في السنوات الأخيرة، دخلت تقنيات الذكاء الاصطناعي في العالم مرحلة النمو السريع. في نهاية عام 2022، أطلقت شركة "أوبن إيه آي" الأمريكية "شات جي بي تي" مما أدى إلى إشعال سباق عالمي في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، وظهرت منتجات عديدة واحدة تلو الأخرى، مثل كلود وجاسبر. أبهرت الصين العالم في هذه الجولة من الثورة التكنولوجية العالمية بأدائها المرموق. على سبيل المثال، في نهاية عام 2024، أصدرت شركة "ديب سيك" نموذجا كبيرا يدعى "ديب سيك" متفوقا على "جي بي تي- 4" في قدرة الاستدلال الرياضي بنسبة 15%. وفي يناير عام 2025، خلال سهرة عشية عيد الربيع 2025 التي قدمتها محطة التلفزيون الصينية المركزية (CCTV)، أذهل الأداء المميز لستة عشر روبوتا من شركة "يويشو (يونيتري) للتكنولوجيا"، الجمهور، حيث أمسكت الروبوتات المرتدية السترة القطنية المشهورة في شمال شرقي البلاد، بمناديل الرقص وتحركت بمرونة على خشبة المسرح.
لا تجسد هذه الاختراقات قوة الصين في التكنولوجيا فحسب، وإنما أيضا تشير إلى أن الصين تدفع تقنيات الذكاء الاصطناعي التي طورت في المختبرات نحو خطوط الإنتاج، من خلال دمج سيناريوهات التطبيق الضخمة وقدرات الهندسة النظامية، لجعلها محركا رئيسيا يدعم التنمية الاقتصادية العالية الجودة. إن النمط الاقتصادي القائم على "السيناريوهات تدفع الابتكار والابتكار يحفز الارتقاء" يعيد صياغة منطق النمو الاقتصادي التقليدي ويمنح حيوية جديدة للاقتصاد الصيني.
دفع التنمية الاقتصادية العالية الجودة
يتمثل أبرز تأثير للذكاء الاصطناعي في الاقتصاد الصيني، في تسارع وتيرة إعادة تشكيل عناصر الإنتاج. كانت الصين تعتمد على الأيدي العاملة والاستثمار، لتحقيق النمو الاقتصادي التقليدي. لكن مع تراجع العائد الديمغرافي في البلاد تدريجيا، تزداد مشكلة تناقص العائدات الحدية لعناصر الإنتاج يوما بعد يوم. وقد نجحت تقنيات الذكاء الاصطناعي في شق مسار التطور الجديد القائم على "عائد البيانات"، من خلال إدخال البيانات في دالة الإنتاج. وفقا لنظرية النمو الداخلي، فإن عناصر البيانات تتسم بعدم التنافسية وآثارها الخارجية الإيجابية، كما أن تكلفتها الحدية تقترب من الصفر، الأمر الذي يجعلها قادرة على كسر قاعدة تناقص عوائد العناصر التقليدية.
