جولة دنغ شياو بينغ الجنوبية وأثرها عربيا

 في يناير 1992، قام السيد دنغ شياو بينغ بجولة في مدينة شنتشن بمقاطعة قوانغدونغ

 

   في السودان، محطة توليد الكهرباء بسد مروي الذي بنته الشركات الصينية  

 بناء توسيع ميناء نواكشوط في موريتانيا

 

جولة دنغ شياو بينغ الجنوبية وأثرها عربيا

 

                                                 حسين إسماعيل

 

عندما وصلت إلى بكين في أواخر شهر سبتمبر سنة ألف وتسعمائة واثنتين وتسعين ميلادية، بدا لي أن شيئا من القلق يعتري الصينيين، كمن يقف في مفترق طرق، أو من يسبح في بحر وسط أمواج متلاطمة. كان العالم يمر بواحدة من أخطر مراحل تحوله في التاريخ، وكانت الصين كذلك. كان آخر زعيم للاتحاد السوفيتي، السيد ميخائيل غورباتشوف قد أعلن في الخامس والعشرين من ديسمبر سنة 1991، قبل وصولي إلى بكين بتسعة شهور، استقالته من منصبه كرئيس لاتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، ليضع بذلك آخر مسمار في نعش الدولة التي حكمها حزب شيوعي عتيد لمدة أربع وسبعين سنة؛ الدولة العظمى التي قادت المعسكر الاشتراكي في مواجهة المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت إحدى قوتين عظميين، وأحد طرفي ما كان يُسمى بالقطبية الثانية.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تحولت أنظار العالم، وخاصة الغربي، نحو الصين؛ الدولة التي يحكمها حزب شيوعي أيضا، والتي تتبنى منذ سنة 1978 سياسة الإصلاح الاقتصادي والانفتاح على العالم الخارجي. كانت تجربة برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي أطلقه غورباتشوف، المعروف باسم "البيروسترويكا" (إعادة البناء) وسياسة "الغلاسنوست" (الشفافية) التي رافقته هما الحاضرتان في أذهان الساسة والمحللين والاقتصاديين في كافة أرجاء الأرض. لقد أدت البيروسترويكا والغلاسنوست إلى انهيار الاتحاد السوفيتي، فهل تواصل الصين، الشيوعية، سياسة الإصلاح والانفتاح؟ كان السؤال مبررا ومقلقاً.

كان الصينيون في الداخل، وخاصة في المناطق التي فُتحت للاستثمار الأجنبي، وكانت دوائر الأعمال في الخارج، وخاصة التي دخلت السوق الصينية بالفعل والتي تستعد لدخولها، في حاجة إلى "رسالة تطمين".

بعد أربعة عشر يوما فقط من استقالة غورباتشوف، كان زعيم الصين، مهندس سياسة الإصلاح والانفتاح دنغ شياو بينغ، في طريقه إلى واحدة من أهم وأخطر الرحلات التي عرفها تاريخ الصين الحديث، والتي لا تقل في تقديري عن المسيرة الطويلة للجيش الأحمر الشيوعي، والتي قادها ماو تسي تونغ من مقاطعة جيانغشي في سنة 1934ووصلت إلى يانآن في سنة 1935. ربما الفرق بين الاثنتين هو أن المسيرة الطويلة التي خطط لها وقادها السيد ماو كانت انسحابا تكتيكيا في مواجهة عدو داخلي؛ الكومينتانغ، بينما كانت جولة السيد دنغ الجنوبية هجوما استراتيجيا استهدف القلق وعدم اليقين في الداخل والخارج.

