ملف العدد < الرئيسية

تشيوانتشو.. شاهدة على الحضارة الملاحية الصينية القديمة

: مشاركة
2021-09-01 15:40:00 الصين اليوم:Source جيانغ بوه:Author

 في الماضي البعيد، كانت تشيوانتشو ميناء بحريا صينيا مشهورا، وهي شاهدة تاريخية على احتضان الأمة الصينية للحضارة البحرية الزرقاء.

في الدورة الرابعة والأربعين للجنة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) للتراث العالمي والتي استضافتها الصين، سُلطت الأضواء على مدينة تشيوانتشو، التي كانت مركزا عالميا للتجارة البحرية في فترة أسرتي سونغ ويوان (960- 1368)، باعتبارها من المواقع التي رشحتها الصين للانضمام إلى قائمة التراث العالمي.

في عام 2016، بدأت مصلحة الآثار التاريخية الصينية إطلاق مشروع ترشيح طريق الحرير البحري لإدراجه في قائمة التراث العالمي، فشرعت تشيوانتشو في عدد من أعمال حماية التراث الثقافي باعتبارها مدينة رائدة في هذا المشروع. في عام 2018، رشحت حكومة تشيوانتشو مشروع "التراث التاريخي لتشيوانتشو (مدينة الزيتون) القديمة" لإدراجه في قائمة التراث العالمي، ولكن، بعد المراجعة في الدورة الثانية والأربعين للجنة التراث العالمي، كانت هناك حاجة إلى مواد إضافية.

وبعد المزيد من الاكتشافات الأثرية الدقيقة، وإعادة تفسير قيمة التراث وتعديل مشروع الترشيح أصبح الموضوع الرئيسي لمشروع "تشيوانتشو، المركز العالمي للتجارة البحرية لأسرتي سونغ ويوان بالصين" أكثر تميزا، وأضحى وصفُ قيمة التراث أكثر وضوحا واكتمالا، وزاد عدد مواقع التراث في المشروع من ستة عشر إلى اثنين وعشرين موقعا، فحظي المشروع باعتراف كامل به من قبل المتخصصين.

في الخامس والعشرين من يوليو عام 2021، تم بنجاح إدراج مشروع الصين "تشيوانتشو، المركز العالمي للتجارة البحرية لأسرتي سونغ ويوان بالصين" في قائمة التراث العالمي. فما هي قيمة هذا التراث العالمي؟

مدينة رائدة في الملاحة البحرية

بفضل موقعها الجغرافي المميز، تتمتع تشيوانتشو بظروف طبيعية ملائمة للملاحة البحرية: فهي مدينة ساحلية؛ وتهب عليها الريح الموسمية، ولديها ثروات وافرة. لذلك، أصبح أبناء تشيوانتشو رواد فتح الخطوط البحرية والإبحار إلى دول العالم، قديما.

في عام ألف وسبعة وثمانين، أنشأت حكومة أسرة سونغ الشمالية، هيئة إدارة السفن التجارية والمعروفة باسم "شيبوه" في مدينة تشيوانتشو. فشهدت المدينة تطورا سريعا في الملاحة البحرية، وأصبحت مثالا ونموذجا مميزا للموانئ البحرية في العالم، واحتلت مكانة هامة في تاريخ الملاحة العالمي.

