لن تجوع في الصين!
أشهر الأطعمة الصينية على موائد بكين وعواصم العالم
"لا تذهب إلى الصين دون أن تحمل كمية كبيرة من الطعام تكفيك طوال الرحلة، وإلا فسوف تجوع أو تضطر لتناول أطعمة تصيب بالغثيان وقد تمرض أو تموت جوعا؟" بهذه التحذيرات يقابلني كل من يعرف أنني أعد حقيبتي وأوراق السفر إلى الصين. نفس الكلمات يرددها الأصدقاء، بعضهم زار الصين وأغلبهم لا يعرفون عنها إلا بقدر ما يسمعونه من الغير. رغم كثرة التحذيرات وتنوعها بين التخويف والترهيب، من النادر أن تجد من يشجعك على السفر بدون أن تحمل كمية كبيرة من المؤن، وكأننا في رحلة نقطعها على بعير أو سفن تجوب البحار والمحيطات.
في الحقيقة لم أستمع طوال 12 عاما، وخلال 10 رحلات متعددة، منها القصيرة وأخرى استغرقت عدة أسابيع، إلى نصائح المقربين الذين يدعون العلم بدقائق السفر وعظائم الأمور ولا خفت من ترهيب الجاهلين. فعلاقتي مع الطعام الصيني بدأت منذ عقدين، كان أول لقاء مع المائدة الصينية في ألمانيا، حيث استضافني صديق مصري على العشاء في أحد المطاعم الصينية بمدينة برلين. تعجبت من تلك الدعوة، خاصة أنها جاءت بعد شكوى من عدم قدرتي على تناول أطعمة ألمانية كثيرة والاكتفاء خلال زيارة شتوية تكسوها الثلوج والبرودة الشديدة، بأكل المخبوزات والجبن، والفواكه المستوردة من الهند وأمريكا الجنوبية، بينما الأطعمة الرئيسية تعتمد على لحوم لا تصلح للمسلمين، أو باردة كأجواء أوروبا، بلا طعم ولا نكهة. استفزتني الدعوة على العشاء الذي ذهبت إليه وبطني يقرقر من شدة الجوع.
قدمت النادلة لائحة طعام طويلة، واختصارا في الوقت طلبت من صديقي المقيم في عاصمة ألمانيا، أن يختار الطعام المناسب، فلا أدري الصالح من الطالح ، وقلت: "المهم أن أتناول وجبة شهية ساخنة وبسرعة قبل أن تحملني إلى المستشفى حيث أوشكت على فقدان الوعي من شدة الجوع." طلب زميلي الوجبة الساخنة، وخلال دقائق، وضعت النادلة أدوات لتسخين الأطعمة، وأطباقا بها ما تشتهي الأنفس. استغرق العشاء نحو الساعتين، التهمنا خلاله أشهى الأسماك والسلطعون والجمبري وخضراوات طازجة، وحساءً.
أطعمة تنعش الذاكرة
مذاق الطعام في فمي ظل ينعش ذاكرتي كلما استحضرت الحديث عن الأطعمة الصينية، خاصة أن الثلوج التي كانت تحاصر المطعم في الخارج، لم تمنع تصاعد الحرارة من أجسادنا، لدرجة أننا سرنا على الأقدام نحو الساعة حتى نهضم الوجبة الشهية قبل التوجه إلى النوم. وظل حلم الطعام الشهي يراودني كلما صادفت مطعما صينيا في مصر أو غيرها. كثرة الذكريات لم تمنع المخاوف عند السفر إلى الصين في أول مرة، فليس من سمع عن الصين كمن رأى، ونعلم أن الأطعمة الصينية في خارج الوطن الأم يدخل على تركيباتها بعض التعديلات بسبب الذوق العام أو نوعية الطباخين والأطعمة المستخدمة. لذلك ظل الخوف متربصا بي حينما سافرت لأول مرة إلى الصين، واطلعت على الأمر من الداخل.
