كلنا شرق < الرئيسية

كيف كلّلت مصر تعاونها مع الصين ليصل إلى شراكة إستراتيجية شاملة؟

: مشاركة
2021-06-07 13:46:00 الصين اليوم:Source د. محمود المتيني:Author

لطالما كانت مصر تتبوَّأ مكانة عظيمة لدى الوضع العام للدبلوماسية الصينية، باعتبارها دولة محورية على طول الحزام والطريق، وما تؤديه من دور فعَّال في قارة أفريقيا والعالم العربي؛ بسبب موقعها الجغرافي المتميز، الأمر الذي وضع على عاتقها مسؤولية أن تكون دولة كبيرة من دول صُنع القرار فى المنطقة. وعلى الجانب الآخر، جمهورية الصين الشعبية باشتراكيتها ذات الخصائص الصينية، ونسيجها المختلف عن سائر الدول، تلك القوة التي أبت أن تكون ساكنة أو خاضعة لعوامل تؤثر في قيام نهضتها فاتَّخذت من سياسة الإصلاح والانفتاح طريقا لتنميتها ووصولها إلى القمة حتى أخذت البلدان كافة تعترف بأهمية وجودها في المجتمع الدولي والحوكمة العالمية.

وفي هذا العام تحتفل مصر والصين بالذكرى السنوية الخامسة والستين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وذلك في الوقت الذي تشهد العلاقات الثنائية بينهما عصرا ذهبيا في ضوء الصداقة المتميزة بين الرئيسين عبد الفتاح السيسي وشي جين بينغ. وشهدت العلاقات الصينية- المصرية تطورا ملموسا على جميع الأصعدة وفى كافة المجالات خلال السنوات الخمس والستين الماضية وأثبتت قدرتها على مواكبة التحولات الدولية والإقليمية والداخلية، وتجلّت مؤخرا في الزيارات المتبادلة بين زعماء الدولتين ومسؤوليهما. كما أن الزخم القوي للزيارات عالية المستوى بين مصر والصين يعكس الآفاق الواسعة للعلاقات الصينية- المصرية على مدار التاريخ.

وقد بدأت العلاقات الدبلوماسية بين مصر والصين فى 30 مايو عام 1956، بعد أن التقى كلٌ من الزعيم المصري جمال عبد الناصر ورئيس مجلس الدولة الصيني شو أن لاي في باندونغ في أثناء القمة الأفروآسيوية لبحث سبل التضامن والتعاون بينها في إبريل عام 1955. ثم أصدرت الحكومتان المصرية والصينية بيانا مشتركا حول إقامة العلاقات الدبلوماسية على مستوى السفراء بين البلدين، وهو ما مثّل انعطافا هاما في خريطة العلاقات الدولية بالنظر إلى مكانة البلدين؛ حيث بدأ البلدان في دعم بعضهما البعض على حد سواء، وكانت مصر من أوائل الدول التي أيَّدت بحماسة حق الصين في استعادة مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة وعبَّرت قيادة الثورة المصرية عن دهشتها لموقف الولايات المتحدة الأمريكية المُتجاهِل لجمهورية الصين الشعبية. وعقب قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في 26 يوليو عام 1956م بتأميم شركة قناة السويس وجعلها شركة مساهمة مصرية، لاقى هذا القرار تأييدا كبيرا من الصين حكومة وشعبا في 4 أغسطس عام 1956؛ حيث أوضح رئيس مجلس الدولة الصيني شو أن لاي دعم الصين لهذا القرار الذي اتَّخذته الحكومة المصرية من أجل حماية سيادة الدولة واستقلالها.

وفي فترة السبعينيات، بعد أن سحبت الصين سفراءها من منطقة الشرق الأوسط للمشاركة في الثورة الثقافية، آثرت أن تُبقي سفيرها لدى مصر تأكيدا منها على مكانة مصر وعلى الدور الذي تؤديه في السياسة الخارجية الصينية. وقد تجسَّدت هذه المكانة المتميزة لمصر من خلال الموقف الصيني من حرب أكتوبر 1973، فقد سارعت بإعلان تأييدها التام للجهود المصرية لاستعادة أراضيها المحتلة. وفي النصف الثاني من السبعينيات شهدت مصر والصين إصلاحا اقتصاديا من شأنه أن يغيِّر من ملامح الدولة وتحوّلهما إلى قوتين صاعدتين؛ حيث كرَّست مصر جهودها لإعادة البناء والتعمير وتعزيز القدرات الاقتصادية، وذلك منذ انتهاجها سياسة الانفتاح الاقتصادي عام 1974، ومن هنا بدأت مرحلة جديدة في تاريخ مصر. في الوقت الذي شهدت فيه الصين نقلة نوعية بتطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح، وهي السياسة التي انتهجتها لتنفيذ الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، بما تضمنته من الإصلاح الداخلي والانفتاح على العالم الخارجي. وفيما بعد تأكدت رؤى الصين في أن سياسة الإصلاح والانفتاح هي السبيل للحاق بركب العصر بخطى كبيرة وثابتة من خلال دعم وتطوير الاشتراكية ذات الخصائص الصينية.

