الحضارة البشرية ملك للجميع وحمايتها واجب على الجميع
أهوار العراق وتراثه الحضاري تسترعي الاهتمام والحماية المشتركة
العالم غني بحضاراته وبهي الألوان بفضل التواصل والتبادلات بين جميع البشر. والتراث الحضاري للإنسانية، قد ساهمت بإبداعه كل شعوب الأرض بالعمل معا، وهذا التراث كنز عالمي تتوزع جواهره في كل مكان، والحفاظ عليه وحمايته وحماية التنوع الحضاري واحترامه بالعالم، مسؤولية على الجميع. حضارة وادي الرافدين إحدى أقدم وأغنى الحضارات، حيث شهدت هذه المنطقة ولادة حضارات ما قبل التاريخ، وحضارات سومر وأكد وبابل وآشور وكلدان، التي ساهمت بنصيب كبير في إثراء مضامين الحضارة الإنسانية، جنبا إلى جنب مع الحضارة الصينية وحضارات أخرى. العراقيون يدركون تماما حقيقة التراث الحضاري الإنساني المشترك، ويعملون على الإسهام بنصيبهم في الجهود الرامية لحماية تراث البشرية واحترام تنوعه وقيمته، ويدركون أيضا أن حضارة كل بلد وكل أمة تتأصل في تربة البلد وترتبط بشرايين الأمة، وهم واعون لأهمية الحفاظ على حماية تراث بلادهم باعتباره شريان الحياة الروحية لهم. هذا الإدراك والوعي يحفزهم ويحفز الجميع على تعزيز التبادلات والتعلم والاستفادة، بما يساعد على جعل حديقة الحضارات العالمية أكثر جمالا وثراء وحيوية. ومن هذا الأساس، انطلقت جهود العراقيين قبل عدة سنوات لإحياء وحماية مواقع هامة في خزينة التراث الحضاري لوادي الرافدين، وهذه المواقع هي أهوار العراق، وآثار مناطق تاريخية تعود للحضارة السومرية (حوالي عام 3200 قبل الميلاد)، هي مدن أور، التي ولد فيها نبي الله إبراهيم، وأريدو ووركاء، جنوبي العراق. الجهات العراقية المعنية بحماية هذا التراث الإنساني، رسمية حكومية ممثلة برئاسات الجمهورية والحكومة والبرلمان، ومجتمعية ممثلة بمنظمات المجتمع المدني، تسعى حاليا لإدراج هذه المواقع، المختلطة بين الطبيعي البيئي والتراثي، ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، وحمايتها الدولية، حيث يعقد مؤتمر معني بهذا الأمر في مدينة اسطنبول التركية في شهر يوليو 2016 . ومنذ بداية هذه المساعي عام 2004، بادرت هيئتان تابعتان للأمم المتحدة؛ هما برنامج الأمم المتحدة الإنمائي واليونسكو لرعاية هذه المساعي، وأعلنت كل من إيطاليا واليابان دعمهما أيضا. هذه الجهود والمساعي تستدعي من الجميع الإسهام بتقديم أي جهد أو دعم ممكن، لتتوّج بالنجاح، لأن التراث الحضاري ملك للبشرية جمعاء، وحمايته مسؤولية الجميع، والجميع يثق بأن الصين ستكون في طليعة الدول الداعمة لهذا المطلب، لأنها سباقة بدعم الدول والشعوب الصديقة وتحرص على حماية الإرث الحضاري لكل الشعوب.