كانت الصين في بداية العقد الماضي، تعمل بلا ككل لتجهيز البلاد لحدث جلل، وهو تنظيم أولمبياد بكين 2008. جاءت الاستعدادات، وسط أزمة في الطاقة كانت تدفع المسؤولين إلى قطع التيار الكهربائي لبعض الوقت لتوزيعه على الجميع بالعدل والقسطاس. ولم تكن فنادق الدرجة الأولى بعيدة عن تلك العدالة، والأزمة التي فرضتها الضرورة. شهدت مرحلة الاستعدادات اهتماما واسعا بالأطعمة الدولية، التي تجذب الشباب والسائحين، الذين يتوافدون على الصين لمتابعة استعداداتها للحدث الدولي الكبير. يسر لنا في عام 2004 أن نجد مطاعم فئة خمس نجوم تبيع المأكولات على الطريقة الإسلامية، وأهمها البط البكيني الشهير. وحصلنا على دعوات للعشاء في مطعم يديره طهاة عرب، مشهور لدى الدبلوماسيين المحليين والضيوف العرب. وفي الفندق، تناولنا الكثير من الوجبات الطازجة المطبوخة على الطريقة الأوروبية التي اعتدنا عليها في الدول العربية. لم نتضور جوعا، بعد أن ضبطنا توقيتات الطعام على الحفلات والمواعيد الرسمية التي تحرص الجهات المنظمة لها أن تكون الأطعمة على الطريقة الإسلامية.
مفاجآت المطاعم
بدأت المفاجآت حينما أردت التجول منفردا على دراجة بين أحياء مدينة بكين شديدة الاتساع، كلما ذهبت إلى مطعم صيني لا أجد ما يروق لي لتناوله، وأخيرا طلبت من نادل أن يقدم لي أرزا خاليا من أية إضافات و"نودلز" مصنوعة من دقيق فول الصويا، وقطعا صغيرة من البطيخ الأصفر. سرعان ما شعرت بالجوع فهرعت إلى الفندق، لمقابلة أحد العاملين به، كنت قد تعرفت عليه، فهو مغربي الأصل يعمل في شركة فنادق فرنسية أرسلته إلى بكين في مهمة مؤقتة ليتعرف على أذواق المأكولات لرواد الفندق. استعنت بالصديق المغربي ليوفر لي وجبة من الجبن والخبز الفرنسي، وقطع من السالمون.
بعد ثلاث سنوات من الرحلة الأولى عدت إلى الصين في وفد رسمي، فهالني أن أجد ضمن الوفد الذي يضم وزراء وسياسيين وصحفيين، من يحمل بين حقائبه أطعمة محفوظة، بداية من الفول المدمس ومرورا بالجبن وعلب التونة، المستوردة من جنوبي آسيا. ظل الزملاء يحذرونني من إمكانية تعرضي لمجاعة في الصين، بعد أن رفضت نصائحهم بوضع مأكولات في الحقيبة التي ستشحن رسميا دون أن أتحمل أية أعباء. فوجئ الزملاء بالإجراءات التي شرعت الصين في تنفيذها، قبل حلول أولمبياد بكين بعدة أشهر. فقد توسعت في المطاعم التي تبيع المأكولات الحلال للمسلمين وغيرهم، في كل مكان. وأقيمت العديد من المطاعم الحديثة التي تناسب أذواق المسلمين والعرب، والتي تناسب الأوروبيين والهنود ممن يفضلون الخضراوات، ويرفضون تناول الأسماك واللحوم. وضعت الصين رقابة مشددة على المطاعم والفنادق، وحددت ضوابط قياسية للأطعمة بما يضمن جودتها وصحة مصدرها، وتاريخ الصلاحية. كنت مزهوا عندما رأيت الزملاء يشتكون من أحمالهم التي جاءوا بها ولم يستخدموها، فقد اكتشفوا أن كل مكان نذهب إليه يعد لنا الطعام على الطريقة الإسلامية، حتى المائدة الرسمية التي أقيمت لنا في إحدى قاعات مجلس نواب الشعب على مشارف ميدان تيانآنمن تضمنت مشويات ولحوم ضآن وبقر، تولى طبخها نفر من أمهر الطهاة المسلمين في بكين. وفي شانغهاي تعددت الأطباق الصينية، فاعتادوا على تناولها، بما جعلهم يهدون الأطعمة التي حملوها لبعض الأصدقاء الصينين بعد ما حكوا لهم سر الأطعمة المحمولة جوا إلى الصين في حقائب رسمية. قهقهة الأصدقاء كثرت في رحلة العودة، حينما قص كل منهم قصته مع الأطعمة التي تعرض بعضها للتلف، وإصرار البعض على أن يحمل بعضها حتى اللحظة الأخيرة خوفا من الجوع في بلاد التنين. عاد الجميع وهم أكثر سمنة، ويروون لذويهم عن حلاوة المذاق للأطعمة الصينية التي لا يتقنون نطق أسمائها، بل بالكاد يرسمون لها صورة مرئية، ويصفون بألسنتهم مذاقها، بما يجعل المستمع يشتهي أن يتناول ما أكلوه في الصين.
