طريق العودة إلى موطني أصبح أطول لكن أسهل
مسيرة حياة أسرة خلال مرحلة الإصلاح والانفتاح
في سبعينات القرن العشرين، كنت أعيش مع أسرتي في منطقة شينجيانغ الويغورية الذاتية الحكم. في ذلك الوقت، كنا جميعا نتدفأ بموقد الفحم. في الثمانينات، انتقلنا إلى بيت جديد، التدفئة فيه تعمل بالغاز. في التسعينات، وبعد أن تخرجت في الجامعة، عملت مدرسة جامعية، وأصبح أخي موظفا وصارت أختي معلمة، وكلاهما انتقل للعمل في مدن كبيرة، فصارت لقاءاتنا نادرة. أمسى مسقط رأسي بعيدا عنا. الآن، وبفضل السكك الحديدية الفائقة السرعة والطائرات، بات لدينا مزيد من الوقت والفرص لنلتقي معا ومع والدينا في بيتنا بمسقط رأسنا. خلال أربعين سنة، تحسنت معيشتنا كثيرا وتوسعت مجالات أعمالنا.
تحرص أمي دائما على متابعة نشرة الأحوال الجوية لتعرف حالة الطقس في بكين وتشنغدو وقوانغتشو وأورومتشي؛ فهي المدن التي يعيش بها أفراد عائلتها المنتشرون أرجاء في الصين. لا يحب الصيني التقليدي مغادرة مسقط رأسه، حيث ولد وترعرع، ويفضل جمع شمل الأسرة، ولكن اليوم، حال كثير من العائلات الصينية يشبه حال عائلتي، ينتشر أفرادها في أماكن مختلفة.
بدأت قصة انتقال أسرتي من مدينة إلى أخرى مع أبي. ولد والدايّ في مدينة تشنغدو بمقاطعة سيتشوان. تخرج أبي في الجامعة عام 1963، وتخصص في مجال الإلكترونيات الذي كان يعتبر تخصصا جديدا آنذاك. كانت الحكومة، في ذلك الوقت، تعين الخريجين، وقد تم تعيين أبي في مصنع الصمامات الإلكترونية في بكين. بعد عدة سنوات، تدهور وضع بعض الشركات مع إصلاح الشركات المملوكة للدولة، هُجرت تلك المصانع وتحولت إلى منطقة تجمع للفنانين الرواد في بكين، تحمل حاليا اسم "منطقة 798 للفنون" في بكين.
في عام 1969 انتقل والدايّ من جنوبي الصين إلى مدينة أورومتشي في شمال غربي الصين، حيث موقع العمل الجديد لأبي. وبسبب برودة الجو، تعلمت والدتي حياكة المعاطف والسراويل المبطنة بالقطن والبلوزات الصوفية، بينما كان أبي يقوم بإشعال الموقد في المنزل لتدفئته خلال الليل. كان أبي يذهب إلى منجم فحم قريب من المدينة برفقة أصدقائه لشراء شاحنة فحم وتوزيعها بينهم. بعد تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح، تم بناء العديد من البنايات مع تسارع التنمية الاقتصادية في الصين، وفي عام 1980، انتقلنا إلى شقة جديدة، التدفئة فيها تعمل بالغاز.
بالإضافة إلى الجو، كان الطعام والعادات الغذائية مشكلة أخرى. من عادة أهل سيتشوان تناول الأرز، بينما يفضل أبناء شمالي الصين تناول الأكلات المصنوعة من الطحين. كانت الصين، حينذاك، تنفذ نظام كوبونات الطعام، وكان نصيب الفرد من الأرز كيلوغراما واحدا في الشهر. كان والدايّ يبذلان محاولات لتبادل الحبوب مع زملائهم الذين يفضلون القمح على الأرز. وبما أن سعر الأرز كان غاليا، كان والداي يستبدلان نصف كيلوغرام من الأرز بكيلوغرامين من طحين الذرة أو كيلوغرام من طحين القمح. إضافة لذلك، كان والدايّ يجلبان الأرز معهما من سيتشوان. في السبعينات، كنا نحمل معنا الأرز وغيره من المواد الغذائية في السفر. ذات مرة، في عام 1976، جلبت أختي الكبيرة حقيبة من الأرز، عندما عادت الى شينجيانغ بعد زيارتها مع الأم موطننا في مقاطعة سيتشوان.
