بعد مرور عشر سنوات على إطلاق مبادرة "الحزام والطريق"، من قبل الرئيس الصيني شي جين بينغ في سبتمبر عام 2013، عُقدت الدورة الثالثة لمنتدى "الحزام والطريق" للتعاون الدولي في بكين في يومي السابع عشر والثامن عشر من أكتوبر عام 2023، تحت شعار "التعاون العالي الجودة للحزام والطريق. معا من أجل التنمية المشتركة والازدهار"، وذلك بحضور ممثلي أكثر من 130 دولة ومنظمة دولية، من بينهم عدد من رؤساء وزعماء دول العالم. وتعد الدورة الثالثة للمنتدى، بمثابة فرصة لتقييم ما حققته مبادرة "الحزام والطريق"، ورسم مسار المستقبل. تطورت المبادرة من مستوى الخطة إلى مستوى التنفيذ، وأصبحت تشكل أكبر منصة للتعاون الدولي، فوثقت تعاونا مع أكثر من 150 دولة و30 منظمة دولية، محققة على مدى عشر سنوات ثلاثة آلاف مشروع تعاون، وتحفيز استثمارات تصل قيمتها إلى تريليون دولار أمريكي، مؤكدة على تنفيذ الأهداف الرئيسية لبكين، وهي: إضافة زخم جديد لتنمية الدول المشاركة والنمو الاقتصادي العالمي، وتحسين حياة الشعوب بانتشال ما يقرب من سبعة ملايين إنسان من الفقر المدقع، وثلاثين مليون إنسان من الفقر المعتدل، إلى مستوى معيشي أفضل، وذلك بالعمل على الحد من افتقاد التكنولوجيا الزراعية والتعليم المهني. ولأن الصين من أوائل الدول التي تعهدت بمواجهة التغيرات المناخية والعمل على الحد من أثرها على البيئة، فقد عملت على حماية البيئة وتحسين البيئة الإيكولوجية، والمحافظة على التنوع البيولوجي، أثناء تنفيذ مشروعات المبادرة، وعملت على توقيع 50 وثيقة تعاون بشأن حماية البيئة الإيكولوجية، مع الأطراف المعنية بهذا الشأن، وأطلقت مبادرة "شراكة الحزام والطريق بشأن التنمية الخضراء" مع 31 دولة، وأقامت "التحالف الدولي للتنمية الخضراء لمبادرة "الحزام والطريق". وعمل الشركاء في المبادرة على تنفيذ التعاون الدولي في مكافحة الفساد وإطلاق مبادرة "بكين لطريق الحرير النظيف بشكل مشترك"، وذلك بتعزيز التعاون في المجالات الناشئة كالاقتصاد الرقمي، الذي جعل طريق الحرير جسرا رقميا يُسهل نمط جديد من العولمة.ووفقا لتقرير البنك الدولي، فإنه بحلول عام 2030، من المتوقع أن تؤدى البنية التحتية للنقل لمبادرة "الحزام والطريق"، إذا تم تنفيذها بالكامل، إلى زيادة الدخل الحقيقي العالمي بنسبة تتراوح بين 7ر0% إلى 9ر2%.
بمناسبة انعقاد المنتدى أصدرت الصين كتابا أبيضا، أكدت فيه أن مبادرة "الحزام والطريق"، تستهدف التنمية في العالم بأسره، وليس تنمية الصين وحدها، وأكدت في الكتاب، أنه تم بناء عدد كبير من مشروعات البنية التحتية، وإحراز تقدم ملموس للدول المشاركة في المبادرة، في بناء خطوط الأنابيب والطاقة والشحن والاتصالات والسكك الحديدية والطرق السريعة وغيرها من الخدمات الأساسية والبنية التحتية، التي تساعد علي السيولة والمرونة في حركة التجارة والصناعة، فيما استمرت شبكة طرق الحرير البحرية في التوسع، فبحلول نهاية يونيو 2023، وصلت إلى 117 ميناء في 43 دولة، وانضمت أكثر من 300 شركة شحن صينية ودولية لجمعية طريق الحرير البحرية. وأيضا أشار الكتاب الأبيض إلى أن الصين وقعت اتفاقيات نقل جوي ثنائية مع 104 دول مشاركة في بناء "الحزام والطريق"، وفتحت رحلات مباشرة مع 57 دولة مشاركة في المبادرة لتسهيل النقل عبر الحدود.