لم تكد دورة الألعاب الأولمبية تنتهي حتى أصبح الطعام الصيني ذا شهرة واسعة. فالأولمبياد التي قدمت الصين الحديثة للعالم، دفعت بتراثها الثمين من القصور والمتاحف والفنادق الفاخرة إلى الشوارع البسيطة وأجهزة الإعلام التي تسابقت على عرض المأكولات الصينية عبر التلفزيون والإنترنت والمجلات. وبرزت في المنتصف المأكولات الصينية على الطريقة الإسلامية، وأصبحت لغة أعمال واسعة الانتشار من تيانجين شرقا إلى نينغشيا غربا، ومن شينجيانغ إلى شانغهاي وهونغ كونغ. تبارت الفنادق في تقديم المشويات على الطريقة الإسلامية، وساهم المسلمون خاصة من قومية الويغور، في نشر المأكولات السريعة ، مثل "الشيش كباب" و"الشيش طاووق" ولحم الماعز والقلوب والأكباد المحمرة. وتتميز تلك المأكولات برخص أسعارها، وبيعها في الأماكن المزدحمة حول المتاجر ودور السينما ومكاتب الموظفين. وتتنافس هذه المأكولات في بكين وشانغهاي وغيرها، مع الوجبات السريعة الصينية التقليدية والأوروبية التي تباع في كنتاكي وماكدونالدز. ويقبل عليها الصينيون والأجانب من المسلمين وغيرهم، فسهلت للمتجولين والغرباء الحصول على وجبة سريعة شهية رخيصة على الطريقة الإسلامية.
أطعمة محظورة
أصبح من الصعب أن ترى أجنبيا في الصين يحمل أطعمة وهو داخل إلى المطارات والموائي، فالإجراءات الرسمية تحظر حمل المسافرين أية مأكولات زراعية خوفا على الجين الوراثي للمزروعات الصينية، وفي نفس الوقت تضبط أية أطعمة يحملها المسافرون خوفا من تعرضها للتلف وتؤثر على صحة من يتناولها. فسياسة أمر الواقع أصبحت فرضا على جميع المسافرين، حتى الذين يحاولون التلاعب مع القانون، يفهمون الآن سهولة حصولهم على الطعام المناسب لصحتهم وإمكاناتهم المادية ومبادئهم الدينية. ويمكن لكل مسافر أن يتذوق الطعام الصيني على طريقته، وتعتبر وجبة "البط البكيني" الأشهر في هذا الأمر، حيث تطبخ على الطريقة الصينية التقليدية، محمرة وأفضلها المشوية على الفحم، وأيضا تذبح على الطريقة الإسلامية أو تصعق بالكهرباء كي تظهر تامة المظهر أمام العملاء في المطاعم الفاخرة، حيث يصل ثمن الوجبة منها نحو 1000 يوان، أو يزيد. وانتشرت محلات كثيرة تبيع المأكولات الحلال وسط بكين، خاصة حي المسجد الإسلامي الأشهر "نيوجيه"، داخل المطاعم السياحية، والمحلات الكثيرة. وأصبحت تلك المنطقة محطة للمقيمين العرب والمسلمين من الدارسين وأعضاء السلك الدبلوماسي والسائحين، عدا مئات المطاعم في المناطق السياحية المهمة، وعلى رأسها منطقة ميدان السلام السماوي. وتنتشر محلات في أشهر المدن الصينية، خاصة التي تضم جاليات من المسلمين، كما في تيانجين و شانغهاي، وغيرهما.
تسهم المطاعم الصينية المنتشرة حول العالم في جعل هذا المطبخ مشهوراً في مختلف الدول.
وشهرة أطباق المائدة الصينية ليست في الأسماء الشاعرية التي تطلق على الوجبات، بل بطريقة تحضيرها وترتيبها، خاصة طريقة خلط المواد الأولية المختلفة والمشوقة وهي ليست لذيذة فحسب، وإنما أيضا تتوافق مع أغلب أساليب التغذية الصحية الحديثة. يشتهر الطهاة الصينيون حول العالم بمقدرتهم على استعمال كل ما تمنحهم الطبيعة في طبخهم من دون رمي أي شيء مع تركيز خاص على الخضراوات كمكون أساسي، إضافة إلى الحرص على عدم إخفاء المذاق والنكهة الأصلية للطعام خلال عملية الطهي. في السنوات الأخيرة، أقبل الصينيون بنهم على تناول الحلزون البحري وخيار البحر وزعانف القرش وعوامة السمك، وغيرها من الأطعمة البحرية الغالية. يتميز المطبخ الصيني بخمسة أنواع مختلفة من المذاقات العريقة، وهي كل من المالح والمر والحامض، والحاد أو الحار والحلو. فلدى الصينيين فلسفة خاصة في الأكل تقول: لكافة أنواع المذاقات علاقة بفصول السنة، ويجب أن تبقى متناغمة معها. وعرف الصينيون خمسة أنواع من العناصر أيضا وهي كل من الخشب والنار والمعدن والماء والأرض، وهذه العناصر لها علاقة بخمسة ألوان هي الأزرق والأصفر والأحمر والأبيض والأسود، ولهذا فإن العناصر والألوان والمذاق يجب أن تكون جميعها متفقة مع مواسم السنة.
