كلنا شرق < الرئيسية

شعور ينمو كسياج

: مشاركة
2023-01-06 15:00:00 الصين اليوم:Source مي عاشور:Author

الكتابة بالنسبة لي حيز زمني ومكاني، يتسع لما أود قوله ويُنسج في خاطري. أردت أن أكتب بعض السطور، لأدوّن فيها لمحات من ذكرياتي مع المركز الثقافي الصيني بالقاهرة. عندما يقطع الزمن مسافة أطول، أعود لألقي نظرة على ما تركه في الماضي، فأرى وقتا وذكريات مضيا وصارا بعيدين عن الحاضر الذي نعيشه، وتفصلهم عني سنوات. في التاسع والعشرين من شهر أكتوبر سنة 2022، احتفل المركز الثقافي الصيني بالقاهرة بالذكرى السنوية العشرين لتأسيسه. استوقفني الرقم، والذي يعادل وقتا ليس بقليل، مر تباعا، متدفقا، وكان مرتبطا ببداية دراستي للغة الصينية، واتصالي بثقافتها وفنونها وآدابها، وحتى عملي فيما بعد. وحينها جال بخاطري سؤال: كيف يمكن أن تمر الأعوام بسرعة، لدرجة أننا عندما نرى عدد السنين التي مضت، نتأملها، ثم نلتفت إلى الوراء وندقق النظر، فنرى بعض التفاصيل لازالت باقية بارزة مثل حبات حجر نادر في تلألؤه.

لم أذهب إلى المركز الثقافي الصيني بالقاهرة بدافع الدراسة بشكل رئيسي، ولكن لاقتناعي بأن الاقتراب من الثقافة جزء مهم من فهم اللغة، وأنها مفتاح لا غنى عنه لفهم الشعوب والتواصل معها، وتقدير اختلافها، واحترامه. إن هذا الكون ضخم، نتأمله بالسعي نحوه لاكتشافه، وذلك يكون عن طريق المعرفة، والاطلاع، والتواصل قبل كل شيء.

المرات الأولى قد تكون خطوة مهمة لرحلة طويلة، باب جديد في حياة المرء، وشغف ينمو، فيتحول إلى حب سرمدي. وربما تكون المرات الأولى أيضا رؤية مبهمة، أو شعورا أو حدسا ما... فقد تتجسد في صور شتى.

لكنني، لا زلت أتذكر المرة الأولى التي ذهبت باحثة عن المركز الثقافي الصيني، بعد التحاقي مباشرة بقسم اللغة الصينية وآدابها في جامعة القاهرة. يحضر في ذهني، إلى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا النص، صورة الشارع الهادىء الممتد، وخطواتي التي تحركها حماسة اكتشاف شيء جديد، والذي لم أكن أعرف بتاتا أنه سيكون مجرى جديدا ينساب في حياتي.

التذكر دائما يبدأ بصورة تومض من حيث لا ندري في العقل، ثم تتبعها عدة صور، تنهال بلا توقف. تذكرت المرة الأولى لذهابي إلى المركز الثقافي الصيني، وتبعتها مرات أولى أخرى، من ذكرياتي فيه: أول كلمة تعلمتها في اللغة الصينية، ومحاولة محادثة شخص صيني، وعدم فهمه لي. والمرة الأولى التي شاهدت فيها فيلما صينيا- كان يعرض كل يوم أربعاء في مسرح المركز تقريبا- والمرة الأولى التي ذهبت فيها إلى مكتبة المركز وتصفحت كتابا صينيا، وحاولت العثور على رموز أعرفها ودرستها في الجامعة توا، والمرة الأولى التي صعدت فيها على مسرح المركز، كنت طالبة بالفرقة الأولى؛ وقفت لإلقاء قصة، مازلت أتذكر الرهبة التي فاضت بداخلي، عند لحظة الوقوف هناك، تماما كما أتذكر عنوان تلك القصة التي لم أكن أفهم معظم رموزها حينذاك. حاولت إخفاء تهدج صوتي، وارتباكي، ورغبتي الشديدة في الانسحاب للخلاص من ذلك، ولكن بعدها فهمت أن كل التجارب الجديدة مخيفة ومربكة، لأننا لا نألفها ولا نمسك بخيوط نتائجها، بل وأن كل تجربة تترك آثرها، تقدم  شيئا ما لنا وحدنا- حتى لو لم تكن الأنجح- والأهم أنها تصنع إدراكا، وتكون شرطا لتشكله. ولم يغب عن أذني، لحن الأغنية الصينية الأولى التي غنيتها، في مسابقة "كأس السفير الصيني للأغنية الصينية"، والمقال الأول الذي كتبته، وحاولت حفظه، ونسياني لبعض من جمله، ولا يمكنني أن أنسى أبدا المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى الصين، عن طريق المركز.

