أخبار < الرئيسية

المصير المشترك.. تساؤلات حول الفكرة المتراجعة

: مشاركة
2022-12-19 11:52:00 الصين اليوم:Source د. محمد حسين أبو العلا:Author

ظلت البشرية وطيلة تاريخها تواجه مشكلات حادة وأزمات طاحنة ومحنا ومعضلات ومآزق وتحديات على كافة الأصعدة سياسيا وإستراتيجيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، وبالطبع لم يجتمع كل ذلك في حقبة وإنما تنقل بين الأشواط الزمنية والدورات الحضارية، وقد تعددت أسس وطرائق التعامل مع كل ذلك حتى أنها قد بلغت في أحيان حد التناقض، لكن القاسم المشترك بينها هو مدى التأثير والفاعلية في تحديد وتحجيم طوفان المعوقات التي تجر المسيرة نحو الوراء وقد نجحت كيانات وفشلت أخرى، لكنها في كل الأحوال قد قدمت تجارب حيوية على درجة من الخصوبة بحيث أصبحت تمثل أدبيات ومرجعيات يمكن استذكارها والوعي بها اعتبارا، لكنها ربما لا تمثل مسارا حتميا أو قدوة تاريخية نترسم خطاها. لماذا؟

لأن البشرية لم تدخل بالفعل مرحلة جديدة من التاريخ وإنما قد دخلت تاريخا جديدا ذا طابع نوعي، ومن ثم فهو منبت الصلة إلى حد بعيد بالكثير من ميراث الماضي.. نعم مرحلة من تاريخ جديد لها معطياتها وظرفياتها ومنطقها وآلياتها ومفاهيمها ونمط تفكيرها وطبيعتها الحضارية، حتى أنها تكاد تكون كينونة تاريخية خاصة لها مفرداتها الإيجابية المتفردة، لكنها تواجه في ذات الآن تحديات غير مسبوقة تكاد تسحقها وتستأصلها، وهنا تتجلى التناقضية الصارخة التي تنتج كل معاني الذهول والحيرة والتخبط، إذ كيف تصبح تحديات التقدم هي مشكلات على درجة من التعقيد والاستحالة التي تؤشر بالفشل في اجتيازها أو حتى السيطرة عليها وتطويقها؟ وهو ما قد حرك وأثار في عقول فلاسفة الحضارة مفهومات عن الإنسانية المتوعكة أو البؤس الحضاري وغياب المعنى والاكتئاب الذهني وسطوة الإحباط التاريخي وصدارة غيوم المستقبل. وعلى ذلك، ما الذي يمكن أن يطرحه وجود كم هائل من التحديات الحضارية التي لا يقوى كيان وحده مهما بلغت ثرواته المادية والمعرفية وإمكاناته الإستراتيجية على التصدي لها وتفكيكها وإذابتها؟ وهل يتم التعويل على تجميد هذه التحديات أم أنها تشهد انفلاتا لا يسمح بتجميدها؟ وما هي طبيعة التفكير الابتكاري والإبداعي الذي يمكن توظيفه لتقليص حدة هذه التحديات؟ وهل بات الخلاص من تلك التحديات يمثل إشكالية حادة للمجتمع الإنساني يحال تجاوزها؟ أم أن محاولات إقتحامها والتأثير فيها يمكن أن تكون ذات نتائج براغماتية تتسق مع اللحظة المعاصرة؟ وهل لطوفان التقدم التقني- بإيقاعه المتسارع- والذي أفرز هذه التحديات أن تمتد مسيرته إليها حتى لا يظل تقدما منقوصا يسجل بؤرة قاتمة في وجه الحضارة المعاصرة؟

وعلى ذلك تتجلى إشكالية المأزق الكوني في مسيرة المعاناة بين الاستمرارية على نحو مرفوض يدفع نحو استحالة الحلول ويهدد بفناء الكوكب الأرضي وبين البحث الدؤوب نحو تغيير المعطيات وإمكانية النجاة خلال قفزات رائدة يمثلها ذلك التعاون والتضامن المشترك الذي هو الطريق الأصوب نحو التفاعل وتأكيد الإحساس بالمسؤولية الكونية تجاوزا لاحتدامات وشيكة قد تنسف أواصر الرابطة الإنسانية وتحيلها إلى رماد تاريخي. من ثم فإن قضية المصير المشترك لا بد لها أن تتبوأ مكان الصدارة على مائدة الحوار العالمي لأنها بالضرورة تعد القضية المركزية الأولى في المحيط البشري، بل إنها رسالة العصر والعصور القادمة، لأنها وطبقا للعديد من المتغيرات قد خرجت من كونها فكرة منطقية موضوعية حتمية إلى كونها إستراتيجية ذات خصائص وتوجهات.

