في عامه الخامس والتسعين
الحزب الشيوعي الصيني يحافظ على حيويته
في الأول من يوليو سنة ألفين وستة عشر، يكون الحزب الشيوعي الصيني قد أتم عامه الخامس بعد التسعين، ليقف على مسافة خمسة أعوام فقط من إتمام مئويته الأولى. هذا الحزب الذي تأسس سنة 1921 في مدينة شانغهاي، استطاع أن يحافظ على حيويته، بفضل قدرته على مواكبة التطورات الداخلية والخارجية في عالم يتغير بسرعة فائقة. والسؤال هو: كيف استطاع الحزب الشيوعي الصيني أن يظل شابا مواكبا للعصر من دون أن يتخلى عن مبادئه الجوهرية؟
والحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تقتضي النظر في الفكر الصيني بشكل عام، والعودة إلى بدايات تأسيس الحزب وتطوره خلال السنوات الخمس والتسعين الفائتة بشكل خاص، فعندما تبنت الصين النهج الشيوعي انتزعته من أصوله الأوروبية العُمالية وألبسته رداء ريفيا، وعندما اختارت طريق الإصلاح بدأته من المناطق الريفية وليس من المصانع.
الفكر في الصين ليس مجرد نظريات حبيسة أوراق الكتب ومعاهد البحث، وإنما منهج وطريقة حياة، للدولة وللفرد. لا شئ يحدث عبثا من دون أسس فكرية. وعندما تقرأ أو تسمع كلمات وخطب القادة والمسؤولين الصينيين على كافة المستويات، ونحن في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، تجد إشارات متعددة إلى أفكار وأقوال كونفوشيوس وإلى المأثور الفكري الصيني وإلى أقوال لحكماء وشعراء الصين. ويحرص كل زعيم صيني على أن يضيف إسهاما لرصيد الفكر الصيني، فماو تسي تونغ له أفكاره في بناء الاشتراكية، ودنغ شياو بينغ له نظريته حول بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية،وجيانغ تسه مين طرح فكرة "التمثيلات الثلاثة"، وهو جين تاو أبدع فكرة الاعتبارات الثمانية، وشي جين بينغ ساهم بأفكاره التي يفصلها كتاب "شي جين بينغ.. حول الحكم والإدارة".
وباستعراض الفكر الصيني، يمكن أن نرصد عددا من الملاحظات: الأولى، سعي الفكر الصيني إلى تكريس الاستقرار، فالصيني يضع الاستقرار والأمن في مرتبة أعلى من أي شيء، فإذا خُيّر بين الاستقرار والحرية، بمعنى الحرية ومدلولها الغربي مثلا، سيختار الاستقرار. ولهذا، ظلت الصين طوال تاريخها الطويل تحت الحكم الإمبراطوري، حتى سنة 1911 م، ولم يتم التفكير في أنظمة سياسية بديلة. وبعد انتهاء الحكم الإمبراطوري خضعت الصين لحكم حزب واحد هو حزب الكومينتانغ، في بداية القرن ثم الحزب الشيوعي الصيني منذ سنة 1949، فالفكرة المسيطرة في الصين هي أنه من أجل فرض النظام يجب وجود سلطة أحادية. ولعل هذا أحد عوامل استمرار الحزب الشيوعي في قيادة الصين بدون منازع. ويعزز من هذا، مفهوم "الولاء" المحوري في الفكر الصيني والذي احتل قسما عظيما في الفكر الكونفوشي؛ ولاء الصغير للكبير والزوجة للزوج والأبناء للآباء، ثم والأهم ولاء المحكوم للحاكم. غير أن هذا التمسك بالاستقرار والتأكيد على الولاء يقترن بتأكيد آخر يضمن أن لا يشط صاحب الولاء، وذلك من خلال تكريس فكرة صلاح الحاكم وعدله. وقد أكد الفكر الصيني على أهمية الدولة، فقد دار الحوار التالي بين كونفوشيوس وواحد من تلاميذه: سأل التلميذ: كيف يجب أن تُحكم الدولة ؟ فأجاب كونفوشوس: مقومات الحكومة هو أن يتوفر طعام كاف وتجهيزات عسكرية كافية وثقة الشعب في حاكمه. عاد التلميذ وسأل: إن لم يكن من بُدٍ، ويجب الاستغناء عن واحد من تلك، أي منها يجب التخلي عنه أولا؟ قال كونفوشيوس: التجهيزات العسكرية. وسأل التلميذ مرة أخرى: إن لم يكن من بُدٍ، ويجب الاستغناء عن واحد من الاثنين الباقيين، أيهما يجب التخلي عنه أولا؟ قال الحكيم الصيني: جزء من الطعام، فمن قديم الزمان الموت هو قدر كل الناس، ولكن إن لم يكن لدى الشعب إيمان بحكامه، فلا مبرر لوجود الدولة. الملاحظة الثانية هي محورية فكرة "التحول" أو التغير والتكيف في الفكر الصيني، فهناك تأكيد على المرونة والتحول، فحسب الفكر الصيني كل شيء في حالة تحول وتغير وكل شيء يتحول من الضد إلى الضد، فوفقا للفلاسفة الصينيين، تتكون كافة الظواهر الطبيعية من تجليات متعارضة ولكن متكاملة، وموجودة في حالة من التغير المستمر للتوازن الحركي. فكرة التغير "المحورية" في الفكر الصيني جعلت الصين دائما بعيدة عن الجمود. الملاحظة الثالثة، هي وسطية الفكر الصيني، وهي الفكرة التي جعلت الصينيين يرون بلادهم "مركز" العالم وهي أيضا التي تقف وراء الموقف الوسطي للصين المعاصرة من القضايا العالمية. هذه الوسطية ترجع أصولها إلى تعاليم كونفوشيوس الذي دعا إلى تحقيق التوازن والانسجام عند حل أي نزاع أو خلاف، وهي الفلسفة الصينية المعروفة باسم مبدأ الوسطية.
الحزب الشيوعي الصيني ليس كيانا جامدا، فذلك الحزب الذي يتبنى، وفقا لدستوره، الماركسية اللينينية، ذكر لأول مرة في تاريخه كلمة "الدين" في التعديلات التي أُدخلت على دستوره في المؤتمر الوطني السابع عشر للحزب سنة 2007، وذلك "للوفاء بالمتطلبات التي يطرحها الوضع الجديد والمهمات الجديدة". وفي ذات الدورة، قال الحزب إنه سيعزز تنمية القطاع الخاص وفقا لما جاء في قرار تعديل دستور الحزب. وقبل ذلك، في سنة 1978، خلال الدورة الكاملة الثالثة للجنة المركزية للحزب، اتُخِذ قرار الإصلاح الاقتصادي والانفتاح على العالم الخارجي، والذي انطلقت الصين بفضله إلى آفاق جديدة وعادت إلى مكانتها المحورية في العالم، بعد الكبوة التي تعرضت لها خلال فترة "الثورة الثقافية" التي استمرت من سنة 1966 حتى سنة 1976. وفي المؤتمر الوطني السادس عشر له سنة 2002، اعتبر الحزب أن إدراج فكرة "مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل" في دستوره أمر بالغ الأهمية بالنسبة لعمل الحزب، وهي فكرة مستوحاة من تاريخ الفكر الصيني تُجسد في أحد معانيها العدالة الاجتماعية التي يسعى إليها المجتمع الدولي حاليا.
