تنفيذ "اتفاقية باريس" رخاء مشترك للبشرية
في يونيو 2017، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب بلاده من "اتفاقية باريس"، الأمر الذي أثار دهشة وقلقا شديدا في المجتمع الدولي. توصل نحو مائتي دولة إلى هذه الاتفاقية في مؤتمر باريس بشأن تغير المناخ في إطار "اتفاقية الأمم المتحدة المبدئية بشأن التغير المناخي" وأصبحت هذه الاتفاقية سارية المفعول منذ نوفمبر عام 2016، وابتهج العالم كله بذلك. ولا شك أن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعد أكبر دولة من حيث انبعاثات الغازات الدفيئة سيؤثر بالسلب كثيرا في نمط حوكمة العالم لقضية الاحتباس الحراري. في الحقيقة، قال ترامب خلال حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية، إنه سيسعى لانسحاب الولايات المتحدة من "اتفاقية باريس" إذا فاز في الانتخابات. وبعد توليه منصب الرئاسة، عمل ترامب على إلغاء بعض القوانين واللوائح بشأن البيئة، زاعما أن تلك القوانين غير ضرورية وتضر بالتنمية في مجالات مناجم الفحم والنفط والغاز الطبيعي. فضلا عن ذلك، طلب من وكالة حماية البيئة الأمريكية إعادة صياغة "خطة الطاقة الكهربائية النظيفة" التي وُضعت خلال فترة إدارة باراك أوباما بهدف خفض الانبعاثات الكربونية، وقد تعهدت الإدارة الأمريكية السابقة بتنفيذها أثناء مفاوضات "اتفاقية باريس".
أولا: انتقاد الأطراف المختلفة لانسحاب ترامب من "اتفاقية باريس"
"اتفاقية باريس" هي الاتفاقية الثانية الملزمة قانونيا بعد "اتفاقية كيوتو"، وهي اتفاقية تاريخية تطلق مرحلة حوكمة المناخ الجديدة، وترتبط بترتيباب العالم لمواجهة تغير المناخ بعد عام 2020. وقد اعتبر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس أن قرار ترامب خيبة أمل كبيرة للجهود العالمية للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة والأمن العالمي. وقال رئيس وزراء كندا جاستن ترودو: "رغم أن قرار الولايات المتحدة الأمريكية محبط سنظل متأثرين بالزخم المتزايد حول العالم لمكافحة تغير المناخ والتحول لاقتصادات ذات نمو نظيف".
يعكس مبدأ "المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة" العدالة في مواجهة تغير المناخ. وكما يقال فإن "بناء روما لم يتم في يوم واحد". إن الحجم الإجمالي لانبعاثات الغازات الدفيئة هو نتيجة تراكمات على مدى تاريخ طويل. إن سبب تغير المناخ، باتفاق آراء أوساط التكنولوجيا، يرجع إلى النشاط البشري وخاصة أعمال التصنيع في الدول المتقدمة. على سبيل المثال، إذا نحسب الحجم التراكمي التاريخي لانبعاثات الغازات الدفيئة في مختلف الدول، فإن انبعاثات الولايات المتحدة الأمريكية تشكل 29% من الحجم الاجمالي لانبعاثات العالم كله، فيما يشكل نصيب الصين 8% فقط. لذا، على الدول المتقدمة تحمل المسؤولية التاريخية وتنفيذ التزامات تخفيض الانبعاثات والوفاء بتعهداتها في "اتفاقية باريس" حول تقديم المساعدات للدول النامية المعنية، مثل الدعم المالي والتقني وبناء القدرات. بالنظر إلى الوضع الخطير لأحوال المناخ العالمي، تعد "اتفاقية كيوتو" و"اتفاقية باريس" جهودا مشتركة للمجتمع الدولي لوقف تدهور المناخ العالمي. إن الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أكبر دولة رأسمالية، لا ترفض تحمل المزيد من المسؤوليات الدولية فحسب، وإنما أيضا انسحبت من "اتفاقية باريس" وتعارض الاعتراف بحقيقة الاحتباس الحراري. الأمر الذي يثير نقدا عالميا لإدارة ترامب ويزيد شكوك العالم حول فكرة "أمريكا أولا". إن وضع الاحتباس الحراري العالمي يفرض على المجتمع الدولي التخلي عن "اللعبة الصفرية"، وإنشاء "رابطة المصير المشترك للبشرية" وبناء آلية حوكمة تغير المناخ المتمثلة في التعاون والفوز المشترك والعدالة، من أجل إقامة نمط "بذل كافة الأطراف أقصى الجهود لتحقيق الفوز المشترك".
