبية الدول ومجتمعاتها، بيدها المال والقدرات ومفاتيح الأمور ووسائل الضغط والإعلام والتواصل الاجتماعي والمصارف والتحركات العسكرية والاستخباراتية. تعمل وفق مناهج غامضة، وخاصة على حساب المصالح والمنافع العامة. آن الأوان لتكون الحقوق والواجبات بين الأمم كحقوق وواجبات المواطنين- فقرائهم وأغنيائهم- في تساوي الفرص. نعم، هناك تاريخ يلقي بضلاله من عدم العدالة ويجعل عدم المساواة حاليا أمرا واقعيا. لكننا يجب أن نعمل للتخلص من ذلك الواقع الظالم اللامتكافىء لا تكريسه وشرعنته. فلا توجد بالمطلق أمة صالحة/ خيرة/ مسالمة، وأمة طالحة/ مارقة/ إرهابية. ولا جنس أو لون ملائكي وآخر شيطاني. الخير والشر تختزنه كل الشعوب والأمم. وعلى جميع الشعوب والأمم تشجيع الأول ومحاربة الثاني. فعندما تستولي أفكار وممارسات العدوان على بلد ما، فإن "النظام الدولي"، أو "المجتمع الدولي" يجب أن يكون قادرا على تعريف ذلك واتخاذ موقف موحد إزاءه بالمعايير العامة المتفق عليها، التي يمكن عبرها تعريف العدوان والإرهاب والظلم ومفاهيم الحرية والعبودية، عندها لا يمكن لدول وأمم محددة أن تنسب هذا الحق لنفسها باسم "المجتمع الدولي" وتحرمه على الآخرين. أمم لا يخلو تاريخها من تاريخ استعماري وعنصري وعدواني لم يتخلص جزء مهم منه من هذا التراث، أو ما زال قسم كبير منه يحلم للعودة إليه. وما مثال الاحتلال الاستيطاني لفلسطين والدعم الذي يحظى به من البعض إلا صورة من صور هذا الحنين. فالتاريخ أدان الاستعمار والاستيلاء على حقوق الآخرين، وأدانته الأمم المتحدة في ميثاقها في الفصل الحادي عشر والعديد من قراراتها التي تنص على أهمية حصول الدول تحت الاستعمار على استقلالها، لتحكم الشعوب نفسها بنفسها، وإدانة كل أشكال التمييز العنصري والاستيطان الاستعماري والإرهاب من الآخر وتجارة العبيد خصوصا عبر الأطلسي، والتعهد بمحو الاستعمار بكل أشكاله، وقيام الدولة المستعمِرة بالتعويض عن استعمارها، باعتبار ذلك جرائم ضد الإنسانية، إلخ، كما القرارات 1514، 2106، و119/65 للأعوام 1960، 1961 و2010 على التوالي.

شعوب الشرق والعالم الثالث مستبشرة خيرا بالنهضة الصينية وبمشروع "الحزام والطريق"

إن الفضاءات المشتركة هي كالأواني المستطرقة. عندما يتحقق تقدم في جزء فإن قانونه- ما لم يُحجز- سيساعد بقنوات وأشكال مختلفة على انتقال التقدم إلى الأقسام الأخرى لذلك الفضاء. فالغرب لم ينهض كله دفعة واحدة، بل نهضت فيه مناطق معينة وسحبت كامل فضائها معها. فـ"الحزام والطريق" ليس مشروعا جديدا للسيطرة على العالم، بل هو المشروع العالمي الذي انتظمت فيه علاقات القارات والشعوب قبل عصر الاستكشافات. إنه إحياء "طريق الحرير" الذي حاول الأوروبيون الالتفاف عليه، كما عكست ذلك حملة "كولومبس" نحو مصدر التوابل في الهند. صحيح أن إثبات كروية الأرض واكتشاف القارات الجديدة هو جزء من حركة الإنسانية والحضارة، لكن يجب عدم انكار أن العلوم ومصادر القوة الجديدة التي رافقت عصر التنوير والاستكشافات التي قدمت للبشرية منجزات عظمى من جانب قد استخدمت من جانب آخر لاستعمار العالم استعمارا حديثا لا يشبه أي غزو عرفته البشرية في تاريخها. يجب الاعتراف أن ما تحقق من تقدم في أطراف من المعمورة أو مجالات من الحياة كان على حساب تدمير أطراف أعظم ومجالات أخطر. وهو السبب الأساسي الذي تهيكل فيه العالم الجديد لشمال وجنوب، وغرب وشرق، ودول متقدمة وأخرى متخلفة، أو إلى تقدم القدرات البشرية قبال تفكيك التوازنات الحياتية والبيئية. فعودة "الحزام والطريق" أو "طريق الحرير" هي أيضا معالجة ما دُمر خلال القرون القليلة الماضية، حيث تقطعت أوصال الأمم والقارات وحلت فلسفة وحشية للحياة محورها الربحية والأنوية والملذات السريعة بدل الفلسفة المتوازنة التي تجمع بين الروح والمادة، والفرد والجماعة والإنسان والطبيعة وحقائق الخلق.

--

عادل عبد المهدي، رئيس وزراء العراق السابق.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4