في السابع عشر من يناير سنة 1992، انطلق من بكين قطار إلى الجنوب. كان يستقل القطار دنغ شياو بينغ، الذي جاوز الثمانين سنة بثماني سنوات، وزوجته وابنته، ورئيس الصين الأسبق يانغ شانغ كون. في اليوم التالي، الثامن عشر من يناير، وصل القطار إلى ووتشانغ في مقاطعة هوبي، في مستهل جولة دنغ إلى الجنوب والتي شملت أيضا شنتشن وتشوهاي في مقاطعة قوانغدونغ، وشانغهاي. خلال هذه الجولة التي استمرت أربعة وأربعين يوما ألقى السيد دنغ عدة خطابات مثلت العُمد الأساسية لما عُرِف فيما بعد بـ"نظرية دنغ شياو بينغ". كانت الرسالة المشتركة في كلمات السيد دنغ في جنوبي الصين هي أن الثورة والإصلاح هدفهما تحرير قوى الإنتاج، وأن التخطيط وقوى السوق ليسا بالضرورة اختلافا جوهريا بين الاشتراكية والرأسمالية. قدمت كلمات السيد دنغ إجابات للعديد من الأسئلة ذات العلاقة بنظريات ومفاهيم سياسية كان الجدل حولها ساخنا، مما لعب دورا هاما في إرشاد الصين على طريق تسريع الإصلاح والانفتاح ومسيرة التحديثات الاشتراكية.

وإذا كانت كلمات دنغ في رحلة الجنوب أطفأت إلى حد كبير نيران الجدل المشتعلة في داخل الصين، فإنها أزالت أيضا كثيرا من الشكوك وكشفت للعالم كثيرا من ملامح معالم طريق مستقبل الصين.

خلال جولته انتقد السيد دنغ أولئك الذين كانوا يضمرون شكوكا حول سياسة الإصلاح والانفتاح، وأكد على أهمية التنمية الاقتصادية. حث دنغ في خطاباته الصينيين على تحرير عقولهم وعلى التحلي بالجرأة وعلى التطور أسرع من ذي قبل في انفتاحهم على العالم الخارجي، فيما سُمي بالحملة الثانية لتحرير العقول. قدم السيد دنغ حلولا للمعضلات الفكرية الرئيسية التي واجهت الصينيين في تلك الفترة، وخاصة بشأن العلاقة بين الاشتراكية واقتصاد السوق. قال إن اقتصاد السوق ليس صنوا للرأسمالية وإن الاشتراكية لها أيضا سوقها، فخرج تعبير "اقتصاد السوق الاشتراكي". وكان لأحاديث دنغ التي أعادت الإصلاحات الصينية إلى مسارها، مغزى تاريخي وأهمية بالغة للتنمية الاقتصادية في الصين وفي العالم.

وقد يبدو غريبا، للبعض، أن نتحدث عن تأثير الجولة الجنوبية لدنغ شياو بينغ على المنطقة العربية، ولكن من يظنون ذلك إما أنهم لا يرون إلا الغرب الأمريكي والأوروبي، ولا يسمعون إلا منه، برغم حقيقة أن شمس الشرق كانت تلوح في الأفق قادمة من جهة الصين، وإما أنهم يعتبرون المنطقة العربية جزيرة منعزلة عما يحدث في العالم، برغم أن حقائق الجغرافيا والتاريخ تقول غير ذلك، فالمنطقة العربية تقع في قلب العالم.  الحديث، إذاً، عن تأثير تلك الجولة على نظرة الصين للمنطقة العربية، وتوجه الدول العربية وشعوبها نحو الصين، سياسيا واقتصاديا وثقافيا حديث له مغزى في وقت تتجه فيه الصين إلى بؤر الأحداث الكبرى في العالم، وفي المنطقة العربية، وفي وقت تشرأب فيه الأعناق الغربية نحو الصين طالبة دعمها ومعونتها لإقالة الغرب من عثراته الاقتصادية بعد الأزمة المالية التي بدأت في سنة 2008، وما تلاها من ركود اقتصادي عالمي.

من العبارات الشهيرة التي قالها السيد دنغ خلال جولته الجنوبية، والتي علقت عليها وأبرزتها كثير من وسائل الإعلام الصينية، قوله في شهر يناير 1992 : "الشرق الأوسط فيه النفط، والصين فيها الأتربة النادرة". والشرق الأوسط الذي تحدث عنه السيد دنغ يقصد به رئيسيا المنطقة العربية. كان النفط، إذاً، حاضرا في ذهن قائد الصين العظيم، معتبرا إياه موردا مهما، تماما مثلما يمكن أن تكون الأتربة النادرة موردا مهما للصين. لاحقا، بدا أن النفط العربي يقود علاقات الصين مع المنطقة العربية، وخاصة مع دول الخليج، قبل أن تتنوع تلك العلاقات وتتشعب وتتعمق إلى مستويات جديدة، بات النفط أحد أعمدتها.