لقد واجه الحزب الشيوعي الصيني منذ تأسيسه، وبعد أن وصل إلى السلطة سنة 1949، تحديات جمة استطاع أن يتغلب عليها ويطور فكره وأدواته في الحكم والإدارة ليظل الحزب الحاكم للدولة الأكثر سكانا في العالم منذ سبعة وستين عاما، في ظاهرة يصعب على الفكر الغربي استيعابها. وقد تحدث المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما بوضوح في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" الصادر سنة 1992، عن أن الديمقراطية الليبرالية الغربية تمثل الشكل النهائي للحكومة الإنسانية ونقطة النهاية للتطور الأيديولوجي. وحسب مقالة كتبها جميل أندرليني في مجلة ((فاينانشال تايمز)) البريطانية في العشرين من سبتمبر 2013، قال فوكوياما إنه مقتنع بأن الصين سوف تتبع مسار معظم البلدان الأخرى (التي يعتبرها فوكوياما ديمقراطية)، ربما من خلال الليبرالية المتدرجة التي يمكن أن تنتج في نهاية المطاف الديمقراطية. ولكن ماذا لو لم يحدث ذلك؟ قال فوكوياما، من الممكن أن تحدث انتفاضات من النوع الذي شوهد في الربيع العربي.
الفرضية التي انطلق منها فوكوياما، مثل غيره من المنظرين الغربيين، هي أن الصين دولة سلطوية ليس فيها ديمقراطية، وأنه لا يوجد أي شكل للديمقراطية، غير الديمقراطية الغربية. بينما ترى الصين ودول أخرى غير غربية أن "النموذج" الغربي للديمقراطية ليس الشكل الوحيد للحكم، وأن لكل مجتمع ظروفه وتاريخه ومرحلة تنميته التي تقرر شكل الحكم ونمط التنمية المناسب له. وقد ثبت عمليا فشل كافة محاولات غرس نبتة الديمقراطية الغربية في تربة مجتمعات أخرى. ولعل ما حدث ويحدث في العراق وفي دول ما أسماه الغربيون بالربيع العربي، برهان ماثل على خطأ ما ذهب إليه فوكوياما. ولا أظن أن أي شعب يريد أن يجري في بلاده ما يحدث في بلدان مثل سوريا واليمن والعراق وليبيا.
هل يواجه الحزب الشيوعي الصيني تحديات ونحن في العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين؟ الإجابة، نعم. هناك تحديات كثيرة، بعضها داخلي وبعضها خارجي، وهي ليست تحديات تخص الحزب وحده وإنما الصين كلها. على الصعيد الداخلي، يقود الحزب حملة ضارية لمكافحة الفساد، ويسعى إلى مواصلة الإصلاح الاقتصادي والانفتاح على العالم الخارجي، وتقليل الفجوة بين المناطق التي حققت تقدما وثراء كبيرا والمناطق الأقل حظا في التنمية، بل وتضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء من الأفراد، ومكافحة التلوث الذي أصبح مشكلة حقيقية في كثير من مناطق الصين، وتعديل نمط التنمية بحيث لا يكون الكم والحجم معيار التقييم وإنما الجودة والفعالية. يواجه الحزب، والصينيون كلهم، مشكلة شيخوخة المجتمع الصيني، وتراجع قيمة العامل الديموغرافي في التنمية، وتوسع شريحة الفئة الوسطى في المجتمع وتزايد تطلعاتها في المشاركة الاقتصادية والسياسية. على الصعيد الخارجي، يواجه الحزب التحرشات الإقليمية بالصين، ومنها النزاعات حول بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي. كما يواجه الحزب التحرشات الفكرية الغربية التي تشكك في قدرته على مواصلة قيادة الصين، ومحاولات عرقلة صعود الصين عالميا، وزعزعة ثقة شعوب العالم في مقاصد الصين التنموية والسلمية على الساحة الدولية. وإجمالا، فإن التحديات التي يواجهها الحزب الشيوعي الصيني هي التحديات التي يواجهها الشعب الصيني والأمة الصينية، والتي ستتزايد مع كل تقدم تحققه الصين.
السؤال الآخر هو: هل يدرك الحزب الشيوعي الصيني تلك التحديات ويتعامل معها؟ الإجابة، نعم. ولعل هذا هو السبب في احتفاظ هذا الحزب بحيوته ولياقته التي تمكنه من قيادة الصين في عالم متغير. وسيظل مستقبل الحزب الشيوعي الصيني مرتبطا بقدرته على تطوير ذاته وآلياته ومواكبة التغيرات في داخل الصين وخارجها.