كلنا شرق < الرئيسية

الاقتصاد العالمي يتجه شرقا

: مشاركة
2022-08-17 11:13:00 الصين اليوم:Source عبد الحسين الهنين:Author

بتعبير رومانسي يصفُ الرئيس الصيني شي جين بينغ طبيعة التنوع في مسارات التنمية، في كلمته التي ألقاها أثناء انعقاد الدورة السادسة لمنتدى التعاون الصيني- العربي في يونيو عام 2014: "مثلما لا يمكن أن نطلب من جميع الأزهار أن تفوح بعبق زهرة البنفسج، لا يمكن أن نجبر الدول المتباينة في تقاليدها الثقافية ومعاناتها التاريخية وظروفها الواقعية على اتباع طريق واحد في التنمية."

وفي ذروة انتشار جائحة كوفيد- 19، بشّر هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكيّ الأسبق بولادة نظام عالمي جديد تتزعمه الصين، في حديثه لصحيفة ((وول ستريت جورنال)): "إنّ جائحة كوفيد- 19 ستغيّر النّظام العالميّ إلى الأبد، وبالتّالي فإنّ ذلك الوباء سيكون مؤشّرا لبداية حقبة عالميّة جديدة تنهي النّظام العالميّ الحاليّ وتؤسّس لمرحلة أخرى، وربّما قد حان الوقت لتتزعّم الصّين العالم بعد أن بدأت تباشير السّقوط الأمريكيّ تلوح في الأفق." الواضح أنها ليست تنبؤات، بل هي تقديرات واقعية تدرك أن نظاما دوليا جديدا متعدد الأقطاب بدأ يتشكل، وأن اغتنام الفرصة في التوقيت المناسب للالتحاق بهذا النظام أصبح من أولويات الكثير من الدول، مثلما أشار الرئيس الصيني قبل أيام حينما استضاف قمة بريكس الرابعة عشرة، بالقول: "من يغتنم الفرص الجديدة للتنمية الاقتصادية مثل البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، يواكب تيار العصر. ومن يحاول تشويش التنمية المدفوعة بالابتكار للدول الأخرى باستغلال الوسائل في مجال التكنولوجيا بما فيها الاحتكار والحصار ووضع الحواجز، من أجل المحافظة على هيمنته، سيجد طريقه مسدودا." قد تكون جائحة كوفيد- 19 عاملا منشطا ومسرعا لحقيقة تاريخية تحدث بشكل انسيابي وتمثل التطور الطبيعي لحياة الأمم وتراجع حضارات وصعود تيارات جديدة، لا سيما الأمم التي تمثل الحضارات القديمة بعدما أزالت عنها عوامل الكسل والاستسلام، بل استحضرت تاريخها وعوامل النجاح والنهوض المتمثلة في قواها البشرية الهائلة وأسواقها الكبيرة ومساحاتها الواسعة لتقومَ بخطوتها المتمثلة في تشكيل نظامها العالمي الجديد، الذي يبشر بعملة جديدة منافسة ومناظرة للدولار الأمريكي، كعملة مرجعية في الأسواق العالمية.

 مجموعة دول بريكس (BRICS) أحد الأمثلة المهمة في عملية التحول العالمي، فهي تضمّ الاقتصادات الأسرع نموا في العالم، متمثلة في روسيا والصين إلى جانب البرازيل والهند وجنوب أفريقيا ودول نامية أخرى ترغب في الانضمام مثل الأوروغواي وإيران والأرجنتين ومصر وغينيا وتايلاند، وعدد من دول الاتحاد السوفيتي السابق وغيرها. وتُظهر الدول الخمس التي تشكل هيكل بريكس نواياها بشكل صريح من أنها تعمل على تشكيل نظام دولي جديد، يؤمن بالتعددية ورفض التفرد في صنع القرارات السياسية والاقتصادية، وهي لا تُخفي أهدافها السياسية المتمثلة في استقطاب القوى الدولية الرافضة للنظام الدولي الحالي. تعترف هذه المجموعة بعوامل ضعفها المتمثلة في العلاقة الوثيقة لبعض أعضائها مع الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها تعتبرها تحديا يمكن التغلب عليه مع مرور الزمن، عبر توفر عوامل القوة الكبيرة، مثل حصتها من احتياطيات العملة الأجنبية؛ فأربع دول منها (الصين، البرازيل، الهند، جنوب أفريقيا) تحتفظ بنحو 40% من مجموع احتياطيات العالم النقدية، بينما تملك الصين وحدها حوالي 4ر2 تريليون دولار أمريكي، وهو رقم كبير جدا، إذا عرفنا أنه يكفي لشراء ثلثي شركات مؤشر ناسداك (Nasdaq)، وهي ثاني أكبر دائن للولايات المتحدة الأمريكية بعد اليابان. أما روسيا فتصنف معركتها مع الغرب بـ"المعركة الوجودية"، وتعتبر أن عضويتها في هذه المجموعة يمثل حماية لها، ويدعم توجهاتها الإستراتيجية واختياراتها الخاصة في رسم مبدأ عالمي جديد يركز على أن جميع الطرق لم تعد تؤدي إلى واشنطن وحدها.