كان الاتحاد الأوروبي أول منظمة طرحت تخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وقدم مساهمات كبيرة في التوصل إلى "اتفاقية باريس". بعد إعلان ترامب الانسحاب من هذه الاتفاقية، ندد الاتحاد الأوروبي بهذه الخطوة تنديدا شديدا. أصدر الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون بيانا باللغة الإنجليزية، قال فيه إن فرنسا تدعو كل الدول الموقعة على الاتفاقية للبقاء في إطار اتفاق باريس، والتمسك بالتزاماتها وعدم التخلي عنها. وحث ماكرون العلماء والباحثين الأمريكيين على القدوم إلى فرنسا للعمل، من أجل مكافحة تغير المناخ، قائلا: "إلى كل العلماء والمهندسين ورجال الأعمال والمواطنين الملتزمين الذين خاب أملهم من قرار رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، أريد أن أقول إنهم سيجدون في فرنسا دعما لأبحاثهم. أدعوهم: تعالوا واعملوا هنا معنا، لنعمل معا على حلول ملموسة لمناخنا وبيئتنا."
من الواضح أن العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا قد أصبحت أكثر حساسية. يعتقد الرأي العام في أوروبا أن مواجهة تغير المناخ واحدة من أهم قضايا عصر العولمة بعد مكافحة الإرهاب. لكن الإدارة الأمريكية لا تتعاون مع أوروبا في هذه القضية الجوهرية، فكيف تتطلع واشنطن إلى دعم أوروبي لها على الساحة الدولية، مثل السابق؟ وفي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، واجه قرار ترامب معارضة كبيرة أيضا، حيث يعتقد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أن الدولة التي تتمسك بـ"اتفاقية باريس" ستستفيد من الصناعات والوظائف الجديدة. ويثق أن كل ولاية وكل مدينة وكل شركة ستبذل أقصى الجهود لمساعدة الأجيال التالية لحماية كوكبنا الوحيد.
لقد جاء قرار الولايات المتحدة الأمريكية بالانسحاب من المعاهدة مخيبا للثقة والآمال ليمثل حنثا آخر بالوعد من جانب أكبر "نظام ديمقراطي" في العالم. كان جورج ووكر بوش بعد تولي منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، قد عارض كافة السياسات والقرارات التي وقعها بيل كلينتون. لذا، انسحبت إدارة بوش من "اتفاقية كيوتو". الآن، التاريخ يعيد نفسه. يعارض ترامب قرارا اتخذه باراك أوباما. الاتفاقية الدولية هي تعهد من الدول الموقعة في شأن معين. إذا كان نظام تداول السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية الديمقراطية يتجسد في معارضة كل إدارة جديدة لقرارات الإدارة السابقة لها، فكيف تثق الدول الأخرى بالتعهدات الأمريكية؟ وقد لاحظنا إعلان كثير من مسؤولي الولايات والمدن الأمريكية الكبيرة عن مواصلة أعمال تخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة بعد إعلان ترامب قراره، مما يخفف ضرر القرار إلى حد ما.
ثانيا: "ذريعة" ترامب للانسحاب من اتفاقية باريس
بينما كان ترامب يعلن قراره، كانت الصين هي هدف هجومه، إذ قال إن تخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة هي فكرة الصين التي تريد أن تدفع الولايات المتحدة الأمريكية ثمن ذلك. لذا، ينبغي للولايات المتحدة الأمريكية أن تنسحب من الاتفاقية.