فيلم "الطاووس" الصيني الذي أنتج في عام 2005 وفاز بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين السينمائي الدولي، يعيد ذكريات الصينيين الذين ولدوا في سبعينات القرن العشرين، ومنها أنهم كانوا يصنعون الكُرَات من مسحوق الفحم والخضراوات المملحة.
كانت ثمانينات القرن الماضي حقبة مزدهرة ومفعمة بالأمل والطموحات. بذل والداي أقصى جهودهما في عملهما، وبدأت الحكومة الصينية حينذاك تحديد اللقب الرسمي للموظف التقني. فاحتاج أبي إلى المشاركة في امتحان للغة الإنجليزية للحصول على لقب مهندس من الدرجة الأولى. كان أبي درس اللغة الإنجليزية في جامعته، لكنه لم يستخدمها ولم يمارسها لمدة أكثر من عشر سنوات. فبدأ أبي وهو في سن الأربعين يتعلم اللغة الإنجليزية بجد واجتهاد لاجتياز الامتحان. عندما كنا في المرحلة الثانوية، كنا أنا وأبي وأختي نذهب إلى حديقة قريبة لدراسة الإنجليزية، وكنا معتادين على التفرق في ثلاثة أماكن من الحديقة للدراسة.
التحقت أختي بالجامعة في عام 1985. في ذلك الوقت، كان عدد الطلاب الذين يمكنهم الالتحاق بالجامعة قليلا جدا، لم تقبل كل جامعات الصين في عام 1985 إلا ستمائة وسبعين ألف طالب. كانت أختي أول فتاة تلتحق بالجامعة من بين أبناء زملاء أبي. وقد أصبحت لاحقا معلمة في مدرسة مهنية واستقرت في مدينة أورومتشي.
التحقت أنا بجامعة رنمين (الشعب) الصينية في عام 1988. المسافة بين أورومتشي وبكين أكثر من 3770 كيلومترا، ويستغرق السفر بينهما اثنتين وسبعين ساعة، أي ثلاثة أيام وثلاث ليال بالقطار. بعد كل رحلة بالقطار، كانت ساقاي تتورمان بسبب الجلوس لفترة طويلة. اكتساب العلم في بكين كان أهم مكسب لي في حياتي. في ذلك الوقت، كانت هناك أفكار ومفاهيم مختلفة تدخل إلى الصين، وكانت الجامعة تقيم ندوات ومناقشات لبحث تلك الأفكار. دخل إلى الصين الكثير من الكتب الأدبية والفلسفية وتمت ترجمتها. مازلت أتذكر ما أثارته عندي رواية "مائة عام من العزلة" للكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز من الهزة النفسية ، عندما قرأتها في المكتبة في السنة الثانية في الجامعة. بعد التخرج في جامعة رنمين الصينية، واصلت الدراسة في تخصص الأدب الكلاسيكي الصيني، فحصلت على الماجستير في الأدب من جامعة رنمين الصينية والدكتوراه في الأدب من جامعة بكين، بعد ذلك، أصبحت مدرسة جامعية، وقمت بتدريس اللغة الصينية في بلجيكا وإيرلندا.