"الحزام والطريق" بين التاريخ والمستقبل
طريق الحرير إرث قديم يعود لعدة قرون مضت، فقد كان حلقة وصل بين حضارات الصين والحضارات القديمة، وبعد أن توقف طريق الحرير ستة قرون لم تتوقف الصين عن محاولة إحياء طريق الحرير بطريق جديد يصل الصين بأوروربا. كان طريق الحرير القديم يربط الشرق بالغرب منذ عدة قرون، لتجارة الحرير التي تميزت بصناعته لأول مرة الصين، والبخور والتوابل وغيرها من البضائع، بين الصين والحضارات القديمة في أوروبا وأفريقيا ومصر وشبه الجزير العربية وشرقي آسيا وشرقي أفريقيا وجنوبي أوروبا وبلاد فارس. تقوم مبادرة "الحزام والطريق" على إحياء الطرق القديمة بحيث تربط الصين من خلالها العالم شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، ذلك أن 70% من خريطة العالم تنضوي تحت المبادرة الجديدة، ومايقرب من ثلثي سكان الأرض، بناتج محلي إجمالي يصل إلى 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ودفعة من أكبر مشروعات البنية التحتية والاستثمارات في التاريخ. فالمبادرة فرصة لتحريك نمو عالمي جديد، عبر ربط ثلاث قارات هي آسيا وأوروبا وأفريقيا. وترى الأمم المتحدة أن على العالم الاستفادة من مبادرة "الحزام والطريق"، للمساعدة في سد فجوات التمويل الكبيرة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030. إن "الحزام والطريق" خطوط تجارية تحمل خطط اقتصادية تعبر بها الصين كقوة اقتصادية عالمية، بل كأكبر قوة اقتصادية في العالم بحلول عام 2030، من خلال تحقيق أهداف "الحزام والطريق"، لتتجاوز هيمنة الدولار الأمريكي على اقتصاد العالم. وفي هذا الإطار، سعت الصين لبناء قوة شاملة، بغية تحقيق اتجاه عالمي حتمي نحو التعددية القطبية، لتقويض السلوك الأمريكي الأحادي، وذلك مع استمرار الصين على مبادئها السلمية والتنموية، وتجنب الصدام المباشر مع أي قوة دولية. وقد سارعت الصين بتوسيع حضورها الاقتصادي الإقليمي والعالمي، فكان إحياء طريق الحرير القديم بمثابة استعادة امتداد النفوذ الاقتصادي الصيني.
الشرق الأوسط ومبادرة "الحزام والطريق"
تعد منطقة الشرق الأوسط المتعددة اللغات والعربية السمات، من أهم شركاء الصين على مر التاريخ، فكانت موانئ العرب ومدنهم الكبرى محطات رئيسية على طول طريق "الحرير"، لتبادل السلع والثقافة والدين، وكان العرب سفراء الصين إلى العالم لعدة قرون، حيث ربطوها بالعالم. وتأتي أهمية الشراكة العربية والشرق أوسطية مع الصين من منطلق التاريخ، وعمل الصين على تنفيذ شعارها "رابطة المصير المشترك للبشرية"، وسعي الدول العربية إلى التفاعل مع سياسة الصين التنموية، لفتح مجالات واسعة ومختلفة للتعاون بين الطرفين، لحقيق أهدافهما التنموية. ويتمثل التبادل بين الصين والشرق الأوسط في ركائز الاقتصاد الصيني، فتستورد الصين نصف احتياجاتها من الطاقة من الشرق الأوسط، ومن المتوقع بحلول عام 2035، أن تضاعف الصين وارداتها النفطية من المنطقة، بالإضافة إلى الموقع الإستراتيجي لمنطقة الشرق الأوسط بين طريق الحرير البحري والبري. وتعزز الصين التعاون مع منطقة الشرق الأوسط في إطار مفيد واَمن، بتقديمها نوع جديد من آليات التعاون، التي تتميز بالانفتاح والمنفعة المتبادلة والنتائج المتكافئة، والابتكار والتكامل والتعددية، والأمان التام من التعاون مع الصين لأنها دولة نامية ولا تؤمن بالإمبريالية وهي شريك شرقي، محايد وغير متحيز ولا يتدخل في شؤون الدول الداخلية. وأيضا دعمت الصين التعاون مع دول الشرق الأوسط، بتبادل الزيارات بين قادة الصين والدول المحورية بالمنطقة، مثل مصر والمملكة العربية السعودية وإيران، وعززت بعض الدول العربية بنيتها التحتية وعملت على تطوير القطاعات والمناطق اللوجستية وبرامج الإصلاح الاقتصادي، كما حدث من تطوير وتنمية في مصر والسعودية على سبيل المثال، مما وفر لبكين فرصة الانخراط الاقتصادي في المنطقة والعمل على تحقيق إستراتيجية التنمية المستدامة 2030. وتعمل الصين من خلال تنفيذ مشروعات المساعدات والتعاون الإنمائي، بقيمة خمسة مليارات يوان (الدولار الأمريكي يساوي 3ر7 يوانات حاليا)، وإدراج 30 مشروعا مستوفيا الشروط في الدول العربية في مجموعة المشروعات لمبادرة التنمية العالمية، مع العمل على وصول حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية، إلى 430 مليار دولار أمريكي في عام 2027.