أهوار العراق- جنة عدن
تمتد الأهوار على السهل الرسوبي جنوبي العراق، وتعتمد منذ القدم على المياه من نهري دجلة والفرات. ولروعتها وخصبها ونمائها، فقد وُصفت هذه المنطقة بجنة عدن، كما جاء في الكتاب المقدس. من الناحية الإدارية، هذه الأهوار، التي تتراوح التقديرات حول إجمالي مساحتها فيما بين 9000 كم مربع إلى 20 ألف كم مربع، لأنها دائمة وموسمية، وفقا لمدّ المياه وجزرها وعوامل طبيعية وإقليمية أخرى، تمتد في ثلاث محافظات جنوبي العراق هي ميسان (العمارة) وذي قار (الناصرية) والبصرة. أما جغرافيا، فهي تشكل ثلاث مجموعات رئيسية هي أهوار الحمّار الواقعة جنوبي نهر الفرات، بين محافظتي الناصرية والبصرة. والأهوار الوسطى أو المركزية، الواقعة بين نهري دجلة والفرات، بمنطقة مثلثة بين الناصرية والقرنة التابعة للبصرة، وقلعة صالح التابعة لميسان، ومنها مساحات مائية تمتد إلى مدينة العمارة بميسان، وتسمى أهوار العمارة. ثم مجموعة أهوار الحويزة، الواقعة شرقي نهر دجلة وتمتد حتى إيران.
هذه المنطقة يقطنها سكان أصليون يعرفون بعرب الأهوار، تعود أصولهم للحضارة السومرية، ولهم خصائص محلية فريدة، ورثوها عن أسلافهم، في نمط الحياة والمساكن والزراعة والتنقل والحرف الأخرى. وهذه الخصائص تتجسد في أنهم يعيشون حياة اقتصادية مستقلة مكتفية ذاتيا، معتمدين على الحياة فوق هذه المياه بمساكن (صريفة- صرائف) يصنعونها بأنفسهم من القصب والبردي، بحيث تشكل جزيرة من القصب والبردي عائمة فوق المياه، مبني عليها العديد من المساكن، إلى جانب جزر ومساكن أخرى هنا وهناك. ويعتمد عرب الأهوار في حياتهم على خيرات المنطقة المائية كالأسماك والمنتجات النهرية الأخرى والطيور الداجنة، ويمارسون الزراعة التي تتطلب وفرة وديمومة المياه، خاصة الأرز وقصب السكر، ويعتمدون على ألبان ولحوم البقر والجاموس. يوجد الجاموس بالمنطقة منذ مئات السنين، ويقضي معظم وقته مغمورا بالمياه، عدا رأسه. وعلى مسافة معينة من مساكنهم، يصنعون زريبة من القصب أيضا لإيواء حيواناتهم. إنهم يتنقلون بواسطة قوارب محلية الصنع تسمى المشحوف، وقوارب أخرى لنقل البضائع، وأخرى مزودة بمحركات لتنطلق أسرع. هذه البيئة الإيكولوجية الفريدة معروفة منذ القدم بأنها المقصد الذي تهاجر إليه طيور أبو منجل، أو اللقلق، من المناطق الباردة في سيبيريا وشمالي أوروبا. وبفضل وفرة القصب والبردي، فإن السكان المحليين، ولاسيما النساء، يعملون على إبداع منتجات حرفية تقليدية مرتبطة بهذا القصب منذ قديم الزمان، وأبرزها أنواع عديدة ومتنوعة من الكراسي والأثاث المنزلي والحُصر والسلال والمراوح اليدوية، لهم وللمدن المجاورة، حيث تحظى منتجاتهم بالإقبال كونها جميلة وصديقة للبيئة. تعتبر الأهوار مناطق غنية بالموارد المائية والثروات الاقتصادية والسياحية، التي لا ينضب معينها، فهي غنية بسكانها وبغطائها الأخضر وثرواتها الحيوانية والسمكية والطيور، ووفرة الغطاء النباتي والطبيعي ونمائه في هذه المنطقة بحيث يشكل