وبصفة عامة إذا كانت التحديات مشتركة بالطبع يكون المصير مشتركا، وإذا لم يكن هناك بديل للكوكب الأرضي فإن قضية المصير المشترك تعد القضية الأشد وطأة والأكثر إلحاحا على قادة المجتمع الدولي، وكذلك إذا لم يكن التاريخ يمثل قاسما مشتركا بين الأمم والشعوب بحكم خصوصيته فإن الواقع المعاصر يمثل نسقا خاصا ومنظومية خاصة تتشابك كافة أبعادها عنوة، من ثم فإن قضية المصير المشترك تصبح من البداهات العقلية التي ليست في حاجة للبرهنة والاستدلال.

ولقد كانت الصين دون غيرها هي البادئة في إطلاق صيحات الإنقاذ وتعزيز الوعي بالإحتماء بفكرة المصير المشترك من تلك الأهوال المستقبلية التي تلوح في الأفق نذرها مخيمة على الوضع البشري. وذلك خلال تلك الموسوعة الفخيمة للرئيس الصيني شي جين بينغ والمعنونة ((حول الحكم والإدارة)) والتي تزخر بالعديد من التقارير والخطب والأحاديث والتعليقات وما ينطوي عليه كل ذلك من تفسيرات مستحدثة وتحليلات عميقة وأفكار رائدة وتوجهات باعثة على النهضة والاستنارة وسط تلاطم موجات الظلام المحدقة بالجنس البشري على كليته. وقد جاءت هذه الموسوعة مصنفة بدقة شديدة لتناقش محاور عدة منها ما يرتبط بسياسات وإستراتيجيات الداخل الصيني ومنها ما يرتبط بالمحيط الدولي متضمنة قضايا كبرى ذات حساسية مفرطة منها: الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والحضارة الإيكولوجية والفقر ومنظومة الحوكمة والاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الحديث وطبيعة المخاطر المستقبلية.

ومن هنا كان اختيارنا لمناقشة المحور السابع عشر الخاص بنداءات الرئيس الصيني للشعوب والحكومات وهو ما يعني ربط مستقبل ومصير كل أمة وكل بلد ربطا وثيقا للسعي نحو بناء الكوكب ليصبح عائلة متناغمة يتحول فيها تطلع الشعوب في مختلف بلدان العالم إلى حياة سعيدة تصبح هي الحقيقة الواقعية المأمولة، إذ لا يمكن بناء أمن دولة واحدة على انعدام الأمن في بلدان أخرى، إذ المنطقي أن تتحول التهديدات التي تواجهها تلك البلدان لتحديات لبلداننا، من ثم يجب تبني مفهوم جديد للأمن المشترك والشامل والمستدام أيضا، بمعنى أن يكون هناك هيكل أمني منصف ومفيد للجميع تزول معه الأسباب الجذرية للحروب. وهنا تتجلى قضية الكوكب المتداعي المتهاوي وضرورة الدعوة لمفهوم حداثي للأمن باعتباره ركيزة محورية للاستقرار الدولي وليس مفهوما وحشيا بربريا تحصد الدول من جرائره تقلبات وحروبا باردة وساخنة ومقاطعة ونزاعات حدودية وخلافات وتهديدا وتآمرا ولجوءا لسبل تفاوضية غير ذات أمد وغير ذات جدوى في الكثير من مساراتها.

