الدليل الطاوي لصحة البدن والنفس
الطاوية أحد أهم أعمدة الفكر الصيني، وظل تأثيرها في حياة الصينيين بكافة جوانبها ممتدا حتى يومنا هذا.
تقوم المدرسة الطاوية في الفكر على مفهوم الطاو، أي السراط أو الطريق. أسس الطاوية المفكر الصيني لاو دان الذي اشتهر لاحقا باسم لاو تسي (570- 470 ق.م). وطور هذا الفكر الفيلسوف الصيني تشوانغ تسي (369 -286 ق.م). ولم تذكر المصادر التاريخية تاريخ ميلاد ووفاة لاو تسي الذي ظهر قبل كونفوشيوس بفترة قليلة في مملكة تشو في أواخر عصر الربيع والخريف (770 -476 ق.م). كان لاو تسي مسؤولا عن إدارة الكتب والمحفوظات لأسرة تشو الملكية، وكان ذا معرفة واسعة. ويقال إن كونفوشيوس زاره في شبابه ليتعلم منه الطقوس والشعائر وقواعد الأدب لأسرة تشو. ومع اضمحلال الأوضاع في بلاط تشو قرر لاو تسي مغادرة العاصمة لويانغ، وعندما وصل إلى ممر هانقو كان قد أتم كتابه "الأخلاق". الفترة التالية لذلك تبدو المصادر الصينية فيها مضطربة، فيذكر بعضها أنه خرج من الممر على ظهر بقرة خضراء ولم يعلم له أحد وجهة، وقال البعض إنه عاش ستين عاما في حين ذهب آخرون إلى أنه عاش مائتي عام.
شرح لاو تسي في كتاب الأخلاق قوانين التحول، فكل شيء قابل للتغير من النقيض إلى النقيض. وتعارض الطاوية الأحكام الصارمة وتدعو إلى أن يساير كل شيء الطبيعة. غايتها السياسية هي أن تكون أفكار الإنسان بسيطة ويعيش حياة بسيطة، تدعو إلى العودة إلى الطبيعة وتؤكد على الحرية الشخصية المطلقة. وكانت أفكار الطاوية جزءا مكملا للكونفوشية، وتأثر المثقفون الصينيون بدعوتها إلى العودة إلى الطبيعة كثيرا، فكانوا يلوذون بالأنهار والجبال إذا لم تتحقق طموحاتهم السياسية. وتؤكد الطاوية على القيم الفردية وعلى مكان الفرد في المجتمع، ولهذا فإن إدوارد هـ. كرين، مؤسس ورئيس مؤسسة كاتو Cato الأمريكية لبحوث السياسات، يعتبر لاو تسي هو أحد أهم دعاة المجتمع المدني في تاريخ العالم. ويستشهد العالم الأمريكي الذي أنشأ مؤسسته عام 1977 وأخذ اسمها من رسائل كاتو، التي وضعت الأسس الفلسفية للثورة الأمريكية، بتعاليم لاو تسي باعتبارها أسسا فلسفية صلبة للمجتمع المدني، حيث قال فيلسوف الطاوية الصيني في كتابه "طاو ده جينغ" (الأخلاق)، دع القانون يصبح الناس أمناء مخلصين، دع الاقتصاد يصبح الناس في رخاء، دع الدين يصير الناس ساكنين هادئين، دع الرغبات لكل الخير العام يصبح الخير مثل العشب." وقال أيضا: "عندما تكون الضرائب عالية يجوع الشعب، وعندما تتدخل الحكومة يفقد الشعب روحه. اعمل من أجل مصلحة الشعب، ثق بهم واتركهم وحالهم كثيرا". لقد تحدث لاو تسي عن تفوق المجتمع المدني على المجتمع السياسي.