تتنوع المواد الأولية في الطهي الصيني بتنوع أساليب الطهي، ومن أشهرها تأتي النكهات التالية:
تعد نكهات المطبخ "الكانتوني" أي مطبخ قوانغدونغ، الطازجة والطبيعية الأشهر في أنواع المطابخ الصينية عبر العالم، حيث تشترى المكونات وتعد في اليوم نفسه وتطبخ قبل تقديمها باستخدام القليل من التوابل فقط، كما يقدم هذا المطبخ الأطعمة الجافة البحرية مثل زعانف الأسماك والرخويات والسكالوب الجاف. يعود أصل نكهات "شيوشو" إلى "سواتاو" في شرق "قوانغدونغ"، وتعتبر الآن واحدة من أشهر طرق الطهي في "هونغ كونغ"، وغالباً ما تستخدم الصلصات الحارة في تحسين المذاق مع مربى اليوسفي المستخدمة في الكركند المدخن ومعجون الفول الأخضر للسمك. يعتبر البط والإوز من الأكلات المفضلة في مطبخ "شيوشو" ويقدم الإوز المبهر مع صلصة الثوم والخل.
مطابخ رائعة
يعد مطبخ "شانغهاي"، مطبخاً رائعاً لاختبار النكهات الحلوة المذاق، حيث يمتاز بالكثافة والحدة، وبتقديم خضراوات محفوظة ومخللات ولحوم مملحة. ومن أكثر الأطعمة شهرة في "شانغهاي" البيض بالزنجبيل، ودجاج "بيغر"وهو طبق أسطوري مغطى بأوراق اللوتس ومقلي في الفرن، وكان يطهى قديماً على الأرض. ومن أشهر الأطباق أيضاً سرطان البحر والبط والدجاج المخمر وثعبان البحر المطبوخ والسمك الأصفر. علاوة على ذلك يقدم هذا المطبخ أطعمة مثل الزلابية والخبز والنودلز أكثر من الأرز. يتميزمطبخ بكين بنكهاته المفعمة بالجذور والخضراوات ذات النكهة القوية وبالفلفل والثوم والزنجبيل والكراث والكزبرة "البقدونس الصيني". وتتسم أكلات هذه المناطق بأنها تبقي الجسم دافئاً، وتقدم فيها الزلابية والخبز المحمص أو المدخن أو المقلي والنودلز بدلا من الأرز. كما يتم تحضير طبق البط البكيني الشهير لستة أشخاص على الأقل، وللحصول على جلد مقرمش للبط، يتم تجفيفه بالهواء ويغطى بخليط من الشراب وصلصة الصويا قبل تحميره ويعد الجلد بمهارة رائعة على الطاولة ويتم تغليف قطع الجلد بالفطائر المحلاة الرقيقة المصنوعة من البصل الأخضر أو الكراث والخيار واللفت وصلصة الخوخ الشهية. نكهات سيشوان ويوننان حارة وقوية وتشبه مطبخ "يوننان" الغني بالفلفل، ومطبخ "سيشوان" في غربي الصين، حيث يغطي أطباقه الفلفل الأحمر والثوم والصلصة الغريبة غير التقليدية، ويغطي معجون الفول المهروس على شكل مسحوق السمك أو السكالوب وتستخدم صلصات العسل على الحلويات مثل الكستناء مع الماء أو كعك زهرة السنا. و تقدم مجموعة من الشوربات مثل النودلز والحمام المهروس مع مرق اللحم، وشوربة الحمص المملحة، كما يشكل الأرز وجبة أساسية في "يوننان"، إلا أن لفات الخبز المحمر على الطريقة الشمالية أو الزلابية والكعك الشهي تعد من الوجبات الشهية والمطلوبة بكثرة.