قصص أباطرة أسرة تشينغ الاثني عشر
(1)
نورهاتسي: الإمبراطور الذي اختارته السماء

يعد نورهاتسي (1559-1626) المؤسس الحقيقي والإمبراطور الأول لأسرة تشينغ (1644 – 1912م) برغم أنه لم يشهد سقوط أسرة مينغ (1368 – 1644م). بدأ نورهاتشي تنظيم عشائر جورتشن في رايات، وهي وحدات عسكرية- اجتماعية، وجمع تلك العشائر في كيان موحد صار رعاياه يحملون اسم أبناء مانتشو (قومية مان حاليا). وفي سنة 1636، بدأ ابنه هونغ تاي جي في إخراج قوات أسرة مينغ من لياودونغ وأعلن قيام أسرة إمبراطورية جديدة، هي أسرة تشينغ. 

طفولة صعبة

ولد نورهاتسي في أسرة عادية لعشيرة أيسين غيورو لقومية جورتشن. كان أبناء هذه القومية العريقة يتنقلون في شمال شرقي الصين، ثم استقروا في مجرى نهر سوتسي (الواقع الآن في مدينة فوشون في مقاطعة لياونينغ).

توفيت أمه وهو في العاشرة من عمره. وقد عانى كثيرا من معاملة زوجة أبيه التي كانت تعذبه وتعامله بقسوة وعنف، فاضطر إلى هجر منزل أبيه والعيش بمفرده وهو في التاسعة عشرة من عمره. لم يكن لديه ما يقيم أوده، فذهب إلى الجبال، حيث كان يجمع ثمار الصنوبر والفطر ويبيعها في سوق محلية. في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وألف، وهو في الخامسة والعشرين من عمره، مات جده وأبوه في معركة ضد قوات أسرة مينغ، فثارت نفسه غضبا وقرر أن يثأر لهما. في نفس السنة، قاد نورهاتسي قوة صغيرة قوامها نحو ستين فردا وشن هجوما على مدينة تورون، وكان ذلك بمثابة إعلان لتوحيد قومية جورتشن وبداية عهد أسرة إقطاعية قوية.

الإنجازات العشرة

منذ معركته الأولى، ظل نورهاتسي يناضل لمدة أربع وأربعين سنة، حتى وافته المنية وهو الثامنة والستين من العمر، من أجل توحيد قومية جورتشن. وأثناء مسيرة حياته غير العادية، حقق نورهاتسي عشرة إنجازات، هي:

أولا: توحيد قومية جورتشن. ظلت قومية جورتشن تعاني من التفكك والصراع أكثر من ثلاثمائة سنة. كانت الصراعات والمعارك الصغيرة تقع بشكل دائم بين عشائر هذه القومية. قضى نورهاتسي أكثر من ثلاثين عاما لتوحيد وتنسيق مصالح أبناء قوميته، وكان العامل الرئيسي لتكوين هذه القومية الموحدة القوية.

ثانيا: توحيد شمال شرقي الصين. في أواخر عهد أسرة مينغ، أفلت شمس هذه الأسرة الإمبراطورية وخارت قوتها. وقد ساهم نورهاتسي في توحيد هذه المنطقة الواسعة التي كانت تغطي في ذلك الوقت خمسمائة كيلومتر مربع. كانت هذه المنطقة، لولا دور وقوة نورهاتسي، معرضة للسقوط تحت سيطرة روسيا القيصرية التي كانت تغزو من الغرب، أو اليابان التي كانت تهاجم من الشمال.

ثالثا: تشكيل مقاطع لغة قومية مانتشو (مان). بعد انهيار أسرة جين الإمبراطورية (420- 265)، كان لقومية جورتشن لغتها الخاصة، لكن لم يكن لها مقاطع كتابة خاصة بها. وفي عام 1599، أمر نورهاتسي بتسجيل لغة قومية جورتشن بالرموز المنغولية، لتتشكل لغة قومية مان  التي كانت اللغة الرسمية في فترة أسرة تشينغ. سجلت لغة مان وثائق تاريخية قيمة، وباتت جسرا هاما لللتواصل الثقافي بين أبناء قومية مان وأبناء قومية هان، وبين الشرق والغرب.