كانت فترة أسرة هان الأخيرة، فترة حروب طويلة وأمراض متفشية. وقد أدى الفوران الاجتماعي بمثقفي ذلك الزمان إلى طرح مزيد من الأسئلة العميقة حول معنى الحياة والوجود. وكان النظام الإقطاعي في حالة من الاضطراب، مما أدى إلى ضعف النظام الأخلاقي الكونفوشي الهرمي، ونتيجة لهذه الظروف، أصبحت الفلسفة الطاوية، بتأكيدها على الأخلاق الفردية، أكثر تأثيرا. وفي زمن أسرة جينغ الإمبراطورية (266 إلى420م) كانت الطاوية تطرح نفسها على نحو متزايد كبديل قوي للكونفوشية، وفي فترة وي- جين (220-420م)، بلغت الطاوية أوج ازدهارها في المجتمع الصيني.
على الرغم من أن أصول الطاوية ترجع إلى نفس الفترة من التاريخ الصيني مثل الكونفوشية، فإن الفلسفتين تختلفان كثيرا. وكانت أفكار الطاوية حول الصحة والحياة أكثر تأثيرا في الطب التقليدي الصيني من أفكار الكونفوشية. وقد أخذ كتاب "هوانغدي نيجينغ" (كتاب الإمبراطور الأصفر في الطب الداخلي)، من العديد من المدارس الفلسفية لفترة ما قبل أسرة تشين (قبل وحتى عام 207 ق.م) من الفلسفة الطاوية.
حسب لاوتسي، الطاو (الطريق) هو مصدر الكون وكل القوانين الطبيعية. وقد طبق كتاب نيجينغ هذا المفهوم على العديد من مفاهيم الطب التقليدي الصيني، فنظرية ين ويانغ التي يشار إليها بأنها طاو ين ويانغ تشرح الخصائص والطبيعة المتحولة لكل الأشياء. طاو الهدم، طاو الحماية، طاو الصعود وطاو الهبوط، وتصف دوران المادة الحيوية، التي تسمى تشي، في الجسم. ويتناول طاو الإبر وأساليب الوخز بالإبر. وحسب نيجينغ، على الرغم من عدم إمكانية إدراك الطاو حسيا مباشرة فإنه موجود في كل شئ، من عالم السماء والأرض الكبير، إلى "عالم العشرة آلاف شئ" التي تسكن الكون، فلا يوجد شيء لا يخضع لسيطرته، ووظائف الجسم وأمراضه ليست استثناء. وفهم الطاو هو الإمساك بمصدر الحياة، ومن ثم إجادة الوقاية من المرض وعلاجه.
لقد دافع لاو تسي عن قواعد "الصفاء وعدم الفعل" السلوكية و"دع الطبيعة تأخذ مجراها". وقال إنه بقبول جريان الطبيعة واحترام قوانينها الموضوعية يصبح من الممكن فهم التحولات الطبيعية للسماء والأرض. وقد طور تشوانغ تسي أفكار لاو تسي أكثر بالقول إن الناس يجب أن يتفقوا مع قوانين التحولات الطبيعية، ولا ينبغي التدخل في، أو تغيير، الطبيعة إلى حد مفرط. واعتقد أن الإنسان غير منفصل عن السماء والأرض. وكل هذه الأشياء كيان واحد. وقد أدى هذا إلى دعوة الطاوية إلى أسلوب حياة حر غير مقيد بالأعراف الاجتماعية. وقد بلور كتاب نيجينغ جوهر الطاوية في مفهوم "وحدة الإنسان والطبيعة". ويعتبر نيجينغ الإنسان والطبيعة كلا موحدا، ويدعو إلى الحياة وفقا لقانون الطبيعة بالقول:"إن الناس ولدوا من طاقة السماء والأرض والطبيعة وفقا لتتابع الفصول الأربعة، كما أن الإنسان والطبيعة هما انعكاسات لصورة مصغرة وصورة مكبرة لنفس الهيكل الكوني. "السماء مستديرة والأرض مربعة، رأس الإنسان مستديرة وقدمه مربعة. السماء بها الشمس والقمر، الإنسان له عينان. الأرض بها الكتل الترابية التسع، الإنسان لديه الفتحات التسع. السماء بها الرياح والمطر، الإنسان لديه الحب والغضب. السماء بها الرعد، الإنسان لديه الموسيقى، السماء بها ين ويانغ والإنسان منه الذكر والأنثى. السماء بها 365 يوما، والإنسان به 365 نقطة وخز. يفسر نيجينغ المبدأ المنظم، "في الأعلى توجد السماء، وفي أسفل توجد الأرض، وفي المنتصف يوجد الإنسان". ومفهوم أن الإنسان والطبيعة يشكلان كلا موحدا، أي منهما يتجسد الكل وتحكمه نفس القوانين، هو المساهمة الأساسية للطاوية في الطب التقليدي الصيني.