أشارت التقديرات الصادرة عن المركز الوطني لتطوير أمن المعلومات الصناعية في الصين، إلى أن نسبة مساهمة عناصر البيانات الصينية في النمو الاقتصادي بلغت 7ر14% في عام 2021 وتزداد هذه النسبة عاما بعد عام. على سبيل المثال، قامت شركة "سانيي للصناعات الثقيلة" الصينية الرائدة في مجال تصنيع المعدات الثقيلة، بترقية مصنعها رقم 18 بشكل شامل بتقنيات الذكاء الاصطناعي، لتحسين عملية الإنتاج حيث ارتفعت الطاقة الإنتاجية بنسبة 123% وكفاءة الأفراد بنسبة 98%، فضلا عن انخفاض تكلفة الإنتاج لكل وحدة بنسبة 29%. وهذا يظهر أن دمج الذكاء الاصطناعي مع قطاع التصنيع التقليدي يطلق إمكانيات تنمية كبيرة، مما يساعد على تذليل تحديات تنمية الاقتصاد الصيني. يدفع نمط التنمية المتمركز حول البيانات إلى تسريع تحول الاقتصاد الصيني، من "التوسع الكمي" إلى "النمو المدفوع بالإنتاجية الشاملة العناصر". وفي الوقت ذاته، يقوم الذكاء الاصطناعي بإعادة صياغة سلاسل التوريد والصناعة العالمية، مما يساعد الصين على تجاوز تأثير الانحصار في الطرف الأدنى لسلسلة القيمة "منحنى الابتسامة". إن قطاع التصنيع في الصين يركز منذ فترة طويلة على مراحل المعالجة ذات القيمة المضافة المنخفضة، في حين تحتكر الشركات العابرة للحدود قدرات البحث والتطوير والتسويق. الآن، تقنيات الذكاء الاصطناعي تغير هذا الوضع، بل تحول نقاط ضعف الصين في سلسلة الصناعة إلى نقاط قوة. أصبحت الكمية الهائلة من البيانات الصناعية أساسا مهما لتطور الذكاء الاصطناعي، ويسارع تطبيقها في سيناريوهات التصنيع المختلفة. مثلا، وبفضل تحليل البيانات المعنية، رفعت شركة "هاير" في تشينغداو، حصتها في سوق الثلاجات الفاخرة التي يتجاوز سعرها 14 ألف يوان (الدولار الأمريكي يساوي 3ر7 يوانات تقريبا حاليا)، من 6ر51% في عام 2022 إلى 58% في عام 2023؛ وأدخلت شركة "بي واي دي" للسيارات الكهربائية روبوتات شبيهة بالبشر في عملية التصنيع مما رفع نسبة الأتمتة في خطوط الإنتاج إلى 95%، وجعل عملية التصنيع ذاتها مصدرا رئيسيا لنمو الأرباح.
أشارت البيانات المعنية إلى أنه في عام 2023 استحوذت الصين على أكثر من 50% من السوق العالمية للهواتف الذكية وعدد الروبوتات الصناعية المركبة مؤخرا، واحتلت بذلك المرتبة الأولى عالميا. كما تجاوزت نسبة مساهمة الصناعات الناشئة الإستراتيجية 13% في إجمالي الناتج المحلي للصين، وقد ساهمت الصناعات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي بأكثر من 40% من هذا الرقم. تدل هذه التغيرات على تطور نظرية سلاسل القيمة العالمية، إذ تشكل الصين نموذجا جديدا لتقسيم الأعمال يتمثل في "التصنيع يدعم الابتكار" من خلال الاختراقات التي تحققها في الحلقات الكثيفة التكنولوجيا، مما يساهم في تحول "صنع في الصين" إلى "ابتكر في الصين".
بالإضافة إلى ذلك، تسهم تقنيات الذكاء الاصطناعي في تسريع وتيرة تطوير القوى المنتجة الحديثة النوعية، وبناء دورة حميدة من التنمية المتناسقة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. يدفع الذكاء الاصطناعي تحولا ثوريا لما يتعلق بالإدارة والتشغيل في كافة المجالات والقطاعات وتظهر منتجات حديثة وأشكال أعمال جديدة باطراد. مثلا، طورت شركة "ميتوان" نظام التوصيل بالطائرات المسيرة، فقلصت أسرع مدة توصيل بها إلى ست دقائق وسبع وثلاثين ثانية؛ وخفضت شركة سنما للملابس مدة تحويل مخزون الملابس إلى النصف، بفضل خوارزميات الذكاء الاصطناعي.