أخي أصغر مني بثلاث سنوات. في عام 1990، التحق بجامعة شيامن ودرس المحاسبة، وبينما كنت أنا في السنة الثالثة من دراستي الجامعية، بدأت أختي عملها. اشترينا أنا وأمي وأختي بعض الأمتعة والملابس وغيرها من اللوازم التي يحتاجها أخي في سفره. ذات يوم التقينا بأصدقاء والدتي الذين سألوها عن أخي قائلين: "هل استلم ابنك إشعار القبول في الجامعة؟" فأجابت أمي بفخر "نعم، لقد حقق نجاحا باهرا." لم يكن غير قليل من الطلاب الصينيين يمكنهم الالتحاق بالجامعات، حيث كان المعدل الإجمالي للالتحاق بالجامعات الصينية بين 3 و4% فقط من الطلاب، فكنا نحن الثلاثة من المحظوظين. تخرج أخي في الجامعة في منتصف التسعينات، عندما عززت الصين من الإصلاح والانفتاح. في ذلك الوقت، كانت التنمية الاقتصادية سريعة ومليئة بالفرص، لذلك استقر أخي في مدينة قوانغتشو التي تعتبر مدينة اقتصادية هامة ومن كبرى المدن في جنوبي الصين. حاليا، يشغل أخي منصب رئيس القسم المالي لفرع جنوبي الصين التابع لإحدى الشركات المملوكة للدولة، ولديه توأم جميل.
عندما تستعيد الذاكرة التغيرات التي حدثت في الأربعين سنة الماضية، تبرز سهولة الانتقال كأهم شيء بالنسبة لعائلتي. منذ بدء عملهما في أورومتشي، كان قلما يعود والدايّ إلى مسقط رأسهما، مرة كل بضع سنوات، بسبب الإجازات القصيرة والدخل المحدود. عندما غادر أبي مسقط رأسه لأول مرة، لم يعد إليه لزيارة جدتي إلا بعد عشر سنوات. لا أزال أتذكر المشقة التي كنا نعانيها في السفر بالقطار. كانت الرحلة من مدينة أورومتشي إلى مدينة تشنغدو تستغرق أكثر من ستين ساعة في قطار مزدحم. كان من لديه مقعد بالقطار ينام عليه خلال الليل، أما الراكب الذي لم يحجز مقعدا، فكان يبقى واقفا في الممر طوال النهار، وينام على الأرض ليلا. في ذلك الوقت، كان النوم تحت المقاعد هو أفضل وسيلة للنوم. كان الركاب يضعون غالبا الصحف والشراشف تحت المقاعد، ليناموا عليها.
في منتصف التسعينات، عاد والدايّ إلى مدينة تشنغدو في سيتشوان بعد تقاعدهما عن العمل، إذ يعتقد الصينيون أن عليهم العودة إلى مسقط رأسهم في نهاية المطاف. تتمتع مدينة تشنغدو بمناخ معتدل ومنتجات وفيرة وحياة مريحة، وهي مناسبة لكبار السن. لكن، لم يكن في تشنغدو فرص كثيرة لالتقاء وتجمع أفراد أسرتي، لأننا نستقر ونعيش في أماكن مختلفة في الصين وإجازاتنا قصيرة وفي أوقات مختلفة. كان السفر مكلفا، وذلك أيضا أحد الأسباب الهامة لقلة لقاءاتنا. عندما حصلت على الدكتوراه في عام 2003، كان سعر تذكرة السفر بالطائرة من بكين إلى تشنغدو يعادل ثلثي راتبي الشهري، ومن أورومتشي إلى تشنغدو يفوق دخل أختي في الشهر. كما كانت هناك صعوبة في شراء تذاكر القطار، وخاصة في إجازة عيد الربيع. أخي المشغول دائما في عمله، لم يكن يستطيع العودة إلى مسقط رأسه لزيارة والدينا إلا في إجازة عيد الربيع. أما أختي، فكانت تزور والديّ في العطلة الصيفية للمدارس دائما، عندما لا يكون الطلب على تذاكر القطار عاليا. لم يلتق أخي وأختي منذ عشر سنوات. حاليا، أصبحت حياتنا أكثر سعادة ويسرا، كما انخفضت نسبة تكاليف السفر مقارنة مع دخل كل منا. لذا، الآن تتاح لنا فرص أكثر للقاء. والدايّ عمرهما الآن ثمانون سنة وصحتهما جيدة. ونحن نعود إلى البيت لزيارتهما قدر الإمكان.