ثم يعرج الحديث نحو أخطر مشكلات العالم المعاصر وهي مشكلة الفقر والعوز والحاجة والتي يمثل وجودها في اللحظة الراهنة تناقضية حادة في ظل استحواذ شركات عملاقة على حركة الاقتصاد العالمي، إذ تتجاوز رؤوس أموالها إمكانيات دول بأكملها بما يجعل تبعية السياسة للاقتصاد، ذلك باستحواذ نسب ضئيلة من البشر على ثروات هائلة بينما تعيش أغلب الشرائح البشرية على أدنى معدلات الثروة، ومن ذلك انطلقت دعوة الرئيس الصيني للمطالبة بعالم خال من الفقر يسوده الرخاء المشترك بنسف الفجوة الهائلة بين الشمال والجنوب وبتفكيك مشكلات التنمية غير المتوازنة وتشجيع العولمة الاقتصادية المنفتحة والشاملة والمتوازنة بمعنى ضرورة تهيئة الظروف المؤاتية للتنمية المشتركة سعيا لبناء عالم منفتح وشامل غير منغلق، ذلك اقتداء ببعض الأدبيات الصينية المؤكدة لتلك القيم والدافعة نحو فكرة أن تنمو المخلوقات معا دون أن يؤذي بعضها البعض.

وفي هذا الإطار أيضا كانت الانطلاقة الفكرية نحو إعادة صياغة مفهوم التعايش والاحتواء بين الإنسان والطبيعة هو الموجه لمقولات الرئيس الصيني نحو المطالبة بالحرص على البيئة الإيكولوجية والاستمساك بأسباب تعافيها وتوقير الطبيعة واحترامها ومسايرة دوراتها وحمايتها لأن الكرة الأرضية هي الديار المشتركة وأيضا هي الديار التي لا بديل لها. وإذا كان بناء مجتمع المصير المشترك للبشرية هو عملية تاريخية ومن المستحيل أن ينجز دفعة واحدة فلا أقل من بناء منظومة الحوكمة العالمية التي تدفع بالنظام السياسي والاقتصادي الدولي ليتطور في اتجاه أكثر عدلا وإنصافا ومنطقية.

ويعبر الرئيس الصيني إلى حديث يسوقه للعالم خلال التجسيد المباشر والاستدلال الواقعي على ممارسات منظمة شانغهاي للتعاون، باعتبارها نموذجا حضاريا، إذ يشيد بضرورة تعظيم ونشر "روح شانغهاي" تلك الداعمة لخلق الثقة والمنفعة المتبادلة والمساواة والتشاور واحترام الحضارات والسعي لتحقيق التنمية المشتركة وتجاوز المفاهيم العتيقة والدعوة لتعزيز تطور النظام الدولي نحو اتجاه أكثر عدلا وعقلانية، إذ أصبح إضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات الدولية اتجاها عصريا في ظل سياسة نزعة الهيمنة وسياسات القوة وتوظيف عقلية الحرب وممارسة لعبة المحصلة الصفرية وظهور العديد من التهديدات التقليدية وغير التقليدية.

وانطلاقا من أن تكون تعددية الحضارات قوة دافعة يقدم الرئيس الصيني إستراتيجية ثقافية تسمح بتهذيب النوازع الشريرة ووضع الآخر داخل خريطة الذات خلال تكريس منظومة جديدة من المفاهيم الإيجابية التي تتسق وأخلاقية الحضارة منها:

· مفهوم التنمية المتمثل في الإبتكار والتناسق والخضرة والانفتاح والاستفادة المشتركة، وتحقق التقدم الاقتصادي والاجتماعي المتناسق للبلدان المختلفة، وحل المشكلات الناجمة عن عدم توازن التنمية، وتضييق فجوة التنمية، وتعزيز الازدهار المشترك.

· مفهوم الأمن المتمثل في الاشتراك والشمول والتعاون والاستدامة، ونبذ عقلية الحرب الباردة والمجابهة الجماعية، وتعارض ممارسة التضحية بأمن الدول الأخرى في مقابل أمن الذات المطلق، وتحقق الأمن العام.

·مفهوم التعاون المتمثل في الانفتاح والترابط والمنفعة المتبادلة والفوز المشترك، ورفض السياسات الضيقة المتمثلة في الأنانية وقصر النظر والانغلاق، وحماية قواعد منظمة التجارة العالمية، ودعم النظام التجاري المتعدد الأطراف، وإنشاء اقتصاد عالمي منفتحً.

·مفهوم الحضارة المتسم بالمساواة والتعلم والاستفادة المتبادلين والحوار والشمول، لتجاوز التبادل بين الحضارات الجفاء بين الحضارات، ولتجاوز التعلم والاستفادة المتبادلان تصادم الحضارات، ولتجاوز التعايش بين الحضارات التفوق الحضاري.