ووفقا للتقديرات المستندة إلى البيانات الكلية، تسهم تقنيات الذكاء الاصطناعي في رفع الإنتاجية الشاملة لعوامل الإنتاج في الصناعة الصينية بمعدل سنوي يبلغ 3ر2%، بينما تبلغ مساهماتها المباشرة في نمو الناتج المحلي الإجمالي 8ر0%. فتأثير "منافع التكنولوجيا" لا يقتصر على تحسين الكفاءة الاقتصادية فحسب، وإنما أيضا يساهم في تقليص الفجوة بين الحضر والريف وتعزيز الرخاء المشترك.
تحديات التنمية المتعددة
حققت الصين تطورا سريعا في تقنيات الذكاء الاصطناعي، اعتمادا على الصناعة القوية ووفرة الأكفاء، بل تمكنت من الوقوف في الصفوف الأولى في بعض المجالات. مع ذلك، ما زالت الصين تواجه تحديات عديدة وعلى رأسها مشكلة الاختناق في بعض التقنيات الجوهرية.
في عام 2024، بلغت نفقات الصين على استيراد الرقائق 6ر385 مليار دولار أمريكي بزيادة قدرها 36ر10% مقارنة بعام 2023. كانت الصين تعتمد على استيراد تقريبا كل الرقائق المتطورة ذات الأهمية الجوهرية. وما يزيد الوضع خطورة هو أن الشركات الكبيرة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية تهيمن على جميع براءات الاختراع للتقنيات الجوهرية في مجال الرقائق بشكل عام، فمن الصعب على الصين أن تحقق اختراقات في هذه القيود. كما أن الصين تواجه تحديات مماثلة في مجال البرمجة الصناعية، مما يسلط الضوء على نقاط ضعف الصين في مجال تصنيع أشباه الموصلات والبرمجيات الأساسية. إذا لم تنجح الصين في تجاوز هذه العقبات، فقد تقع صناعة الذكاء الاصطناعي الصينية في صعوبات "الازدهار في التطبيق مع الأساس الضعيف".
الصراع على سيادة البيانات تحد خطير آخر. ثمة تعارض بين طابع التدفق لعناصر البيانات ومتطلبات السيادة الحصرية. على سبيل المثال، قد تستخدم بيانات المركبات الكهربائية الذاتية القيادة في الصين في تدريب الخوارزميات الأجنبية، الأمر الذي يؤدي إلى غموض في تحديد ملكية البيانات. وتشكل منصات التواصل الاجتماعي الدولية هيمنة تقنية خفية، من خلال السيطرة على حقوق توزيع المعلومات ونشرها بواسطة بيانات سلوك المستهلك. كما أنها تشارك البيانات الطبية العابرة للحدود في الحوسبة المشتركة عبر التشفير والتجزئة، على الرغم من عدم تجاوزها حدود البلاد، فإنها تساهم فعليا في تدريب النماذج في الخارج، مما يؤدي إلى عجز الإطار القانوني التقليدي. وقد كشفت ممارسات الاتحاد الأوروبي في تعزيز سيادة البيانات، أن التحكم المفرط قد يكبح حيوية الابتكار. طرحت الصين مبادرة "أمن البيانات العالمية" التي حظيت باستجابة إيجابية من قبل أغلبية الدول في العالم. ستعمل الصين على تسريع وتيرة استكشاف آلية متوازنة ديناميكية بين الانفتاح والأمن في إطار ((قانون أمن البيانات)) في المستقبل.