في زمن آبائنا، كانت الحكومة تقوم بتوزيع المساكن وتوفير الأعمال وحتى الغذاء، فكان الفرد يعمل في وظيفة دائمة حتى التقاعد، ولا يقلق من التسريح من وظيفته. كان الضغط الأكبر عليهم هو نقص المواد، فكانوا يعملون لكسب المال. بالنسبة إلى جيلنا، ازداد ضغط العمل بشكل كبير. عندما تخرجت أختي في الجامعة، كانت الحكومة لا تزال تعين بعض الخريجين، فتم تعيينها للعمل في شينجيانغ، لأنها درست فيها، وسجل إقامتها في شينجيانغ أيضا. بالنسبة لي ولأخي، كان أمامنا اختيارات أوسع. استقررت أنا في بكين بحكم تخصصي في مجال الثقافة والتعليم، اعتبر بكين مركز الثقافة في الصين،. أما أخي، فقد استقر في جنوبي الصين الأكثر تقدما اقتصاديا، لممارسة الأعمال المتعلقة بالاقتصاد. وهو يغير عمله مرة بعد أخرى ويتنقل من الشركات المملوكة للدولة إلى الشركات الخاصة، ومن الشركات الخاصة التي أسسها مستثمرون من هونغ كونغ إلى المؤسسات الوطنية. في مجال العمل اليوم، ربما نسرح من أعمالنا إذا لم نحقق نتائج جيدة، لذا لا بد لنا من بذل جهود حثيثة في العمل.
لا شك أن حياتنا المادية أفضل مما كانت حياة والدينا. كان عدد السيارات في شوارع بكين قليلا قبل أربعين سنة. لم يكن يركب السيارة غير كبار المسؤولين والقادة. قبل عشرين سنة، كان عدد قليل من الصينيين يمتلكون سيارات خاصة. قبل عشرين سنة، كنت أندهش إذا قيل لي إن شخصا اشترى سيارة. الصينيون الذين ولدوا في السبعينات تراكمت ثرواتهم مع تنمية الاقتصاد الصيني، مثلا، أصبح لدينا مساكننا الخاصة بعد تخرجنا في التسعينات، إضافة إلى مساكن أخرى قدمتها لنا وحدات العمل. بعد عام 2000، بدأنا شراء منازلنا وسياراتنا الخاصة، فأصبح لدى العديد من الصينيين شقة أو شقتان وسيارة، بل أن أخي اشترى ثلاث شقق.
باي جيوي يي، الشاعر العظيم في أسرة تانغ، قال في قصيدة له: "ننظر معا إلى القمر فتنهمر الدموع، قلوبنا المتفرقة في خمسة أماكن مختلفة مشاعرها واحدة في الليل". في ذلك الوقت، عاش باي جيوي يي وإخوته وأخواته في خمسة أماكن مختلفة وكانوا ينظرون إلى القمر الجميل ويشتاقون لموطنهم. إن مشاهدة القمر والاشتياق إلى مسقط الرأس موضوع شائع في الشعر الكلاسيكي الصيني. كلما قرأت أبياته الرائعة، تأثرت كثيرا بمشاعر وأحاسيس الشعراء. في الوقت الحاضر، كثيرا ما يغادر الصينيون مسقط رأسهم للتعلم أوالعمل، وينتقلون بين المدن، مثل عائلتي التي يستقر أفرادها في أربعة أماكن مختلفة. لكن الدموع لم تعد تنهمر بسبب الاشتياق إلى مسقط الرأس، لأننا أصبحنا قادرين على اللقاء والتجمع في بيت الأسرة خلال بضع ساعات فقط عبر السكك الحديدية الفائقة السرعة أو الطائرات. تخرجت ابنة أختي في الجامعة هذا العام وتستعد لامتحان القبول للدراسات العليا، كما تخطط للدراسة في الخارج في المستقبل. ربما ستكون رحلة عودتها إلى مسقط رأسها أكثر بعدا.