·مفهوم الحوكمة العالمية المتسم بالتشاور والتشارك والتنافع، لنصلح ونكمل ونحسن منظومة الحوكمة العالمية بإستمرار، وندفع مختلف البلدان لتبني مجتمع المصير المشترك للبشرية يدا بيد.

  إطلالة أخرى يؤكد فيها الرئيس الصيني على وجوب لعب دور حيوي من قبل دول بريكس في بناء مجتمع المصير المشترك، فرغم التزام الدول الخمس الأعضاء (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا)  بروح بريكس تلك المتمثلة في الانفتاح والشمول وتعميق التعاون العملي في مختلف المجالات ومد جسور التضامن والثقة المتبادلة وتوثيق روابط المصالح والإسهام في استقرار وانتعاش الاقتصاد العالمي، يواجه العالم تغيرات غير مسبوقة منذ نحو مائة عام، لكن لديه فرص وتحديات غير مسبوقة أيضا، وعلى ذلك يقدم الرئيس الصيني رؤية استشرافية للعقد القادم تستدعي التأمل نظرا لما تشتمل عليه من تفصيلات وأبعاد ترتبط بمتغيرات مركزية في حركة السياسية والاقتصاد والإستراتيجية والإدارة، وقد تبلورت هذه الرؤية على نحو أن يكون العقد القادم عقدا مهما ستحل فيه القوة المحركة الجديدة محل القوة المحركة القديمة للاقتصاد العالمي، إذ تتجمع القوة في جولة جديدة من الثورة العلمية والتكنولوجية والتحول الصناعى تتمثل في الذكاء الإصطناعي والبيانات الكبيرة والمعلومات الكمية والتكنولوجيا الحيوية، ويولد ذلك عددا كبيرا من الصناعات والأشكال والأنماط الجديدة، ويجلب تغيرات للتنمية العالمية والإنتاج للبشرية، ويهيئ الفرصة الهامة لتمكين دول الأسواق الناشئة والدول النامية من تحقيق قفزة في التنمية.  سيكون عقدا من التحول المتسارع للتشكيلة الدولية والمقارنة بين القوى المختلفة، فقد بلغت نسبة مساهمة دول الأسواق الناشئة والدول النامية في نمو الاقتصاد العالمي 80%، وبناء على حساب سعر الصرف، يحتل إجمالى حجم الاقتصاد لهذه الدول قرابة 40% من إجمالى حجم الاقتصاد العالمي، وبالمحافظة على سرعة التنمية الراهنة، سيقترب حجم اقتصادها من نصف إجمالى حجم الاقتصاد العالمي إذ أن تيار النهضة الجماعية لدول الأسواق الناشئة والدول النامية لا يقاوم، وهذا سيجعل خارطة التنمية العالمية أكثر شمولا وتوازنا، وسيجعل أساس السلام العالمي أكثر صلابة. أن يكون العقد القادم عقدا لإعادة التشكيل العميق لمنظومة الحوكمة العالمية، تتقدم فيه التعددية القطبية العالمية والعولمة الاقتصادية إلى الأمام في الطريق المتعرج، حيث تتعاقب القضايا الجيوسياسية الساخنة، ولم يتبدد ضباب الإرهاب والاشتباكات المسلحة، وتشتد الأحادية والحمائية أكثر فأكثر، وتتعرض تعددية الأطراف والنظام التجارى المتعدد الأطراف لضربات شديدة، وقد وصل المجتمع الدولي إلى مفترق طرق مرة أخرى في إختياره لما إذا كان للتعاون أو للمجابهة، وللانفتاح أو للإنغلاق، وللمنفعة المتبادلة والفوز المشترك أو لصرف مياه الفيضان إلى حقل الجار، واتجاه منظومة الحوكمة العالمية يهم حيز تنمية مختلف الدول وخاصة دول الأسواق الناشئة والدول النامية، وكذلك يهم ازدهار وإستقرار العالم بأسره.