من حيث تخطيط وتشكيل المدينة، يمكن القول إن تشيوانتشو القديمة هي نموذج لمدن الميناء: يقع ميناء تشيوانتشو في منطقة التقاء الأنهار والبحر، وبذلك لا يتمتع بمواصلات جيدة فحسب، وإنما أيضا يستطيع تجنب الإعصارات إلى حد كبير؛ وبنيت المدينة على طول النهر، وتقع الأرصفة والمحلات والأسواق والمخازن على جانبي النهر؛ وتتناثر في أرجاء المدينة البنايات الحكومية ومساكن الموظفين وبيوت المدنيين والتجمعات السكنية للأجانب. بجانب ذلك، واعتمادا على نظام نهر جينجيانغ ونظام النقل البري المتطور، تشكلت بيئة اقتصادية تدعم تطور الأعمال التجارية للميناء في تشيوانتشو: فقد بنيت قمائن الخزف وحدائق الشاي على طول النهر، وتطورت صناعة صهر الحديد وصناعة النسيج بكثافة؛ وانتشرت داخل المدينة ورش الأشغال اليدوية التي يديرها الحرفيون المهرة، بينما توجد منطقة تجارية خارج المدينة، يتجمع فيها التجار الصينيون والأجانب. كانت مدينة تشيوانتشو مزدهرة بصناعة صياغة معادن الذهب والفضة والبرونز والحديد والنحاس والقصدير، في داخلها وخارجها، ومازال الناس يتناقلون اسم "شارع صهر الحديد" و"شارع صهر القصدير" المعروفين حتى اليوم، بل إن السكان المحليين نقلوا اسم "شارع صهر الحديد" إلى مدينة ملقا القديمة، وهي ميناء في ماليزيا.

باعتبارها موقعا تراثيا لحضارة الملاحة الصينية القديمة، تعتمد مدينة تشيوانتشو على بيئتها الجغرافية الفريدة ونظامها الاقتصادي الحيوي وجينات الملاحة الممزوجة في دماء أبناء تشيوانتشو، وهي تجسد حكمة الحياة وروح السعي والمثابرة لدى الصينيين القدماء في آن واحد.

قديما، وصلت السفن التجارية التي انطلقت من ميناء تشيوانتشو إلى خليج سيام وبحر جاوة ومضيق ملقا وحتى المحيط الهندي ومياه الخليج العربي، مما ترك أثرا جميلا للصينيين المعروفين بالحضارة الزراعية في الجانب البعيد من العالم.

وقد قال الرحالة ماركو بولو عن تشيوانتشو: "يوجد في الأسواق كثير من العطور والأحجار الكريمة والأخشاب النفيسة والمجوهرات من الذهب والفضة وغيرها، حتى لو كانت مدينة الإسكندرية مشهورة بكونها مركز العطور في البحر الأبيض المتوسط، فإن حجم تجارة العطور فيها لا يعادل عُشر حجمه في ميناء تشيوانتشو."

بالإضافة إلى ماركو بولو، فإن الرحالة المغربي ابن بطوطة والصيني وانغ دا يوان المشهوران، قاما كل منهما برحلة بعيدة من الخليج العربي إلى ميناء تشيوانتشو، بل وقام الرحالة وانغ برحلتين ذهابا وإيابا. وقد أثمرت تلك الرحلات كتابين هما ((رحلة ابن بطوطة)) و((الحالة العامة لدول العالم)). وكذلك تركت رحلات تشنغ خه، الذي يعتبر أسطورة بحارة الشرق أثرا تاريخيا في هذه المدينة العريقة: يوجد في جبل لينغشان بتشيوانتشو، نصب تذكاري لتشنغ خه، يسجل الرحلة التاريخية لأكبر أسطول في العالم آنذاك، والذي قاده تشنغ خه إلى الخليج العربي.

ملتقى الحضارات

يربط ميناء تشيوانتشو الصين بالعالم، ويحمل ذاكرة تاريخية للملاحة العالمية، وهو ممثل نموذجي لتراث الثقافة البحرية العالمية قبل عصر "الملاحة الكبرى" وعصر "الاكتشاف الجغرافية العظيمة". لذلك، جاء في تقييم كل من اليونسكو والمجلس الدولي للآثار والمواقع، أن ميناء تشيوانتشو يتمتع بـ"قيمة بارزة لكل البشرية" ويستحق أن يكون من التراث العالمي.

استقبل هذا الميناء الجميل المظلل بأشجار إريثرينا (مخلب النمر) مبعوثين وتجارا من جنوب شرقي آسيا وبلاد فارس والدول العربية والهند وسيلان وحتى من بلدان البحر الأبيض المتوسط. يقع في هذه المدينة المينائية "قصر تيانهو"؛ معبد ما تسو، إلهة البحر الصينية، ومعبد كاييوان البوذي، ومسجد "الصحابة"، و"معبد بانفو" الهندوسي، ومعبد المانوية، ومعبد النسطورية، والكنيسة المسيحية، ويمكن تسميتها بالمتحف الطبيعي لديانات العالم.