وقد قدمت الطاوية مفهوم "تشي" باعتباره أصل الخلق وأساس الحياة، وهو ما أوجد طريقة لتفسير غموض ولادة الإنسان وشيخوخته ومرضه وموته. وقد كان قوان تسي (؟- 645 ق.م)، أول فيلسوف طاوي يطبق مفهوم تشي على مسائل حياة الإنسان وفلسفته، والعلاقة بين الهيئة والروح. وعلى الرغم من أن أفكار قوان تسي تضمنت قدرا معينا من الحدس، فإنها فتحت مجالا جديدا للفكر وكان لها تأثير عظيم على المجتمع الصيني. وبعد مئات السنين توسع تشوانغ تسي في التعاليم حول الطاو، متمسكا بأن تشي هو المكون الأساسي الذي تتكون منه كل الأشياء في الكون.
تؤكد تعاليم الطاوية أن تشي متحرك بدون توقف ومتحول إلى ما لا نهاية. يدور تشي على نحو متواصل في الجسم في شبكة من المسارات، المرتبطة ببعضها ويصنف على أنه صاعد (من أسفل لأعلى)، هابط (من أعلى لأسفل)، داخل (من الخارج إلى الداخل)، وخارج (من الداخل إلى الخارج). في الظروف العادية يحافظ دوران تشي الصاعد والهابط وتشي الداخل والخارج على توازن نسبي. وتفرز الحركة التحولية لتشي وهو يتحرك في الجسم تغيرات فسيولوجية متواصلة.
أدمج مفهوم تشي في الطب التقليدي الصيني ويقدم نيجينغ أسس فهم الطب التقليدي الصيني للحياة والمرض والعلاج. ويؤكد الطب التقليدي الصيني على أن تشي يظهر في الجسم بالطرق التالية: تشي هو قوة الحياة الأساسية لجسم الإنسان. وثمة عدة أنماط من تشي. تشي المتجانس يُورث من الوالدين، ويوجد في الجنين قبل الولادة. بعد الولادة تسحب الرئتان تشي الأصلي من الهواء، بينما يفرز الطحال والمعدة تشي المكتسب وهما يحولان الغذاء. ينتج تفاعل تشي المتجانس وتشي الأصلي وتشي المكتسب "تشي الجوهر" ويحافظ عليه. يدفع تشي الجوهري الوظائف المادية والحيوية لأعضاء تشانغ وفو، أي الأعضاء الحسية، القنوات الوهمية والدم والسوائل. ويتحكم القلب في ضخ الدم وتسيطر الرئتان على استنشاق الهواء، في حين يتحكم الطحال في التحول وتتحكم المعدة في توظيف تشي المكتسب، وتكون الكليتان مقعد تشي المتجانس. ويتحكم الكبد في صرف تشي. إن تشي هو القوة الحيوية التي تدفع كل هذه العمليات الفسيولوجية.
عندما يكون تشي كافيا تعمل وظائف الجسم الحيوية طبيعيا. وعندا يكون غير كاف تضعف الوظائف الفسيولوجية للجسم، وهو ما ينتج عنه حالات نقص تشي العامة أو المحددة المكان، مثل الحالات التي تعالج بطرق إكمال تشي.
ينبغي أن تكون حركة تشي في الجسم متوازنة وغير معاقة. وكما في العالم الطبيعي، يتدفق تشي في جسم الإنسان في نمط صاعد وهابط، داخلا وخارجا. عندما تكون حركة تشي في حالة من التوازن النسبي يعمل الجسم طبيعيا، وعندما يحدث فيها خلل تظهر الأمراض بطرق متعددة. على سبيل المثال، عندما يتغلب تشي الصاعد على تشي الهابط، تظهر حالة تسمى التدفق العكسي لتشي، وعندما يتغلب تشي الهابط على تشي الصاعد تظهر حالة تسمى سقوط تشي. حالات التدفق العكسي لتشي، مثل السعال، الأزمة، التجشؤ التقيؤ، تُعالج بطرق تعزيز تشي الهابط. وحالات تشي سقوط تشي، مثل هبوط الشرج أو الأعضاء الداخلية، تُعالج بطرق تعزيز تشي الصاعد. ويكون الغرض من ذلك العلاج هو تطبيع دينامية تشي واستعادة التوازن النسبي بين تشي الصاعد وتشي الهابط، وبين تشي الداخل وتشي الخارج.