وتدعم مبادرة "الحزام والطريق"، التعاون الدائم والمشترك بين الصين ودول الشرق الأوسط، في مجالات هي قائمة بالفعل بين الجانبين منذ عدة عقود. وقد عبر الرئيس شي جين بينغ، عن رؤيته بشأن هذا التعاون في نقاط مهمة وهي:
- تبادل الثقافات والحوار بين الحضارات: وبالفعل تمت إقامة المراكز الثقافية الصينية في عدد كبير من البلدان العربية، بجانب تعزيز دور مركز الدراسات الصيني- العربي للإصلاح والتنمية، وتعزيز التواصل الدائم بين الباحثين والخبراء والمثقفين بين الجانبين وتدعيم تبادل الخبرات في مجال الحوكمة والإدارة.
- الاهتمام بالشباب والعمل على تأهيلهم: وجاء هذا بإطلاق خطة التعاون "10+10" للجامعات الصينية والعربية، وتتم فيها دعوة 100 شاب عربي لزيارة بكين للتواصل حول البحث العلمي، ودعوة 3000 شاب للمشاركة في فعاليات التواصل الثقافي الصيني- العربي.
- دعم الأمن والاستقرار: وذلك بتعميق التعاون بين الجانبين في مجالات الأمن البحري وعمليات حفظ السلام الدولي، والعمل على المناورات والتدريبات المشتركة، وتعزيز آلية التواصل الصيني- العربي في مجال المعلومات الإلكترونية بتعزيز التواصل والحوار في مجال الأمن السيبراني، وذلك لتنفيذ مبادرة التعاون بين الصين وجامعة الدول العربية بشأن أمن البيانات.
- الحد من الجفاف والتصحر "التنمية الخضراء": وذلك بتنفيذ مشروعات لتعاون الجنوب- الجنوب لمواجهة تغير المناخ
- دعم الطاقة النظيفة: دعم شركات الطاقة والمؤسسات المالية الصينية للمشاركة في مشروعات الطاقة المتجددة في الدول العربية.
- الأمن الغذائي: وذلك برفع القدرة الإنتاجية في قطاع الزراعة وإنشاء ممرات خضراء لنفاذ المنتجات الزراعية العربية المميزة إلى الصين.
- ملف الصحة: تدعم الصين الدول العربية بتقديم خدمات طبية وصحية عن بعد، وذلك من خلال إنشاء مركز التعاون التكنولوجي للصحة العامة ورابطة التعاون في الابتكار وتطوير اللقاح.
تسعي الصين دائما إلى النمو والازدهار والتقدم في شتى المجالات، بعيدا عن أي صراع أو أهداف أحادية، فرغم ما وصلت إليه الصين من صعود يقلق الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، ترى الصين أنها مازالت تبحث عن التنمية الأفضل والمصير المشترك بينها وبين دول العالم ، فقناعة الصين التامة هي أن هذا العالم لا بد أن يصاحبه تعددية في كل شيء، الإنتاج والصناعة والعُملة والثقافة، فالهيمنة الأحادية لا تأتي إلا بعالم ضعيف، ليس لديه قدرة على الإبداع والابتكار، وهذا ما ترفضه الصين تماما، وجاءت مبادرة "الحزام والطريق"، لتوثق ما تسعى إليه الصين لمصير مشترك ولتحقيق التنمية المستدامة 2030، لأن كل الدول المشاركة في المبادرة، تعمل على تحقيق أفضل معدلات تنمية داخلية لكل بلد، من إعادة بناء للبنية التحتية، والاهتمام بالطاقة النظيفة، واستغلال الموارد أفضل استغلال ممكن، لكي ينعم الجيل الحالي وتتوارث الأجيال حياة أفضل ومستمرة، والاستثمار الدائم في القوة البشرية الهائلة التي تستطيع البناء، وتبادل المعرفة والأفكار والموارد من أجل حياة أفضل. والدول العربية خاصة ومنطة الشرق الأوسط، تربطها علاقات وثيقة وتاريخية بالصين، فالصين بحكم حضارتها القديمة منذ عدة قرون، تتشابه مع الدول التاريخية الشرقية، مما يجعل بينها انسجام وترحيب لتبادل العمل في شتى المجالات، ويسعى الشرق أيضا للهروب والابتعاد عن الهيمنة الأحادية التي عانت منها دول الشرق من وهن وضعف اقتصادي وأمني وثقافي، لذلك كانت مبادرة "الحزام والطريق" بمثابة طوق النجاة الذي اشترك فيه الجميع من أجل إحياء الحضارة ومزجها بمهارة الإبداع العصري.
--
د. غادة جابر، باحثة في العلوم السياسية من مصر.