تعايش في تشيوانتشو أبناء قوميات عديدة بألوان بشرة ومعتقدات ولغات مختلفة، في وئام وتناغم، مما يشكل مشهدا تراثيا للتنوع الثقافي.

مكانة تشيوانتشو على طريق الحرير البحري تشابه مكانة دونهوانغ على طريق الحرير البري، فهي تروي قصص تواصل وترابط البشرية. بالإضافة إلى موانئ تشيوانتشو وقوانغتشو ونينغبوه ويانغتشو ودنغتشو الصينية، هناك كثير من الموانئ الأجنبية القديمة المشهورة في طريق الحرير البحري، معظمها مدرج في قائمة التراث العالمي أو في القائمة المرشحة للانضمام للتراث العالمي. من بين هذه المدن المينائية على طريق الحرير البحري، تشيوانتشو، وهي الميناء الشرقي على طريق الشاي القديم، وعاصمة الخزف منذ ألف سنة، ومدينة في دولة الحرير، وملتقى حضارات عديدة.

لوحة تستعيد تجارة المحيطات القديمة

 تشيوانتشو مركز للتراث العالمي اكتشفتها الأجيال اللاحقة و"حفرها" علماء الآثار.

في عشرينات القرن العشرين، زار الباحثون الصينيون قو جيه قانغ وتشانغ شينغ ليانغ وتشن وان لي مدينة تشيوانتشو، فوضعوا اللبنة الأولى للبحوث في تشيوانتشو. في عام 1957، بناء على اقتراح من علماء الآثار مثل السيد شيا ناي، نشر السيد وو ون ليانغ وهو عالم أثري من أبناء تشيوانتشو، كتاب ((المنحوتات الصخرية الدينية في تشيوانتشو)) على أساس ما جمعه من معلومات أثرية، مما لفت انتباه الأوساط الأكاديمية الصينية والأجنبية لأهمية تشيوانتشو الكبيرة في تاريخ النقل البحري.

إن استعادة مدينة تشيوانتشو المينائية القديمة التي تتمتع بتأثير عالمي منذ ألف عام، تتحقق بفضل عوامل متعددة، من بينها مثلا، الضمان السياسي، والدعم الوطني وحيوية الجماهير والتكنولوجيا ومستوى الثقافة الإنسانية، تلك العوامل التي نحتاج إلى البحث عنها في تشيوانتشو، تلك المدينة التي تتراكم فيها العناصر القديمة والجديدة.

في فترة أسرة سونغ الشمالية، أنشأت الحكومة "شيبوه" في تشيوانتشو، وهي هيئة جمركية مبكرة ذات أهمية بارزة، يمكن التحقق منها في الوثائق التاريخية، ويرمز إنشاؤها إلى أن تشيوانتشو قد أصبحت ميناء للتجارة الخارجية على المستوى الوطني رسميا. وقد اكتشف الأثريون موقع آثار "شيبوه".

عاش جزء من العائلة المالكة لأسرة سونغ الجنوبية في تشيوانتشو وشاركوا بنشاط في التجارة البحرية، وقد تم اكتشاف آثار لهيئة إدارة الأسرة الإمبراطوية- مصلحة وايتسونغتشنغ الجنوبية.

الجدير بالذكر أن هناك اكتشافات جديدة لآثار قمين دهوا وقمين تسيتساو للخزف، اللذين كانت منتجاتهما تصدر إلى مختلف أنحاء العالم، وظلت أطلال القمينين موجودة لفترة طويلة، وتوجد عينات آثار كاملة، وهي مرجع هام لدراسة الخزف الصيني المخصص للتصدير في ذلك الوقت، وقد تمت حماية الآثار بشكل صحيح. وتبين هذه الآثار مع أطلال موقع شياتساوبو لصهر الحديد في محافظة آنشي، وغيرها من آثار المنشآت الإنتاجية، النظام الاقتصادي لتشيوانتشو ومناطق وسطها بشكل حيويّ. وقد أسهمت جهود الأثريين وعلماء حماية الآثار التاريخية، في جعل المشهد التاريخي لهذا الميناء الذي يرجع تاريخه إلى ألف سنة، يظهر بشكل واضح أمام العالم مرة أخرى.