بالإضافة إلى ذلك، قد يشكل تضخم فقاعة الابتكار، تحديا محتملا لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي. تولي الحكومات المحلية في الصين اهتماما كبيرا لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي في الوقت الراهن، وقد أصدرت مجموعة من السياسات التحفيزية المعنية. مع ذلك، فإن الابتكار المدفوع بالسياسات قد ينتج عنه تشويه توزيع الموارد في بعض الحالات، الأمر الذي يؤدي إلى إهدار فادح. مثلا، أنشئت في بعض الأماكن الصينية مناطق صناعية تحت شعار تطوير الذكاء الاصطناعي، لكن هدفها الحقيقي ما زال تطوير القطاع العقاري بشكل مفرط. وفي الوقت الذي تشهد فيه سوق رأس المال تهافتا غير عقلاني على الشركات المدرجة التي تحمل مفهوما متعلقا بالذكاء الاصطناعي، مع عدم التعبير عن الرغبة في الشركات التي تقوم بأبحاث أساسية حقيقية، فهذا يعكس اختلالا هيكليا في نظام الابتكار. لقد شهدت صناعة الطاقة الشمسية وغيرها من الصناعات عملية إعادة هيكلة نتيجة لتأثير الفقاعة المماثلة، فعلينا الحذر من تفادي الخسائر في قطاع الذكاء الاصطناعي.
مزايا صينية فريدة
على الرغم من التحديات، فإن الصين لها مستقبل مشرق في قطاع الذكاء الاصطناعي. عدد السكان البالغ 4ر1 مليار نسمة وحجم قطاع التصنيع الأكبر في العالم، يوفران للصين قدرا هائلا من البيانات وسيناريوهات التطبيق المتنوعة لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي. في عام 2024، على سبيل المثال، بلغ عدد الطلبات على خدمات التوصيل الفوري 40 مليارا، وعلى التوصيل السريع 5ر174 مليارا. هذا الحجم الضخم من البيانات يسمح بتسريع وتيرة تطوير الخوارزميات بشكل يفوق ما في المختبرات. وقد حققت الروبوتات التي طورتها شركة "يوبيتك للروبوتات " تحسنا مستمرا من حيث الأداء في المصانع الحقيقية، وهذا يعد تجسيدا واضحا للتأثير المضاعف لـ"السيناريوهات تدفع الابتكار". وكذلك، يضمن النظام الصناعي الكامل في الصين تطوير التقنيات بسرعة.
كما أن مزايا نظامنا الجديد الطراز لتعبئة الموارد على الصعيد الوطني عنصر لا يمكن تجاهله. في إطار مشروع "البيانات من الشرق والحوسبة في الغرب" الذي أطلقته الحكومة الصينية، بادرت مدينة شنتشن بمقاطعة قوانغدونغ بإصدار تشريعات لتنظيم أخلاقيات الخوارزميات، واستكشفت بورصة بكين للبيانات الضخمة الدولية آلية تسعير البيانات. كما أن الحكومات على المستويات المختلفة تواصل دعمها لقطاع الذكاء الاصطناعي، وفتحت لوحة الابتكار العلمي والتكنولوجي بالبورصة طريقا جديدا للتمويل السريع لشركات التكنولوجيا القوية. يساهم نموذج "السوق الفعالة+ الحكومة القادرة" في تشكيل قوة متكاملة قائمة على إرشاد السياسات وحيوية السوق، مما يدفع الترقية الكاملة لسلاسل الصناعة، ويظهر قدرة الصين القوية على اختراق الحواجز التقنية في أشباه الموصلات وبناء النظام البيئي التكنولوجي.
وختاما، فإن الذكاء الاصطناعي يعمل على إعادة صياغة المنطق الأساسي للاقتصاد الصيني بشكل عميق. من إعادة تشكيل عناصر الإنتاج إلى ترقية سلاسل القيمة العالمية، ومن تطوير القوى المنتجة الحديثة النوعية إلى تحسين رخاء الشعب، أظهرت تقنيات الذكاء الاصطناعي تأثيراتها التمكينية المتعددة. في المستقبل، ينبغي لنا التمسك بالاستقلالية التكنولوجية وتحديث الحوكمة وتأصيل الابتكار، فالذكاء الاصطناعي سيدفع الاقتصاد الصيني لتحقيق طفرات تاريخية ليكون قوة محركة دائمة للتنمية الاقتصادية العالية الجودة في الصين.
--
بيان يونغ تسو، نائب رئيس التحرير الدائم لمجلة ((تحديث الإدارة)) الصينية.