عاملا أساسيا في تطوير الثروات الأخرى وتنميتها. وبالإضافة إلى الدور الهام الذي تلعبه البيئة الخصبة والمراعي الطبيعية الغنية للحيوانات المائية والبرية كالأسماك والبط والجاموس، فإن منابت القصب والبردي تغطي مساحات شاسعة من هذه المنطقة، ذات المسطحات الخضراء التي تسر الناظر وتطيب الخاطر. وبفضل هذه الكثافة والوفرة من النباتات المائية، تتمتع المنطقة بأهمية اقتصادية وسياحية وبيئية، إضافة للأهمية العلمية والصناعية والطبية. المسؤولون المحليون يسعون لتحفيز المبادرات الاقتصادية والسياحية بالمنطقة، لجعل الأهوار منطقة اقتصاد سياحي، جذابة توفر ملاذا هادئا لسكان المدن الصاخبة، حيث يمكن للسياح التمتع بجولات نهرية بوسائل نقل تقليدية، ويسكنون بمنازل ذات خصائص محلية، ويتمتعون بنشاطات صيد أروع أنواع سمك المياه العذبة، وزيارة مناطق محميات طبيعية ذات خضرة زاهية دائمة. ولهذه الأهوار والأراضي الرطبة، التي تعتبر الأوسع بالشرق الأوسط، تأثير إيجابي على البيئة، فهي نقية الهواء ومصدر جيد للمياه العذبة، ولتوفير الكثير من المواد الغذائية من الأسماك والطيور، والمنتجات الزراعية المتنوعة.
المرأة بالأهوار تمثل داعما حقيقيا للرجل في هذا المجتمع التقليدي الأصيل، فهي تتحمل جزءا واضحا من أعباء الحياة وتؤدي دورا فاعلا، حيث ورثت عن السلف مهارات حرفية متعددة منها حياكة البُسُط، سواء من صوف المواشي أو من القصب والبردي أو سعف النخيل، وتقوم أيضا بتصنيع حليب البقر والجاموس، لمنتجات ألبان متنوعة، منها الجبن. وغالبا ما تنتصب قامتها شامخة رشيقة، وهي تجلب كميات كبيرة من القصب والبردي، على متن قارب تدفعه بخفة بواسطة عصا قوية طويلة تسمى المَردي. وتتولى أيضا شؤون العائلة والمنزل والطبخ وتحضير خبز التنور، وهي إسهامات تجعل المرأة الأهوارية جديرة بالتقدير والاحترام لدى الجميع.
موقع أور التاريخي- المدينة التي ولد فيها نبي الله إبراهيم
أور موقع أثري لمدينة سومرية بمنطقة تل المقيّر، بالناصرية جنوبي العراق. كانت عاصمة للسومريين عام 2100 ق.م، مبنية حينها بشكل بيضاوي، وشاطئية على مصب نهر الفرات في الخليج، قرب أريدو الموغلة بالقدم، لكنها الآن منطقة بعيدة عن النهر، بسبب تغير مجرى نهر الفرات على مدى آلاف السنين. تقع أور على بعد عدة كيلومترات عن مدينة الناصرية جنوبي العراق، وهي واحدة من أقدم الحضارات المعروفة في تاريخ العالم. جاء ذكرها في الإنجيل، حيث ولد بها نبي الله إبراهيم (ع) عام 1813 ق.م أو 2000 ق.م. هذا الموقع التاريخي مشهور بالزقورة، وهي معبد سومري، لتقديس إلهة القمر نانا، في الأساطير السومرية. مبنى الزقورة، أو برج المعبد المدرّج، كان يشرف على سهل محيط بأور، وارتفاع المبنى الأصلي سبعون قدماً، وقد بناها الملك أورنمو، حوالي عام 2100 قبل الميلاد، وهي من أشهر الزقورات في بلاد الرافدين، ومن أكثر مباني المعابد (الزقورات) شهرة والأكثر مقاومة وصموداً أمام تغيرات الزمن، وما زالت آثارها باقية حتى الآن.