وعلى كل ذلك وأيضا على الفكرة الراسخة بأن العالم قد وصل إلى نقطة تقاطع تاريخية مع الثورة العلمية والتكنولوجية، فإنه لابد أن توفر أجندة التنمية المستدامة لعام 2030 خطة عمل شاملة للمجتمع الدولي، ينبغى لدول بريكس، استنادا إلى الظروف الوطنية الخاصة، ربط الأجندة بإستراتيجيات التنمية الوطنية الخاصة بكل منها ربطا وثيقا، والتمسك باتخاذ الشعب كالمركز، والتخطيط الموحد للتنمية الاقتصادية والإجتماعية والبيئية، وتعزيز شعور عامة الناس بالكسب والسعادة بلا إنقطاع، إذ ينبغي الإلتزام بالتعايش المتناغم بين الإنسان والطبيعة، ودفع المجتمع الدولي ليطبق "اتفاق باريس" على نحو شامل، وتسريع إنشاء منظومة إيكولوجية تحترم الطبيعة وتحرص على التنمية الخضراء، ومن الضرورى تعزيز التعاون الإنمائي الدولي بنشاط، وحث البلدان المتقدمة على الوفاء بتعهداتها الرسمية بشأن المساعدة الإنمائية، وزيادة دعمها للدول النامية الغفيرة.

وفي إطار العديد من الحيثيات والشرطيات كان التوجه الصيني مع القارة الأفريقية هو أولى الممارسات الحيوية نحو بناء مجتمع المصير المشترك والتي انبثقت عن الحكمة الصينية القديمة القائلة بأن البحر لا يرفض الماء ولو كان قطرة واحدة. ولقد تعددت المحفزات نحو مجتمع المصير المشترك بين الصين وأفريقيا باعتبار الأولى هي أكبر دولة نامية في العالم والثانية يجتمع فيها أكبر عدد للدول النامية، من ثم يتحتم تواصل إستراتيجيات التنمية بين الصين وأفريقيا خلال توسيع دوائر الحوار السياسي والتواصل السياساتى على كافة الأصعدة تطويرا لخطط التعاون العشر الكبرى التي طبقتها الصين منذ قمة "جوهانسبرغ" عام 2015.

إذ تم بناء دفعة كبيرة من مشروعات البنية التحتية مثل السكك الحديدية والطرق العامة والمطارات والموانئ ومناطق التعاون الاقتصادي والتجارى على التوالي وبعضها قيد البناء، ويتقدم التعاون بين الصين وأفريقيا بعمق في مجال السلم والأمن والعلوم والتعليم والثقافة والصحة وتخفيف حدة الفقر وإفادة الناس والتبادلات غير الحكومية، وقد تم تقديم أو ترتيب 60 مليار دولار أمريكى من الدعم المالي الذي تعهدت به الصين، وعلى ذلك فقد حققت "خطط التعاون العشر الكبرى" نتائج مثمرة للشعب الصيني والشعوب الأفريقية، وأظهرت القوة الإبداعية وقوة التماسك وقوة التنفيذ المشتركة التي تتحلى بها الصين وأفريقيا، ودفعت الشراكة الإستراتيجية الشاملة إلى مستوى جديد بنجاح. ولم يكن ذلك إلا لتعزيز التبادل والتعلم والتواصل والتعايش بين الحضارات الصينية والأفريقية وتقديم زخم دائم للنهضة الحضارية والإرتقاء الثقافي فنا وأدبا.

ترى ماذا لو صارت التكتلات العالمية وحدة واحدة لها خصوصية ذاتية لا تمنعها من الإندماج مع الكينونة البشرية؟ وماذا لو تم تسييس المصالح نسبيا بشكل يجنب الصدام ويسيد لغة إنسانية مشتركة.

وحول منع تكرار المآسى التاريخية يطرح الرئيس الصيني تساؤلات ملحة ذات مصداقية وعلى درجة عظمى من الموضوعية، وهي تساؤلات لا تحاول الكثير من الكيانات أن تواجه أو تقف أمام مغزاها ودلالاتها على غرار: كيف يمكننا السير نحو الاتجاه الصحيح للتنمية الاقتصادية العالمية؟ وكيف يمكننا إيجاد فكرة الحوكمة الفعالة للمجتمع الدولي؟ وعلى ذلك يقدم إجابات يمكن اعتمادها كورقة عمل دولية أو وثيقة معاصرة تفتح أفقا جديدا يمكن الكثير من الكيانات لتجاوز المآزق المستحكمة والتي باتت تمثل قلقا إنسانيا بسبب التنافس المحموم والصراعات الحادة المؤذنة بنشوب حروب تجارية لا تسمح على أى نحو من الأنحاء باستقرار حركة الاقتصاد الدولي، ومن هذه الإجابات:

