يعد اقتصاد الارتفاعات المنخفضة مفهوما اقتصاديا يهدف إلى استغلال المجال الجوي المنخفض، كمورد فريد، بشكل فعال، ودفع تطوير الطيران العام والقطاعات المعنية.
مع تطور تقنيات ومنتجات الطيران العام، ظهرت العديد من المركبات الجوية الحديثة، مثل السيارة الطائرة ومركبات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية (eVTOL) التي تركز على التنقل الجوي الحضري (UAM)، مما يفتح آفاقا واسعة لمستقبل الطيران العام. فمن الممكن تطوير التنقل الجوي الحضري من خلال استغلال الطائرات المبتكرة الحديثة، ومنها الطائرات بدون طيار ومركبات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية والسيارات الطائرة، في فضاء المجال الجوي المنخفض للمدن، بغية تخفيف الازدحام المروري على الأرض داخل المدن أو بين المدن.
يعد الازدحام المروري في المدن مشكلة مستعصية في العالم، فلاقى مفهوم اقتصاد الارتفاعات المنخفضة، منذ إطلاقه، اهتماما واسعا من قبل قطاع الطيران العالمي وهيئات الطيران المدني وإدارات المدن. إن نموذج التحول الحضري في الصين، الذي يعتمد على المدن المركزية، أدى إلى تفاقم الازدحام المروري في المدن، مما جعل الطلب على التنقل الجوي الحضري في الصين يتزايد ووفر آفاقا واعدة لتطبيقه.
نطاق الصناعة والتطبيق
اقتصاد الارتفاعات المنخفضة ليس مفهوما اقتصاديا فحسب، وإنما أيضا هو صناعة. ومن منظور الصناعة، لا يقتصر اقتصاد الارتفاعات المنخفضة على صناعة الطيران العام التقليدية، بل يشمل مجالات أوسع من حيث المحتوى الصناعي والنطاق الاقتصادي ليشكل نمطا اقتصاديا فريدا.
اقتصاد الارتفاعات المنخفضة لا يقتصر على صناعة واحدة، بل يتجاوز مفهوم الطيران العام ليشمل نطاقا اقتصاديا أوسع. يشكل الطيران العام الجزء الرئيسي من صناعة اقتصاد الارتفاعات المنخفضة، بينما يشتمل اقتصاد الارتفاعات المنخفضة على العديد من الصناعات الأخرى، بما في ذلك الاستثمار والبناء للمطارات العامة ومنصات الإقلاع والهبوط العمودي للتنقل الجوي الحضري، ومرافق الدعم على الأرض وأنظمة مراقبة المجال الجوي المنخفض وخدمات الطيران. كما يمتد إلى سلاسل الصناعة، ومن بينها الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة وتقنيات الاتصالات المحمولة للجيلين الخامس والسادس، وتقنيات الأقمار الاصطناعية الفضائية والاتصال بين الفضاء والأرض والبيانات الضخمة، والتقنيات الرقمية الأخرى، فهناك تكامل بين اقتصاد الارتفاعات المنخفضة وهذه الصناعات التي تحمل سمات العصر الجديد، لتحقيق التنمية المشتركة.
يقوم التنقل الجوي الحضري على أساس ابتكار تكنولوجيا الطيران العام ومنتجاته وتوسيع مجالات تطبيقه، وهو من المفاهيم الأكثر غرابة وأقرب إلى الخيال العلمي، وله آفاق تنمية واسعة. إن التكامل بين التنقل الجوي الحضري ووسائل النقل على الأرض سيؤدي بلا شك إلى تطور ثوري في وسائل التنقل الحضري، مما يحقق الدمج بين تنمية اقتصاد الارتفاعات المنخفضة والاقتصاد الحضري.
مع تطور اقتصاد الارتفاعات المنخفضة، سيتوسع نطاق التطبيقات ليشكل نمطا اقتصاديا فريدا يتمثل في "الشبكة في السماء، والقاعدة على الأرض".
يقصد بـ"الشبكة في السماء" إنشاء شبكة طيران متعددة الطبقات في المجال الجوي المنخفض، لتلبية جميع متطلبات التنقل الجوي للطيران العام. تشمل هذه الشبكة مجموعة واسعة من الأنشطة مثل الطيران الخاص، الطيران الحكومى، نقـل الركاب والبضائع لمسافات قصيرة عبر الطيران العام، التنقل الجوي الحضري، الإنقاذ الجوي، الطيران الحكومي وخدمات الطيران للمنفعة العامة، الطيران العام للمهام الخاصة، الرياضات الهوائية، السياحة الجوية على الارتفاعات المنخفضة، وطيران الترفيه. الهدف من هذه الشبكة هو استغلال موارد المجال الجوي المنخفض بشكل كامل وفعال.
ويقصد بـ"القاعدة على الأرض" بناء قواعد دعم أرضية متنوعة ومنتشرة في كل مكان، من بينها المطارات العامة، منصات الإقلاع والهبوط العمودي للتنقل الجوي الحضري، المناطق الجوية، مدن الطيران، قواعد الطائرات بدون طيار، معسكرات الطيران، وحدائق الطيران للسياحة الثقافية، مما يضمن الإقلاع والهبوط لمركبات الطيران العام ويدعم صناعات اقتصاد الارتفاعات المنخفضة.
دفع حكومي ودعم سياسي
في السنوات الأخيرة، حظيت التطورات الإبداعية للطيران العام، مثل مركبات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية والتنقل الجوي الحضري، باهتمام من الدول المتقدمة في صناعة الطيران. أقر الكونغرس الأمريكي ((قانون التنسيق والقيادة للتنقل الجوي المتقدم))، والذي يهدف إلى حث الحكومة على إنشاء هيئة تنسيق لتعزيز تطوير هذا المجال، كما أطلق الاتحاد الأوروبي برنامج "أفق أوروبا" الذي يدعم العديد من المشروعات والشركات العاملة في مجال التنقل الجوي الحضري.