واتَّسمت فترة الثمانينيات والتسعينيات بأنها فترة بالغة الأهمية لما شهدته من تبادلات تكثّفت على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية، مع تزايد حركة السفر والسياحة بين البلدين، على إثر الزيارات المتبادلة للوفود الرفيعة المستوى بين قادة الدولتين تأكيدا على أهمية التعاون والتضامن. وعلى صعيد الحوار الحضاري بين البلدين والشعبين استضافت القاهرة في شهر أكتوبر 1993 ندوة الحوار الصيني- العربي التي نظمتها اللجنة المصرية للتضامن الأفروآسيوي. وفي إبريل 1994 قام رئيس مصر حسني مبارك بزيارة إلى الصين.

ومع بداية القرن الحادي والعشرين ودخول حقبة جديدة من تطور العلاقات الصينية- المصرية، في يناير عام 2002، قام الرئيس مبارك بزيارة أخرى إلى الصين، أعلن خلالها عن إنشاء مجلس الأعمال المصري- الصيني المشترك؛ حيث شهد عام 2002 والنصف الأول من عام 2003 عددا من التطورات الإيجابية في مجال العلاقات المصرية- الصينية، تُوِّجت في نهاية شهر يناير من عام 2004 بزيارة الرئيس الصيني هو جين تاو إلى مصر. وخلال هذه الزيارة تم الاتفاق على تأسيس منتدى التعاون الصيني- العربي، الذي واصل مسيرته في تعزيز وتعميق التعاون والتبادلات بين الصين ومصر والعالم العربي كافة.

في عام 2014، قام الرئيس عبد الفتاح السيسي بزيارة إلى الصين تكللت بالنجاح في تطوير العلاقات لتصل إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية الشاملة، انطلاقا من الأهمية التي يوليها قادة الدولتين للعلاقات الثنائية. وتجلَّى اهتمام القيادة السياسية في الدولتين بتطوير العلاقات الثنائية بوضوح خلال السنوات الماضية؛ حيث حرص الرئيس شي على دعوة الرئيس السيسي لحضور القمم الدولية التي استضافتها الصين انطلاقا من تقدير الصين للمكانة الإقليمية والدولية التي تحظى بها مصر، وكذلك الاهتمام المصري بالعلاقات مع الصين في ظل اتجاه مصر نحو تعزيز علاقاتها مع القوى الهامة في شرقي آسيا، لا سيما الصين.

في أول قمة تجمع بين رئيسي الدولتين في عام 2014، رحَّب الرئيس السيسي بالمبادرة التي أطلقها الرئيس شي بإعادة إحياء طريق "الحرير البري والبحري". وخلال زيارة الرئيس السيسي إلى الصين في سبتمبر 2015 أثنى الرئيس الصيني على الخطوات العملية التي يتم اتخاذها على صعيد تعزيز التعاون الثنائي لا سيما فيما يتعلق بمشروعات الطاقة الإنتاجية، فضلا عن التنسيق الجاري بين البلدين في الشؤون الدولية بما يعكس حرصهما على تعميق العلاقات الإستراتيجية وتعزيز العلاقات الودية بينهما. كما رحَّب الرئيس السيسي بالاستثمارات الصينية في مصر واستعرض عددا من المشروعات التي يمكن أن يساهم فيها المستثمرون الصينيون، لاسيما في المنطقة الاقتصادية الخاصة لقناة السويس، والتي تتيح مشروعات واعدة في مختلف المجالات أمام المستثمرين الصينيين للانطلاق نحو الأسواق المجاورة لمصر سواء في المنطقة العربية أو القارة الأفريقية. وعقدت القمة الثالثة التي جمعت بين الرئيسين السيسي وشي في الفترة من العشرين إلى الثاني والعشرين من يناير 2016، وذلك خلال الزيارة التاريخية للرئيس الصيني شي جين بينغ إلى مصر في أول زيارة لرئيس صيني إلى القاهرة منذ 12 عاما، استجابة لدعوة من الرئيس السيسي. وخلال الزيارة حضر الرئيسان الاحتفالات المشتركة بمناسبة الذكرى السنوية الستين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وأعلنا تدشين "عام الثقافة الصينية" في مصر، و"عام الثقافة المصرية" في الصين. ثم عُقدت القمة الرابعة في هانغتشو بناء على دعوة الرئيس شي للرئيس السيسي للمشاركة في قمة مجموعة العشرين في سبتمبر 2016، ثمَّن خلالها الرئيس الصيني ما تشهده الشراكة الشاملة بين البلدين من تطور إيجابي على جميع الأصعدة؛ مشيرا إلى تزايد التعاون في المجالات الاقتصادية والثقافية والأمنية؛ فضلا عن تعزيز التواصل والتشاور بين الدولتين حول الموضوعات الإقليمية والدولية. وأعرب الرئيس السيسي عن تقديره لدعوة الرئيس الصيني لحضور قمة مجموعة العشرين وما تعكسه من عمق روابط الصداقة والشراكة القائمة بين البلدين، وعبر عن تطلُّعه إلى مواصلة تعزيز التعاون الثنائي مع الصين وتنميته على جميع الأصعدة، والاستفادة من التجربة الصينية الرائدة في عدد من المجالات. وكانت الزيارة الخامسة للرئيس السيسي إلى الصين في سبتمبر 2018 للمشاركة في قمة منتدى التعاون الصيني- الأفريقي. وشهدت الزيارة التوقيع على مشروعات مع شركات صينية باستثمارات بلغت نحو 18 مليار دولار أمريكي فيما تعمل نحو 1500 شركة صينية في مصر في العديد من المجالات الاستثمارية المتنوعة، ومن أبرزها قطاعات الصناعة والاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات وتطوير المناطق الاقتصادية، والتمويل، والمقاولات. وتعد الصين شريكا هاما في تأسيس مشروعات المقاولات في العاصمة الإدارية الجديدة. وختاما جاءت الزيارة السادسة للرئيس السيسي إلى بكين في أبريل 2019؛ حيث نظّمت الصين الدورة الثانية لمنتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي في العاصمة بكين، وذلك بمشاركة 37 رئيس دولة وحكومة، يتقدمهم الرئيس عبد الفتاح السيسي. وكانت زيارة الرئيس السيسي إلى الصين هي السادسة منذ توليه منصب الرئاسة عام 2014م، وهو ما يؤكد أن العلاقات الصينية- المصرية تتسم حاليا بالتميز، خاصة وأنه تم رفعها في السنوات الأخيرة إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية الشاملة انطلاقا من الأهمية التي توليها قيادة الدولتين للعلاقات الثنائية. في الوقت نفسه الذي ترى الصين فيه مصر دولة ذات نفوذ وثقل كبير في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.