رابعا: بناء نظام الرايات الثماني. نظام الرايات الثماني عبارة عن وحدات لإدارية/ عسكرية لقومية مان. قسم نورهاتسي أبناء قومية جورتشن إلى أربعة قبائل، لكل منها راية بلون مختلف؛ الأحمر والأصفر والأبيض والأزرق، ثم أضاف إليها أربع رايات أخرى. كان أبناء الرايات الثماني  يصبحون جنودا في وقت الحرب، ويقومون بالإنتاج والزراعة في وقت السلم. كان هذا النظام رابطة بين أبناء القومية، لتكوين مجتمع مشترك من حيث السياسة والعسكرية والاقتصاد والسياسة والحكم. بعد تأسيس أسرة تشينغ، تمت إضافة ثماني رايات لقومية هان، وثماني رايات لقومية المنغول،،وصار عدد الرايات أربعا وعشرين راية ترمز إلى جماعات اجتماعية مختلفة.

خامسا: دفع تشكيل قومية مان. ساهم نورهاتسي في دفع تشكيل قومية مان من خلال  بذل جهوده في توحيد منطقة شمال شرقي الصين وقومية جورتشن. في سنة خمس وثلاثين وستمائة وألأف، أعلن هونغ تاي تشي، ابن نورهاتسي، تشكيل قومية مانتشو. تطورت قومية مانتشو من قومية صغيرة في شمال شرقي الصين إلى قومية كبيرة جاوز عدد أبنائها عشرة ملايين نسمة، وكان نورهاتسي زعيم هذه القومية العظيمة.

سادسا: بناء النظام السياسي. النظام السياسي الشامل والفعال هو أساس بناء أي سلطة حكم قوية. في سنة 1616، أنشأ نورهاتسي سلطة هوجين وحدد سلسلة من الأنظمة السياسية على غرار النظام المنغولي والنظام السياسي لقومية هان.

سابعا: إثراء التجارب العسكرية. خاض نورهاتسي معارك لمدة أربعة وأربعين عاما، قاد خلالها قوات منظمة اجتاحت الصين. أجاد نورهاتسي فنون الحرب، وبرع في استخدام خطط واستراتيجيات الحرب.

ثامنا: تحديد سياسة التعامل مع قومية المنغول. كانت القوميات البدوية في شمالي الصين تشكل تهديدا كبيرا لأبناء الصين، فتبنى نورهاتسي أسلوبا مختلفا للتعامل مع المنغوليين. أدخل نورهاتسي بعض أبناء قومية المنغول ضمن نظام الرايات الثماني، وأقام علاقات مصاهرة مع المنغول. وطوال فترة أسرة تشينغ، كانت هناك صداقة إلى حد كبير بين بلاط تشينغ والمنغول، ومن الأقوال المأثورة للإمبراطور كانغ شي (1654 -1722): "المزايا والنعم التي قامت أسرة تشينغ بمنحها للمنغول أكثر متانة من سور الصين العظيم."

تاسعا: دفع الإصلاحات الاجتماعية. في المجال السياسي، أسس نورهاتسي نظاما ققيادة يرأسه خاقان ويتكون من خمسة وزراء وثمانية بيله (لقب نبيل). وفي المجال الاقتصادي، أمر بتنظيم الحقول الزراعية، وسعى إلى تحويل الاقتصاد المعتمد على الصيد والرعي إلى اقتصاد زراعي. وفي المجال الثقافي، دعا نورهاتسي إلى تحويل الثقافة الرعوية إلى ثقافة زراعية.

عاشرا: نقل العاصمة إلى مدينة شنيانغ. قرر نورهاتسي نقل العاصمة إلى  شنيانغ (حاضرة مقاطعة لياونينغ حاليا) في عام 1625. ورغم معارضة بعض الوزراء، أصر نورهاتسي أصر على قراره وسعى إلى تنمية الاقتصاد في منطقة مجرى نهر لياوخه بعد نقل العاصمة. وبعد تأسيس أسرة تشينغ، نُقلت العاصمة إلى بكين، وأصبحت شنيانغ العاصمة الثانية للأسرة.

الانسجامات الأربعة

خاض نورهاتسي اثنتي عشرة معركة كبيرة في حياته، وترك بعد وفاته عشرة إنجازات، ويمكن القول إن حياته كانت مثيرة. نشأ طفلا يتيما وعاش شابا فقيرا قبل أن يصبح امبراطورا عظيما.