الدعم ضروري لجهود العراقيين
التراث الإنساني ثروة مشتركة، والحضارات الإنسانية الغنية والملونة، لها قيمة عظيمة. ومن أجل الحفاظ على تراث الماضي وعدم نسيان التاريخ، وصولا لتوطيد الأساس للانطلاق للمستقبل بمهارات إبداعية حديثة مستقاة من تراث الأجداد، لا بد من مواصلة شريان الحياة الروحية، ولا بد من التمسك بالثقافة التقليدية الطيبة وبالأخص منها الموروث الذي هو شريان الحياة الروحية، ولا بد من مواصلة الجهود حتى لو تأخر انضمام هذه المواقع التراثية العراقية لقائمة اليونيسكو، هذه المرة. أصالة التاريخ وجواهره، تؤكد لنا بالدليل القاطع، ضرورة الصبر والجَلد والحكمة والعقلانية والعلمية في التعامل مع مثل هذه الأمور الهامة. ومن هذا المنطلق، فإن جهود العراقيين لوحدهم لن تكفي لحفظ تراثهم الذي يعتبر موروثا إنسانيا مشتركا، لذلك فهم يتطلعون ويطمحون لنيل الدعم والتأييد لجهودهم ومساعيهم لضم هذه المواقع التراثية إلى قائمة اليونيسكو. وبما أن الصين ذات حضارة تعود لآلاف السنين، والشعب الصيني محب للسلام والتنمية والحضارة والتراث، ويعرف جيدا حضارة وادي الرافدين، ويكن احتراما لها، وعلى ضوء خبرات الصين في مجال حفظ التراث الحضاري، وكثرة المواقع الصينية المدرجة ضمن قائمة اليونيسكو، فإن العراقيين يتطلعون لدعم الصين في مساعيهم هذه والاستفادة من خبراتها وتجاربها. ومما لا شك فيه، أن الصين لن تخيب أملهم. هناك الكثير من الهيئات العالمية ومنظمات المجتمع المدني المختصة بهذا الشأن، من الأمم المتحدة ومن إيطاليا واليابان وإيران وتركيا وروسيا وبريطانيا، قد أكدت دعمها ومساعدتها لمساعي العراقيين لحفظ تراثهم الحضاري وبث روح الإبداع العصرية فيه. والعراقيون سعداء بالتأكيد لهذا الدعم والتعاون من الشركاء الدوليين، ويرحبون بأي تجربة ومساهمة تعزز جهودهم، وتجعل المواقع الطبيعية والتراثية بالعراق، ذات أهمية عالمية.
وفي ظل الأوضاع الصعبة التي يمر بها العراق، مهد الحضارات، ينبغي على العراقيين، أولا وقبل غيرهم، وخاصة الوزارات والهيئات المعنية مثل وزارات البيئة والموارد المائية والزراعة والخارجية والصحة، وسفارات العراق بالعالم، أن يواظبوا على هذه الجهود، ويظهروا المزيد والمزيد من الاعتزاز بالموروث الحضاري لوادي الرافدين، لأن الحضارة والتراث والتقاليد الحميدة هي روح البلاد والأمة. وإذا قلّ اعتزاز أي بلد أو أمة، بتراثه وثقافته الفكرية، فقد يفقد هذه الروح، ولن يستطيع النهوض على قدميه. إصرار العراقيين ومثابرتهم، ومعهم الكثيرين من محبي التراث العالمي في العالم أجمع، تبعث فينا روح الأمل على إمكانية بث الروح العصرية القوية في هذا التراث الإنساني الخالد، بما يحفز روح حب التاريخ والحضارة والأصالة لمد جسور الماضي العريق بالحاضر الحيوي وصولا لمستقبل يوفر فيه الضمان لكرامة الإنسان. هذه الجهود سيكتب لها النجاح عاجلا أو آجلا، وستكون بلا شك، تجربة ثرية توفر الأساس لكل من يسعى للحفاظ على المواقع الوطنية الطبيعية والتراثية، وستكون فرصة للعراقيين لحماية النهرين الخالدين دجلة والفرات وبيئتهما الإيكولوجية، وحماية نخيل العراق، سيد الشجر، وحماية وصيانة المجتمع العراقي عموما.