باعتبارها نافذة للحضارة البحرية، تؤكد تشيوانتشو تأثيرها في تاريخ الملاحة العالمية أيضا من خلال الآثار الموجودة تحت الماء للعدد الجم من السفن الغارقة.

يرجع تاريخ السفينة الغارقة المكتشفة في ميناء هوتشو إلى عام 1277 تقريبا، وهي واحدة من أقدم السفن البحرية (من طراز سفن "فو") التي تم اكتشافها حتى الآن في الصين. إن التصميم الانسيابي وهيكل العنابر المانعة لتسرب المياه لسفينة هوتشو يمثلان الإنجازات البارزة في التاريخ القديم لبناء السفن في الصين، وتقنية العنابر المانعة لتسرب المياه تعد مساهمة صينية رئيسية في الملاحة العالمية. وفقا لهذه التقنية، يتم فصل العنابر بحواجز خشبية عرضية لتشكيل عنبر منفصل ومقاوم للماء، مما يزيد من متانة السفينة، وحتى إذا اصطدم جزء معين بالصخور وتسربت المياه، فلا تتعرض الأجزاء الأخرى للخطر، وطالما يتم إصلاح وتوصيل العنبر التالف، يمكن للسفينة الاستمرار في الإبحار، مما يحسن السلامة بشكل كبير.

 هذه السفينة كانت مليئة بالبضائع المتنوعة، ومن شحناتها نجد أن العطور تضم زيت اللبان والعود الصيني والصندل الأبيض وخشب البقم والفلفل الأسود والعنبر، وغيرها من أنواع التوابل، مما يبين ازدهار التجارة البحرية في ميناء تشيوانتشو، ويُظهر بشكل مثالي الصورة التاريخية لشبكة التجارة البحرية القديمة.

هناك سفينة غارقة أخرى تعود إلى فترة أسرة سونغ، سميت بـ"السفينة رقم 1 في بحر الصين الجنوبي"، واكتشفت في عام 1987، وقد اعترفت بها الأوساط الأكاديمية الدولية باعتبارها إنجازا أثريا هاما تحت الماء على طريق الحرير البحري. هذه السفينة التجارية العابرة للمحيط، كانت قد أبحرت من ميناء تشيوانتشو متجهة إلى جنوب شرقي آسيا وحتى المحيط الهندي، لكن لسوء الحظ غرقت في مياه تشوانداو بمقاطعة قوانغدونغ، وهيكلها محفوظ جيدا والمواد التجارية الوفيرة فيها تحبس الأنفاس. كانت السفينة محملة ببضائع من تشيوانتشو، بما في ذلك الخزف والأدوات الحديدية والحرير والأواني المطلية وأدوات القصدير والمجوهرات الذهبية والمجوهرات الفضية والسبائك الفضية والعملات المعدنية. وقد كتبت على بعض السلع أسماء الأسر، مثل تشن ولين وهوانغ ولي وما إلى ذلك، وكلها تنتمي إلى عائلات التجار البحريين الذين عاشوا في تشيوانتشو جيلا بعد جيل. يبدو أن مشاهد نشاطات التجار على السفن الموصوفة في ((ما يُرى وما يُسمع في بينغتشو))، تظهر بوضوح مرة أخرى.

تشيوانتشو هي "مدينة النور" التي تم الإشادة بها في عدد لا يحصى من النصوص القديمة، وهي ميناء شرقي كبير مشهور عالميا باسم مدينة الزيتون. اليوم، لا يزال بإمكاننا تخيل مثل هذه الصور: حيث تتجمع السفن البحرية الكبيرة والصغيرة في الميناء مستعدة لرحلاتها التجارية، أو منظر السفن العائدة المحملة بالسلع الوافرة وقد رست للتو ودخلت الميناء، واستقبلتها أحلام جديدة لا حصر لها.

--

جيانغ بوه: نائب رئيس المجلس الدولي للمعالم والمواقع.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4