وفي ظل الوباء الذي اجتاح العالم لم تَكُفَّ مصر والصين عن أن تبيّن أهمية المكانة والدور الذي يؤديه كل منهما على الساحة الدولية والإقليمية، وعلى إثر العلاقات الوطيدة بين البلدين حكومة وشعبا، سارعت مصر إلى إرسال المساعدات الطبية وعبّرت عن مساندة الصين ودعمها في مواجهة هذه الجائحة؛ حيث بعث الرئيس عبد الفتاح السيسي وزيرة الصحة على رأس وفد مُحمَّلة برسالة تضامن من الشعب المصري للشعب الصيني. ومن جانبه أشاد الرئيس السيسي بالنموذج الذي قدّمته الصين في كيفية التعامل مع هذه الأزمة. وتأكيدا على أهمية الصين بالنسبة للعلاقات الدبلوماسية المصرية، كان لإضاءة قلعة صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة ومُجمَّع معابد الكرنك بمحافظة الأقصر ومعبد فيلة بأسوان، بألوان علم الصين عظيم الأثر في الدعم المعنوي للشعب الصينى ومكافحته لهذا الوباء.

 وعلى إثر ذلك لم تنس الصين دعم مصر لها في بداية الجائحة، فسارعت بإرسال ثلاث شُحنات من المساعدات الطبية الوقائية لمكافحة فيروس كورونا الجديد (كوفيد- 19)، وذلك في إطار التعاون بين البلدين؛ حيث بلغ وزن الدفعتين الأولى والثانية أربعة أطنان من المستلزمات الطبية، أمّا الدفعة الثالثة فكانت تزن 30 طنا من المستلزمات الطبية الوقائية، وتتضمن مليون كمامة طبية، و150 ألف كمامة "N95"، و70 ألف مجموعة من الملابس الطبية الوقائية، و70 ألف قفاز طبي، بالإضافة إلى 70 ألف كاشف خاص بتحاليل فيروس كورونا الجديد، وألف جهاز قياس درجة حرارة. ومن منطلق إحساسنا بالمسؤولية وإيمانا بأهمية فكرة رابطة المصير المشترك للبشرية، سارعت مصر في مساندة الدول الأخرى في مواجهة الأزمة؛ حيث باتت طائرات القوات المسلحة المصرية المُحمَّلة بالمستلزمات الطبية تجوب أكثر الدول انتشارا للوباء، بداية بالصين والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا والسودان ثم الكونغو وزامبيا لتلعب دورها في دعم الدول الواقعة على طول الحزام والطريق دعما معنويا وعلميّا.

وهذا ما جعلنا نرى أن التعاون الثنائي بين الصين، ثانى أكبر اقتصاد فى العالم، ومصر في عصره الذهبي يخدم مصالح الطرفين في المقام الأول، ويسهم فى استقرار المنطقة ويعزز السلام والأمن الدوليين.

-

الأستاذ الدكتور محمود المتيني، رئيس جامعة عين شمس بمصر.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4