تدعو الصين وتنفذ مواجهة تغير المناخ العالمي، حيث قدمت مساهمات إيجابية في التوصل إلى "اتفاقية باريس" وتنفيذها، وهو الأمر الذي نال تقديرا عاليا من المجتمع الدولي. في سبتمبر 2016، بمناسبة قمة مجموعة العشرين في مدينة هانغتشو، قدمت الصين اقتراحا لأعضاء مجموعة العشرين لدفع تنفيذ "اتفاقية باريس" في أسرع وقت ممكن. بعد ذلك، على هامش الاجتماع الوزاري لدول الباسك (البرازيل، الهند، جنوب أفريقيا، الصين)) بشأن تغير المناخ والحوار الاستراتيجي الرفيع المستوى بين الصين والاتحاد الأوروبي ومؤتمر وزراء خارجية دول "بريكس" واجتماع مجلس إدارة البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، دفعت الصين المناقشات حول القضايا المتعلقة بحوكمة المناخ العالمي، ودعت كافة الأطراف لتنفيذ "اتفاقية باريس" بعد الاجتماعات. وفي نفس الوقت، تواصل الصين تعزيز تعاون الجنوب- الجنوب، حيث تعهدت الصين بإنشاء صندوق تعاون الجنوب- الجنوب برأس مال عشرين مليار يوان (الدولار الأمريكي يساوي 7ر6 يوانات) وبناء عشر مناطق نموذجية للانبعاثات الكربونية المنخفضة في الدول النامية ومائة مشروع لتقليل ومواجهة تغير المناخ، وتقديم فرص لألف شخص من الدول النامية للمشاركة في تدريبات مواجهة تغير المناخ في إطار مشروع التعاون.
الصين، باعتبارها دولة نامية، تعد مواجهة تغير المناخ حاجة داخلية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية. يؤثر تغير المناخ في النظام الإيكولوجي الطبيعي تأثيرا كبيرا، وتتحدى الظواهر الجوية المتطرفة بقاء البشرية وتنميتها. الصين، التي يبلغ عدد سكانها مليارا وثلاثمائة مليون نسمة، من أكثر دول العالم المتضررة من التأثيرات السلبية لتغير المناخ. لذا، تتخذ إجراءات مختلفة وتتمسك بأعمال تخفيض الانبعاثات لتحقيق هدفها، بدلا من اتخاذ نمط الدول الغربية الصناعية المتمثل في "الانبعاثات الكبيرة الحجم". تعيش الصين في مرحلة التنمية السريعة للتصنيع والتحول الحضري، فتواجه صعوبات متعددة مثل التنمية الاقتصادية والقضاء على الفقر وتحسين معيشة الشعب وحماية البيئة ومواجهة تغير المناخ. في هذا السياق، تعد مواجهة تغير المناخ بصورة إيجابية وبذل الجهود لتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة ورفع قدرة مواجهة تغير المناخ حاجة داخلية، لضمان الأمن في مجالات الاقتصاد والطاقة والبيئة وإنتاج الحبوب الغذائية وحياة الشعب وممتلكاته، ولتحقيق التنمية المستدامة. طرحت حكومة الصين مفاهيم التنمية الخمسة المتمثلة في "الابتكار والتنسيق والخضرة والانفتاح والتمتع المشترك"، ووضعت "التنمية الخضراء" في مقدمتها. أشار الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى أهمية حماية البيئة قائلا: "لا نريد جبالا من الذهب والفضة فحسب، وإنما أيضا نحتاج إلى الجبال الخضراء والأنهار الصافية. الجبال الخضراء والأنهار الصافية لا تقل شأنا عن جبال الذهب والفضة. "
تضع حكومة الصين حماية البيئة في مكانة خاصة. تزيد الصين الثقة والقوة المحركة في قضية مواجهة تغير المناخ بموقفها الثابت وأعمالها الجدية. أعربت الصين في مناسبات مختلفة عن أنها ستتسمك بتنفيذ هذه الاتفاقية مهما تغيرت مواقف الدول الأخرى منها.