·التمسك باتخاذ الانفتاح كموجه، وتوسيع مجال التنمية: إذ أن العولمة الاقتصادية هي الطريق الحتمي لتطور المجتمع البشري، وقد حقق النظام التجاري المتعدد الأطراف فرصا مشتركة لجميع البلدان اليوم، من ثم يصبح الاعتماد المتبادل بين البلدان المختلفة وثيقا يوما بعد يوم، وترتبط سلسلة التوريد والسلسلة الصناعية وسلسلة القيمة في العالم كله ارتباطا وثيقا، ويعتبر كل بلد حلقة في سلسلة التعاون العالمية، فيتشكل مجتمع المصلحة المشتركة ومجتمع المصير المشترك مع مرور الأيام.. هذه حتمية قررها القانون الاقتصادي.

·التمسك باتخاذ التنمية كموجه، وزيادة رفاه الناس.. فينبغي أن نضع رفاه الناس في المقام الأول حيث تتمتع كل البلدان في العالم بحقوق التنمية المتساوية، ولا يملك أحد الحق في منع سعي شعوب الدول النامية وراء حياة أفضل ولا يمكنه عرقلة هذا السعي، ينبغي أن نعمل على تعزيز التنمية والتعاون ونساعد الدول النامية في القضاء على الفقر، حتى تعيش الشعوب في جميع الدول حياة أفضل، وإن هذا أكبر إنصاف بالذات، بل إنه مسؤولية أخلاقية للمجتمع الدولي.

·التمسك باتخاذ الشمول كموجه وتعزيز التمازج والتعلم المتبادلين.. نحن نعيش على كوكب فيه أكثر من 200 دولة ومنطقة، وأكثر من 2500 قومية، وأكثر من 7 مليارات نسمة، فمن المستحيل أن يجري كل شيء وفقا لأسلوب واحد بدون اختلافات، يجب ألا تكون هذه الاختلافات عائقا أمام التبادلات، ولا سببا للمجابهات. يوفر التنوع والتبادل والتعلم المتبادل بين مختلف الحضارات والأنظمة الإجتماعية والطرق قوة محركة جبارة لتقدم المجتمع البشري.

·التمسك باتخاذ الإبتكار كموجه، واكتشاف مصادر النمو. في الوقت الحاضر وتتحقق اختراقات واحدة تلو الأخرى في مجالات رائدة مثل تكنولوجيا المعلومات وعلوم الحياة والتصنيع الذكي والطاقة الخضراء.

ولعل كل هذه الإجابات إنما تدفع بالطبع نحو الانطلاق لمسار واحد هو تعزيز التنمية الشاملة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بحيث تقيم شراكة إنمائية عالمية تتسم بالمساواة والتوازن وتحرك الدول المتقدمة نحو الوفاء بتعهداتها الرسمية بشأن المساعدة الإنمائية دعما للدول الفقيرة، إذ أصبحت العلاقات بين الإنصاف والفاعلية على مستوى رأس المال، العمل، التكنولوجيا، التوظيف موضوعا مشتركا للمجتمع الدولي إذا لم يتم التعامل معه بشكل منطقي يغلب عليه البعد الإنساني فستتسع الفجوة بين الشمال والجنوب، وهو ما ينتج مخاطر جمة قد لا يمكن محوها أو السيطرة عليها.

وبصفة عامة وخلال عبور صفحات موسوعة الحكم والإدارة، يعتمد الرئيس الصيني في كلماته وأحاديثه وخطبة ومحاضراته عن قضايا السلام والتنمية بكل تشعباتها على كل ما أملته حركة التاريخ وطبائع الحضارات من أسس ومعايير ونظريات واعتبارات ومبادىء لتحصين العلاقات الدولية واستقامتها من الصراعات الجيوسياسية وبث الثقة الإستراتيجية بما يتسق وطبيعة الوضع الإنساني المعاصر والمستوجب لأن يعايش البشر سعادة في رخاء واستقرار وقناعة، لا لسبب غير أنهم وجدوا في عصر له سمات غير مسبوقة، ولكن أبرز الثوابت تشير إلى أن الحضارات المختلفة يجب أن تنمو وتتعايش بشكل متناغم يكمل بعضها البعض لتقديم قوة روحية داعمة للبشرية، ذلك بجانب إسقاط الحواجز الثقافية ومقاومة الخطايا الأيديولوجية المعيقة للتفاعل والانصهار، فالتعددية الحضارية تعد بالطبع قوة دافعة للتقدم البشري.