يُذكر أن باحثا أمريكيا قال إنه إذا أراد أي رياضي الفوز بميدالية ذهبية في بطولة عالمية، فلا بد له أن يكون لديه مائة وستة وخمسون مقوما. بالنسبة لنجاح نورهاتسي، أظن أن ظروفه الصعبة في طفولته ساعدت في تشكيل شخصيته الصلبة، وتجاربه التجارية في مجالات الحياة، ساعدت في رفع قدرته لتمييز الناس والتعامل معهم. والأهم من ذلك، أعتقد أنه حقق "الانسجامات الأربعة" في حياته، ألا وهي:

أولا، الانسجام السماوي. كان الصينيون قديما يؤمنون بأن هناك علاقات وثيقة بين الإنسان والسماء، وأن السماء تقرر مصير الإنسان. وقد قال منشيوس: "يظهر امبراطور عظيم كل خمسمائة سنة." قد لا يكون العدد "خمسمائة سنة " بالضبط، وإنما المقصود هو حدوث تغير كبير كل بضع مئات من السنين. وقد حدث خلال حكم نورهاتسي تغيرا كبيرا. في عصره، لم تتمكن القوات الروسية من الوصول إلى جبال الأورال، ولم تشكل البرتغال تهديدا للصين، وفشلت اليابان في غزو شمالي كوريا، وضعفت أسرة مينغ وأوشكت على الانهيار، فاغتنم نورهاتسي هذه الفرصة التاريخية وشق طريقا عظيما.

ثانيا: الانسجام الأرضي. يقصد بالانسجام الأرضي، الظروف الجغرافية الجيدة لبناء قاعدة متينة للتنمية. كانت منطقة شمال شرقي الصين واسعة المساحة وتتميز بالإنتاج العالي للمحاصيل ووفرة الحيوانات والغابات والمعادن، مما مكن نورهاتسي من بناء قاعدة متينة تعتمد على نفسها في هذه المنطقة.

ثالثا: الانسجام بين علاقات الناس. تعاون نورهاتسي مع أبناء الأقليات القومية. كان تفكيره مختلفا عن تفكير أباطرة أسرة مينغ. كان نورهاتسي يحرص على الكفاءة العسكرية، ويميل دائما لإعطاء المناصب العالية للعسكريين ذوي القدرة والكفاءة، حتى وإن كانوا من معارضيه.

رابعا: الانسجام النفسي. يقصد بالانسجام النفسي التوازن النفسي. لا يمكن لأحد إحراز النجاح إلا بامتلاك صدر رحب وأفق واسع. الصحة النفسية تؤثر على عمر الإنسان. في إحدى المرات، هاجمت عدة قبائل نورهاتسي في الليل، واختبأت تلك القوات المعادية في مكان ليس بعيدا. بعد سماع خبر قدوم الأعداء، ذهب نورهاتسي إلى فراشه ونام ليلته كالمعتاد، فسألته زوجته باندهاش: "ألست خائفا؟، كيف تستطيع أن تنام الآن في مثل هذه الظروف؟" فضحك نورهاتسي وأجاب: "ربما كنت أقلق لو لم يأت الأعداء. الآن، وقد عرفت مكانهم وأدركت الكمين، فلمَ لا أستطيع النوم؟" وفي اليوم التالي، قاد نورهاتسي قواته وانتصر على أعدائه.

في سنة اثنتين وعشرين وستمائة وألف، واجه نورهاتسي أكبر فشل في حياته. أثناء هجومه على مدينة نينغيوان القديمة (مدينة شينغتشنغ الحالية في مقاطعة لياونينغ)، هزمته قوات يوان تشونغ هوان (1584-1630). أصيب نورهاتسي في تلك المعركة بجروح بالغة، وفارق الحياة بعد سبعة شهور.

كان نورهاتسي شخصية عظيمة في تاريخ الصين. حمل مسؤولية العصر وحول آمال أبناء قومية جورتشن في الوحدة إلى حقيقة، وشكل قوة قيادية قوية. ربط أبناء عدة قوميات بنظام الرايات الثماني، وأرسي حجر الأساس لفترة أسرة تشينغ التي استمرت أكثر من مائتي سنة.