الكرة الأرضية واحدة، وكل دولة تقع على هذه الكرة الأرضية. لقد أصبحت رابطة المصير المشتركة مصير المجتمع الدولي. وبالنظر إلى الأوضاع المعقدة والقضايا العالمية في الاقتصاد العالمي، لا تستطيع أي دولة أن تحسن نفسها بدون النظر إلى الدول الأخرى. في إطار "اتفاقية باريس"، قدمت الصين للأمانة العامة لاتفاقية الأمم المتحدة المبدئية بشأن التغير المناخي في يوليو عام 2015، خطتها لتقليل الانبعاثات، والتي حددت أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الصين ستصل إلى ذروتها بحلول عام 2030، ومن الأفضل أن تصل إليها قبل هذا الموعد، وأن انبعاثات ثائي أكسيد الكربون لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي ستنخفض بنسبة من 60% و65%، مقارنة مع عام 2005. من أجل تحقيق هذه الأهداف، ستواصل الصين العمل في مجالات الاستراتيجية الوطنية ونظام الصناعات والمشاركة الاجتماعية والتعاون الدولي.
ثالثا: مغزى "اتفاقية باريس"
يعتبر التوصل إلى "اتفاقية باريس" وتنفيذها منعطفا لنمط حوكمة المناخ الدولي، وانطلاق نقطة جديدة لمواجهة تغير المناخ، بما يعكس البناء المشترك لـ"رابطة المصير المشتركة للبشرية". وفي ظل مبدأ "المسؤولية المشتركة لكن المتباينة"، يجب على كل دولة أن تتحمل المسؤوليات الدولية المتناسبة مع ظروفها الواقعية ومرحلة تنميتها وقدراتها الذاتية لتحقيق المصالح المشتركة للبشرية. بغير ذلك، لن تستطيع دول العالم تحقيق الأهداف الطويلة المدى المحددة في "اتفاقية باريس"، وهي: تقييد مدى ارتفاع درجة الحرارة في العالم، وحماية السلامة الإيكولوجية للأرض والتنمية المستدامة للمجتمع البشري. لقد شهد العالم إنجازات الصين في تخفيض الانبعاثات وتوفير الطاقة، حيث انخفض حجم الانبعاثات الكربونية في الصين بنسبة 8ر21%، أي ما يعادل 34ر2 مليار طن من ثائي أكسيد الكربون، بين عامي 2011 و2015. وفي عام 2016، انخفض حجم الانبعاثات الكربونية في الصين بنسبة 6ر6% مقارنة مع السنة السابقة، أي أعلى من النسبة المستهدفة لتلك السنة وهي 9ر3%،. تحافظ الصين على قوة وزخم لمواجهة تغير المناخ. إن الصين دولة كبيرة تتحمل مسؤولياتها. نحن الصينيين نؤمن بـ"الوفاء بالعهد والحزم في العمل". سنتمسك بتنفيذ مفاهيم التنمية الخمسة و"اتفاقية باريس" والعمل على مواجهة تغير المناخ العالمي. وستلتزم الصين بـ"اتفاقية باريس" لحماية دار البشرية كلها، ولحماية الأرض التي يعيش فيها أبناؤها. الصين هي أكبر دولة مستثمرة في الطاقة الجديدة في العالم. إن تعميق الأبحاث وتطوير تقنيات توفير الطاقة وتخفيض الانبعاثات هي مسؤوليات الصين في مشاركة حوكمة العالم، وبناء رابطة المصير المشترك للبشرية، ودفع التنمية المشركة للبشرية. يتطلع العالم إلى عودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى "اتفاقية باريس".
الصين والدول العربية شريكان استراتيجيان على نحو شامل. يتمتع الجانبان بمواقف متطابقة أو متشابهة في الحوكمة العالمية ومواجهة تغير المناخ، وغيرهما من القضايا الدولية الكبيرة. هذا حجر أساسي لتوطيد الثقة السياسية المتبادلة، وضمان هام لأداء الدور الدولي. يعد مجال الطاقة الجديدة عنصرا هاما للتعاون الاستراتيجي الشامل بين الصين والدول العربية. لقد أصبحت الصين أكبر دولة في توفير الطاقة، واستخدام الطاقة الجديدة والطاقة المتجددة. أصدرت الصين سلسلة من السياسات لدفع تطوير الطاقة الجديدة واستغلالها، وأعلنت التوقف عن إنتاج الفحم وإمدادات الكهرباء بالفحم بحجم كبير، مما يتيح فرصة لتطوير الطاقة الجديدة. تقدم أعمال الصين مساهمات كبيرة لتخفيض الانبعاثات العالمية، وتقدم مزيدا من فرص التعاون بين الصين والدول العربية.