وفي هذا الإطار قدم الرئيس الصيني نموذج وتجربة الكتلة الآسيوية من خلال فعاليات مؤتمر الحوار بين الحضارات الآسيوية والذي كان مجرد لافتة عابرة وإشارة قوية لاجتذاب الكتلة الغربية نحو معان التآخى والتضامن والتآزر والوحدة الإنسانية، ذلك باعتبار أن الحضارات الآسيوية قد سجلت فصلا مبهرا في تاريخ تطور الحضارة العالمية، وأصبحت الحضارة البشرية أكثر روعة ورونقا بفضل آسيا. من الدين إلى الفلسفة، ومن الأخلاق إلى القانون، ومن الأدب إلى الرسم، ومن المسرحية إلى الموسيقى، ومن المدن إلى الأرياف، شكلت آسيا مجموعة العادات والآداب التي تغطي مجالات واسعة، وألفت أعمالا عظيمة خالدة متوارثة منذ ألف سنة، وخلقت كنوزا فنية رائعة، وشكلت مجموعات متنوعة من الإنجازات المؤسسية، مما زود العالم بالخيارات الحضارية الوافرة.

فآسيا هي واحدة من أوائل المستوطنات للبشر ومهد هام للحضارة البشرية. فهي شاسعة الأراضى وغنية بالموارد الطبيعية والجبال والأنهار الجميلة، على ثلث أراضى العالم يعيش ثلثا سكان العالم في 47 دولة وأكثر من 1000 قومية منذ آلاف السنين قبل الميلاد.

وخلال آلاف السنين من التطور حققت الشعوب الآسيوية إنجازات حضارية رائعة مثل الكلاسكيات الشهيرة (كتاب الآغانى)، (كتاب الحوار)، (ألف ليلة وليلة)، (ريغفيدا)، (قصة غنيجي) بجانب الاختراعات مثل الكتابة المسمارية والزجاج والأرقام العربية وصناعة الورق وتقنية الطباعة والبنايات العظيمة مثل سور الصين العظيم والمسجد الحرام بمكة ومقبرة تاج محل وأنغكور وات، كلها كنوز ثمينة للحضارة البشرية والحضارات المختلفة تضيف إلى بعضها البعض رونقا وجمالا على هذه الأرض التي سجلت ملحمة لتطور الحضارات الآسيوية.

وعلى ذلك فإن مقومات القارة الآسيوية إنما تعنى الكثير والكثير وأن الكيانات الكبرى لابد لها أن تتحسب طويلا أمام المعطيات التاريخية والتي تتقدمها تلك الإرادة القومية التي ظلت لواء الدولة الصينية، حتى أنها قد حققت بمنجزها الجبار غيرة حضارية لدى الآخر، لكن هذه الغيرة قد تحولت إلى سحب عدائية بدلا من أن تعزز ثقتها الذاتية وبدلا من أن تصبح ظهيرا حضاريا لأنها بالطبع لا تعي: أنه عبر التاريخ تستلزم توطيد الأساس الإنساني في المقام الأول، وأن المسؤولية الكونية تستلزم الحكمة والرشادة ومراعاة الآخر وأن الإنسلاخ من التجارب لا يمنح ريادة، وأن الاعتبار بالماضي لا يمثل سلاحا مضادا للحداثة، وأن الرؤية الحضارية تحتم استحضار فكرة مجتمع المصير المشترك، وأن التخلي عن أداء الأدوار هو جريمة في حق الذات، وأن مكامن القوة محلها العقل وليس ساحة الترسانات النووية وأن أفول الحضارات أو زوالها يعد دلالة قاطعة على عجز السيطرة على الزمن، وأن البدائل عديدة ومتعددة ودائما ما تسحق الأحادية، وأن النظرة إلى العالم كيف كان وماذا أصبح وإلى ما يصير يعد أهم الثوابت.. وتلك هي القضية!!  

--

د. محمد حسين أبو العلا، كاتب وأستاذ علم الإجتماع السياسي- مصر.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4