ولا أنسى كل الورش الفنية، والمحاضارات والندوات والمعارض المختلفة، التي اشتركت فيها في المركز، التي أذابت حواجز فهم الثقافة الصينية. أتذكر أول ندوة حضرتها هناك، وأول تجربة لتقديم افتتاح معرض للتصوير الفوتوغرافي. فكل هذه المرات- الأولى- حملت مشاعر مختلطة لا يمكن الفصل بينها، وكأن مزيجها هو تركيبة فريدة وخاصة.

قد تكون كل هذه المرات الأولى، سلسلة طويلة جدا، شكلت تجربتي وعلاقتي باللغة الصينية وألوانها من ثقافة وفنون. والتي بدراستها بدأت نبتة صغيرة لأحلامي تنمو، ظننتها زهرة أحادية، ولكن مع الوقت اكتشفت أنها مثل شجرة متفرعة لأزهار البرقوق، فكل مرحلة من المراحل، كانت تتفتح زهور لأمنية أو حلم، فمنها الذي تلاشى، ومنها ما تحقق، ومنها ما جمده الواقع، ومنها ما لم أتركه ليذهب مع تيار جارف، ومنها ما راقبته، منذ لحظة تفتحه الأولى، حتى لمسته بيدي.

بمراحل دراستي وما تلاها من مراحل، أدركت أن الإحباط يمكنه أن يصيب أي شخص، ولكن تكرار المحاولة هو الملاذ الوحيد لكسر حصاره، وأن كل صعوبة تذوب حتما أمام الإصرار على تخطيها، وأن الأشياء لا تستمر طويلا إلا بوجود شغف، فلو كان حقيقيا، سيتقد أكثر، حتى ولو خمد لوقت. وفهمت أن التعلم لن يخلو من إخفاقات وأخطاء، لأنها السبيل لتعلم حقيقي، وأن تعلم اللغة هو رحلة مستمرة لا خط نهاية لها. وطالما كان المركز الثقافي الصيني بوابة بالنسبة لي، عبرت منها إلى عالم الثقافة الصينية، أضاف لي الكثير من التجارب والمعرفة، والتي أعترف أنني لا زلت أخطو لاكتساب المزيد منها. فهناك تشرفت بمعرفة العديد من الأصدقاء الصينيين والمصريين، والفنانين والأدباء والأساتذة.

فإن لم يكن في الصور، ففي الذاكرة، أرى أطيافا مبهجة لأوقات مع زملائي وأصدقائي هناك.

أنا أحب هذا المكان، وأوقن تماما أن حب الأمكنة وغيرها من الأشياء لا يقترن أبدا بجمالها، بل على الأرجح يتعلق بالتجارب، والذكريات، والخطوات، والزمن، هو شعور ينمو ببطء كسياج من الأشجار، يحتاج إلى وقت، ولكن في مرحلة ما يصير راسخا، فيندمج مع المكان ويصير جزءا منه.

--

مي عاشور، مترجمة وكاتبة من مصر.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4