وقد أدرجت الصين الطيران العام، خاصة الطيران العام الجديد، المتمثل في الطائرات بدون طيار ومركبات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية والتنقل الجوي الحضري، ضمن الفئة الاقتصادية الجديدة المعروفة باسم اقتصاد الارتفاعات المنخفضة. تشجع حكومة الصين على تنمية اقتصاد الارتفاعات المنخفضة بشكل كبير. في مارس عام 2024، أكد تقرير أعمال الحكومة المقدم إلى المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني على "دعم تنمية اقتصاد الارتفاعات المنخفضة". وفي يوليو 2024، أدرج ((قرار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني بشأن تعزيز تعميق الإصلاح على نحو شامل لدفع التحديث الصيني النمط)) الذي تمت الموافقة عليه في الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني، "تعميق إصلاح نظام النقل المتكامل، وتطوير الطيران العام واقتصاد الارتفاعات المنخفضة" في جدول أعمال الإصلاح. كما طرح ((قانون إدارة المجال الجوي لجمهورية الصين الشعبية (مسودة للنقاش))) الذي صدر في ديسمبر 2023، الترتيبات المؤسسية بشأن فتح واستخدام موارد المجال الجوي المنخفض.
يتزايد اهتمام كل مكان في الصين بتطوير اقتصاد الارتفاعات المنخفضة، حيث وضعت العديد من المقاطعات والمدن خططا لتطوير اقتصاد الارتفاعات المنخفضة، وأصدرت سياسات الدعم المحلية، ودفعت بنشاط بناء المطارات العامة. على سبيل المثال، أعلنت حكومة مدينة شنتشن بناء مركز اقتصاد الارتفاعات المنخفضة، واتخذت إجراءات عديدة لدعم تنمية اقتصاد الارتفاعات المنخفضة، وأصدرت ((لائحة منطقة شنتشن الاقتصادية الخاصة لتعزيز اقتصاد الارتفاعات المنخفضة)). حاليا، أطلقت شنتشن ما يقرب من مائة خط طيران تجاري تجريبي في المدينة للطائرات بدون طيار. تعد منطقة خليج قوانغدونغ- هونغ كونغ- ماكاو الكبرى، والتي تقع فيها مدينة شنتشن، من أكثر المناطق ازدحاما مروريا في الصين. إن التكامل بين التنقل الجوي الحضري ووسائل النقل على الأرض يقدم حلا مبتكرا لمعالجة مشكلة الازدحام المروري داخل المدن وبين المدن، مما يدفع الدمج بين تنمية اقتصاد الارتفاعات المنخفضة والاقتصاد الحضري.
ردود فعل إيجابية ومنجزات كبيرة
على الرغم من أن تطور الطيران العام التقليدي في الصين جاء متأخرا مقارنة بالدول المتقدمة في أوروبا وأمريكا الشمالية، فإن الصين تتصدر حاليا دول العالم في الطيران العام الجديد المتمثل في الطائرات بدون طيار ومركبات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية والتنقل الجوي الحضري، وذلك بفضل التطور السريع لصناعة الطائرات بدون طيار في الصين.
تحافظ الصين على الريادة في العالم في مجال تقنيات الطائرات بدون طيار، مما أرسى أساسا متينا لتطوير مركبات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية والتنقل الجوي الحضري. حاليا، هناك أكثر من ثلاثين شركة في الصين تعمل في بحث وتطوير مركبات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية، وحصلت أكثر من عشر شركات منها على تمويلات بلغت قيمتها عشرات أو حتى مئات ملايين الدولارات، كما صارت بعض الشركات مثل "إيهانغ" و"أوتوفلايت" و"إيروفوجيا" من الشركات الرائدة في العالم في مجال مركبات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية. أما في إدارة صلاحية مركبات الطيران العام المبتكرة، تعد الصين رائدة أيضا في هذا المجال. خلال الفترة من عام 2023 إلى عام 2024، منحت إدارة الطيران المدني الصينية شهادة الجودة وشهادة الإنتاج وشهادة الصلاحية للطيران لمركبات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية المأهولة من طراز "EH216-S" لشركة "إيهانغ". لأول مرة في العالم، منحت إدارة الطيران المدني ثلاث شهادات لمنتجات مركبات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية. وفي 2024، منحت إدارة الطيران المدني الصينية شهادة الجودة لطائرات مركبات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية للشحن من طراز "V2000CG" لشركة "أوتوفلايت".
مع فتح المجال الجوي المنخفض والتحسن الملحوظ لبيئة أعمال الطيران العام، من المتوقع أن يشهد اقتصاد الارتفاعات المنخفضة في الصين تطورا تدريجيا، من نقاط تجريبية إلى نطاق أوسع وأعمق، وتطورا متوازيا في مجالات التشغيل والتصنيع والخدمات، مما يعزز الاستثمار والبناء للبنى التحتية مثل المطارات العامة ومنصات الإقلاع والهبوط العمودي للتنقل الجوي الحضري، وأنظمة مراقبة المجال الجوي المنخفض وخدمات الطيران، كما يعزز تطور الصناعات ذات الصلة، بما في ذلك التأمين المالي والمعارض الثقافية والتوعية العلمية في مجال الطيران، مما يخلق سوقا جديدة يصل حجمها إلى تريليونات الدولارات.
--
قاو يوان يانغ، مدير المركز البحثي لصناعة الطيران العام التابع لجامعة بيهانغ.