عندما لا يعاق دوران تشي، يتدفق الدم والسوائل بسلاسة ويكون الجسم في حالة صحة كاملة. ولكن عندما يعاق تدفق تشي، تسمى الحالة الناتجة "ركود تشي"، وتظهر في أعراض تشمل الزكام والانتفاخ، أو الألم. يُعالج ركود تشي بحفز تدفق تشي من أجل استعادة تدفقه الحر. وقد يؤدي ركود تشي المتواصل إلى حدوث حالات اللوكيميا وتراكم وتوقف السوائل. هذه الحالات تعالج بحفز تدفق تشي والدم لتحويل الركود والبلغم وإخراج الفضلات.
تؤكد الطاوية على أن تشي هو مصدر قوة الحياة والأساس المادي للحياة. وقد تطورت الممارسة الكلاسيكية الطاوية المعروفة باسم طاوين (أساليب إدارة تشي) خصيصا لتهذيب تشي، ومن ثم تحقيق العمر المديد. تجمع أساليب طاوين بين تمارين التنفس، بما فيها تونا (الشهيق والزفير)، فوتشي (استقبال تشي)، تايتشي (التنفس الجنيني)، وتياوتشي (التنفس المنتظم) تجمعها مع الحركة البدنية لحفز وإدارة تشي وتغذية الجسم والروح وتعزيز الصحة والحياة المديدة.
وقد دمج الطب التقليدي الصيني أساليب طاوين لإدارة تشي في الممارسة الإكلينيكية. وفقا لكتاب "نيجينغ"، الشلل والبرد والحمى الناتجة عن النظام الغذائي غير السليم والخمول كانت أمراضا مستوطنة في منطقة تشونغيوان بوسط الصين. وكان يتم الحصول على نتائج علاج ممتازة من خلال استخدام أساليب طاوين وأشكال متعددة من التدليك. ويناقش "نيجينغ" أيضا طريقة علاجية تسمى شيجي (تراكم التنفس) التي تجمع بين طب الأعشاب وأساليب طاوين. ويدعو كتاب "جينكوي ياولو" (الموجز في وصفات الغرفة الذهبية)، الذي ألفه تشانغ تشونغ جينغ (150ق.م- 19 م) إلى علاج حالات الشلل التي تسمى تشونغشيه (ثقل الأطراف) بتركيبة من تمارين تنفس طاوين والوخز بالإبر والتدليك. الهدف النهائي لتمارين تنفس طاوين هو تحقيق "التنفس الجنيني" حيث لا يتم سحب النفس عبر الأنف وإنما يتم امتصاص تشي مباشرة من الكون بنفس الطريقة التي يمتص بها الجنين الطاقة الحيوية من المشيمة وهو في الرحم.
في الطب التقليدي الصيني، تشير الهيئة، أو الشكل، والروح إلى الهيكل البدني والماهية الحيوية لجسم الإنسان والعلاقة بينهما. وفي زمن الربيع والخريف (770- 221 ق.م) اعترفت الطاوية بأن الهيئة والروح وجهان متكاملان للكل الموحد للطاو. وفقا للفلسفة الطاوية، تظهر الهيئة والروح في ثلاثة مستويات؛ الأول، أن الهيئة قد تشير إلى الكون المادي، وتشير الروح إلى قوة غامضة تنشطها وتقويها. الثاني، أن الهيئة قد تشير إلى الأشياء الحية وتشير الروح إلى وظائفها الحيوية. الثالث، أن الهيئة قد تشير تحديدا إلى جسم الإنسان، وتشير روحه إلى الشعور الإنساني.