ومن المهم أن نشير هنا إلى أنه بعد سنة واحدة من جولة دنغ الجنوبية، صارت الصين دولة مستوردة للنفط، وكان من الضروري لها أن تدعم علاقاتها مع دول الخليج العربية في مجال النفط والصناعة البتروكيماوية. وكان من ثمار ذلك أن وفدا من رجال الأعمال السعوديين برئاسة وزير التجارة السعودي جاء إلى الصين في شهر مارس سنة 1994 لفتح السوق الصينية للمنتجات البتروكيماوية السعودية.

لقد كان لجولة السيد دنغ في جنوبي الصين أثر عالمي بالغ الأهمية على المستويين السياسي والاقتصادي، حيث بدا الانتباه إلى ما سُمي لاحقا بالصعود الصيني. ولم تكن الدول العربية بعيدة عن تأكيد الصين على مضيها قدما على طريق الإصلاح والانفتاح. لقد شهدت العلاقات الصينية- العربية، في الفترة التي تلت الجولة الجنوبية تطورا كبيرا، سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وهو تطور تعبر عنه حقائق وأرقام تلك العلاقات في السنوات التالية.

على المستوى السياسي، كانت الدول العربية في طليعة دول العالم التي سعت إلى مقاومة العزلة التي حاول الغرب فرضها على الصين بعد أحداث ميدان تيان آن من سنة 1989، فبعد تلك الأحداث وجهت كل من مصر ودولة الإمارات والكويت وسلطنة عمان دعوات لرئيس الصين، آنذاك، يانغ شانغ كون لزيارتها.

صحيح أن العلاقات السياسية بين الصين والدول العربية علاقات طيبة دائما، ولكنها لم تكن في حقبة ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي، على نفس المستوى الذي كانت عليه في نهاية الخمسينيات والستينيات؛ فترة الزخم الثوري في المنطقة العربية. في بداية تسعينات القرن العشرين، ظلت صورة الصين التي روج لها الغرب- الدولة المنغلقة العقائدية الشيوعية- غالبة في الذهن العربي، وجاء الانهيار السريع للاتحاد السوفيتي برهانا آخر، للبعض، على فشل الأنظمة الاشتراكية. لهذا، كان لجولة السيد دنغ الجنوبية والتي فتح خلالها نوافذ أخرى للفكر الاشتراكي، وساهم بإبداعات نظرية هزت أركان الجمود العقائدي، أثرها على العلاقات السياسية الصينية- العربية. وبدا، بعد الجولة الجنوبية للسيد دنغ أن الصين تدشن حملة دبلوماسية لتوثيق علاقاتها أكثر مع الدول العربية، تجلت معالمها في حرص رئيس مجلس الدولة الصيني آنذاك، السيد لي بنغ، في الرابع والعشرين من أغسطس عام 1992، على لقاء سفير مصر لدى الصين، بمناسبة انتهاء عمله في الصين، وهو أمر قليلا ما يحدث في الأعراف الدبلوماسية. وفي الرابع والعشرين من مايو سنة 1993، وقعت جمهورية الصين الشعبية وجامعة الدول العربية اتفاقية لإنشاء بعثة دبلوماسية للجامعة في بكين. وقد تطور التعاون السياسي الصيني- العربي إلى مرحلة الشراكة وذلك بإنشاء منتدى التعاون الصيني- العربي في الرابع عشر من سبتمبر سنة 2004. وتطور التعاون والتنسيق السياسي بين الصين وعدد من الدول العربية الرئيسية إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية. وقد جاء القرار العربي رقم 5809، الذي أصدره مجلس جامعة الدول العربية في سبتمبر سنة 1998، لأول مرة في تاريخ جامعة العرب، بشأن العلاقات العربية- الصينية، معبرا عن الرؤية العربية للصين في الفترة التي أعقبت جولة دنغ الجنوبية، فقد نص القرار على دعوة الدول الأعضاء إلى تطوير علاقاتها مع جمهورية الصين الشعبية على المستوى الحكومي وعلى المستوى الشعبي، بما يحقق المصالح المشتركة للطرفين ودعم الوجود العربي على مختلف المستويات في الصين. وتنشيط التشاورالسياسي بين الأمانة العامة للجامعة ووزارة الخارجية الصينية عن طريق تنظيم لقاءات دورية سنوية أو أكثر عند الحاجة، ثم دعوة المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي إلى إعداد دراسة شاملة عن سبل تطوير العلاقات الاقتصادية العربية- الصينية في القرن الحادي والعشرين. ودعوة المنظمات العربية المتخصصة، كل في مجاله، إلى إعداد دراسات حول سبل تعزيز العلاقات العربية- الصينية، ودعوة المؤسسات والهيئات غير الحكومية إلى توثيق علاقاتها بمثيلاتها في جمهورية الصين الشعبية.