يمكن ملاحظة العمل الجدي لمجموعة "بريكس" من خلال تشكيل مجموعة من المؤسسات المالية المهمة، مثل تأسيس بنك التنمية الجديد- ومقره شانغهاي- ليصبح نظيرا ومنافسا للبنك الدولي، كذلك تأسيس صندوق بريكس، مقابل صندوق النقد الدّولي. هاتان المؤسستان المهمتان أعلنتا عن أهدافهما في دعم النّمو والتّنمية على المستوى الدولي، مما يمثّل الخطوة الأولى في مخطّط دول بريكس لخلق نظام عالمي جديد، ولتحرير العالم من قيود المؤسستين الماليتين (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) اللتين تتحكم بهما الولايات المتحدة الأمريكية في رسم سياستهما العامة، بما يخدم مصالحها كما يتهمها خصومها.

شخصيا، أعتقدُ أن ردة الفعل التي أقدمت عليها مجموعة السبع الصناعية في قمتها الأخيرة قبل أيام، (مقاطعة بافاريا- ألمانيا/ 26 يونيو 2022)، لن تكون كافية لمواجهة جبهة الشرق وطريق الحرير الجديد، ويمكن تصنيف قرارها في استثمار 600 مليار دولار أمريكي لإنشاء البنى التحتية في الدول النامية ما هو إلا تقليد لما فعلته الصين في أرجاء مختلفة من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بل هو محاولة لمزاحمة الصين على استثماراتها الكبيرة في الدولة النامية، ضمن مبادرة "الحزام والطريق"، ما يجعلنا نعتقد أن الغرب -والولايات المتحدة الأمريكية تحديدا- يتحرك دون خطط، وأن الكلام الشائع في الشرق الأوسط ـوالعراق تحديداـ عن أن أي حركة أو فعل في الكوكب لا يتم إلا بخطة أمريكية محكمة ما هو إلا محض هراء. فالمعالجات الغربية قد تعطل هذا التحوّل العالمي الكبير، لكنها لن تتمكن من إيقاف حركة التاريخ، وقد لا ننتظر طويلا لنرى خلال عقد من الزمان أن العالم يتجه شرقا.

من العوامل المهمة التي تسرع من ظهور النظام الجديد، الطبيعة النفعية للمؤسّسات الأمريكيّة الاقتصاديّة نفسها؛ حيث يُتوقع أن تتبع مصالحها وتلتحق بالنظام الجديد، فهي ببساطة لن تكون أكثر وطنيّة من المؤسّسات الاقتصاديّة الأوروبيّة التي هجرت أوروبا وغادرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، عندما اقتضت مصالحها ذلك، حينما برزت الولايات المتحدة الأمريكية كقوة متفردة في العالم على المستوى المالي، وقد نشهد انتقال رأس المال الأمريكيّ إلى الصين وحلفائها بشكل أسرع من المتوقع، وحينذاك سيكون البنك والصّندوق الدّوليان الجديدان أكثر جذبا لرأس المال الدّوليّ، مما يسهم في زيادة القدرة التّنافسيّة المتصاعدة لأسواق دول "بريكس" في اجتذاب رؤوس الأموال العالميّة، وهذا سيساعد المجموعة في التغلب على نقاط الضّعف المتفاوتة بين دولها، المتمثلة في معدلات الفقر وعدم المساواة، إضافة إلى البعد الجغرافيّ بين هذه الدول ووجود تيّارات أيديولوجية ذات صبغة تنافسيّة حادة، كما هو الحال بين روسيا والصين.

العراق، كدولة نامية ومهمة لكلا طرفي الصراع العالمي بسبب مركزه في الشرق الأوسط وامتلاكه أهم عناصر الصراع المتمثل في الطاقة، يستطيع أن يعمل على جذب كلا الطرفين للتنافس في استثمارات تعود بالفائدة على شعب العراق، وتوفر فرصا مهمة في بناء البنى التحتية التي تشكّلُ أساسا لتلك الاستثمارات الغربية والشرقية على حد سواء، لكن عليه أن يختار التيارات الصاعدة حينما يكون في موضع الاختيار.

--

عبد الحسين الهنين، مستشار رئيس وزراء العراق.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4