على المستوى الاقتصادي، كان تأثير جولة الجنوب لدنغ شياو بينغ أكثر بروزا، فقد بدا أن الصين تفتح أبوابها للاستثمار الأجنبي في وقت كانت فوائض رأس المال العربي، وخاصة البترودولار، تسعى لتنويع مقاصد استثماراتها. كما أن الشركات ودوائر الأعمال الصينية بدأت تنطلق إلى الخارج، ومع التضييق الغربي على الصين، وعدم وجود فرص في أسواق أوروبا الشرقية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية في ذلك الوقت، كانت المنطقة العربية اختيارا مثاليا لها. في سنة 1992، تقدمت الشركة الصينية لبناء المشروعات البتروكيماوية لمناقصة لتنفيذ إعادة بناء مصفاة النفط الكويتية، وفازت بالمناقصة ونفذت المشروع. وتوالى دخول الشركات والاستثمارات الصينية إلى المنطقة العربية ، حتى وصل حجم أعمالها إلى أكثر من عشرة مليارات دولار أمريكي في سنة 2010. وبعد عام 1992 بدأ دخول الاستثمارات العربية إلى الصين، كما زاد تدفق الاستثمارات الصينية إلى المنطقة العربية حتى بلغ الحجم التراكمي لها 15 مليار دولار أمريكي في سنة 2010، فيما وصل حجم استثمارات الشركات العربية في الصين إلى مليارين وستمائة مليون دولار أمريكي. وشهد التبادل التبادل التجاري الصيني- العربي، والتعاون في مجال المقاولات والمشروعات خلال العشرين سنة الأخيرة، منذ جولة دنغ الجنوبية، نموا بمعدلات غير مسبوقة في تاريخ علاقات الجانبين. وقراءة أرقام التبادل التجاري بين الصين والدول العربية خلال السنوات العشرين الماضية تكشف عن التحول الذي شهدته العلاقات الاقتصادية بين الجانبين منذ سنة 1992 التي سجل حجم التبادل التجاري بين الطرفين خلالها مليارين وأربعمائة وعشرين مليون دولار أمريكي فقط، زاد أكثر من الضعف في سنة 1995 ووصل إلى 28ر5 مليارات دولار أمريكي، ثم وصل إلى نحو 37 مليار دولار أمريكي في سنة  2004 وإلى 27ر51 مليار دولار أمريكي في سنة 2005، وقفز إلى 47و65 مليار دولار أمريكي في سنة 2006، ثم حقق قفزة أخرى بوصوله إلى نحو مائة وتسعين مليار دولار أمريكي في سنة 2011.

لقد كانت جولة دنغ شياو بينغ الجنوبية بمثابة الضوء الأخضر للصينيين بمواصلة الخروج إلى العالم الخارجي، وللعالم كله للاستمرار في القدوم إلى الصين. كانت تأكيدا بأن الصين مستعدة للانخراط في حركة العالم الخارجي وأنها مؤهلة لمشاركة العالم في بنائها الاقتصادي. ولم يكن العرب بمعزل عن كل ذلك.