في سبتمبر 2024، تم الإعلان عن حجم الاقتصاد الرقمي في الصين والذي بلغ 9ر53 تريليون يوان (الدولار الأمريكي يساوي 1ر7 يوانات تقريبا حاليا)، حيث نما الاقتصاد الرقمي في البلاد بمعدل 1973% في أقل من عقدين من الزمان، وذلك في إطار رؤية صينية لتطوير اقتصاد البلاد بما يتواكب مع التطورات المتلاحقة؛ ففي ظل ما حققه الاقتصاد الصيني من معدلات مرتفعة للنمو الاقتصادي خلال العقود الماضية، ارتكزت الرؤية الصينية على أن الاستمرار في مسار التنمية الاقتصادية يتطلب قوة دافعة جديدة، من خلال الدفع بمجالات جديدة مع تطوير النهج القائم، بحيث مثل الاقتصاد الرقمي فرصة مهمة للصين.
ورغم أن إعلان الصين الرسمي عن إستراتيجيتها الرقيمة جاء منذ أقل من عامين، مما يجعلها حديثة للغاية، فإن هذا الإعلان سبقته سنوات من التحرك نحو التحول الرقمي والتي تعود إلى عام 2012، وربما حتى عام 2000 على مستويات جزئية. في إطار رؤية للقيادة الصينية بصعوبة استمرار الاقتصاد الصيني على نفس المسار التقليدي، بما يتطلبه ذلك من تركيز خاص على التصنيع الرقمي، والرقمنة الصناعية، تركز الرؤية الصينية على أن تكون البلاد رائدة في المجال الرقمي عالميا. وقد حددت الإستراتيجية مستهدفات لذلك في المديين القصير والمتوسط. ويهدف هذا المقال إلى التعرف على أبرز ملامح إستراتيجية الصين الرقمية، مع مناقشة مدى واقعية مستهدفات الإستراتيجية وقدرتها على تلبية الطموح الصيني فيما يتعلق بالريادة رقميا على المستوى العالمي، وارتباط ذلك بتحركات الصين على المسار الدولي.
ملامح إستراتيجية الصين الرقمية
مع تولي الرئيس شي جين بينغ منصب الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني في عام 2013، بدأت الصين تتحرك بخطوات ملموسة في مجال تطوير الاقتصاد الرقمي، في إطار رؤية القيادة الصينية بأهمية إحداث تطوير في اقتصاد البلاد لضمان استمرار مسار التنمية الاقتصادية في البلاد. وهي رؤية أسبق من ذلك طرحها الرئيس شي عندما كان رئيسا لمقاطعة فوجيان؛ ففي عام 2000 تم إطلاق "إستراتيجية فوجيان الرقمية"، بهدف تطوير الأداء الاقتصادي للمقاطعة.
جاء ذلك التحرك في ضوء اقتناع القيادة الصينية بأن الاقتصاد الصيني بلغ قمته، في ظل ما حققه من معدلات للنمو، وهو ما يتطلب حدوث تحول النموذج (Paradigm Shift)، بالتركيز على الجوانب الرقمية. ويُقصد بالاقتصاد الرقمي، استخدام البيانات الضخمة والمعلومات الرقمية كعوامل رئيسية للإنتاج لإنشاء نظام اقتصادي جديد باستخدام التكنولوجيا الرقمية المتقدمة وبما يسهم في تحسين الهيكل الاقتصادي. ويرتبط الاقتصاد الرقمي بكل من التصنيع الرقمي والرقمنة الصناعية. ويُقصد بالتصنيع الرقمي، تحويل الصناعات المرتبطة بالتكنولوجيا، كصناعة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والإنترنت، إلى صناعات أساسية، أما الرقمنة الصناعية فتتمثل في تحويل الصناعات التقليدية لتصبح صناعات متطورة اعتمادا على التقنيات المتطورة، كالذكاء الاصطناعي وسلسلة الكتلة، وغيرهما. فالاقتصاد الرقمي هو الاقتصاد القائم على استخدام التكنولوجيا الرقمية، من خلال التفاعل والتكامل بين تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والاقتصاد. وركائز هذا الاقتصاد هي: التجارة الإلكترونية والبنوك الإلكترونية والوسائل الإلكترونية. أما المتطلبات المُسبقة فتتمثل في توافر البنية التحتية، والبيئة القانونية الداعمة، وكذلك توافر قدرات بشرية، وقطاع مالي داعم مع أهمية توافر الاستثمارات في هذا المجال.
وقد أعلن كلّ من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ومجلس الدولة الصيني في 27 فبراير 2023، عن "إستراتيجية الصين الرقمية"، وذلك بهدف أن تصبح الصين رقمية كليا بحلول 2025، هذا على المستوى الداخلي. وعلى المستوى العالمي، تصبح الصين رائدة رقميا بحلول 2035. تهدف الإستراتيجية إلى أن تقوم الصين بدور قيادي في الثورة الصناعية المُقبلة، من خلال إيجاد نموذجها الرقمي الخاص بها، وبذلك تكون الصين فاعلا ومشاركا في النظام الرقمي عالميا، بحيث لا تكون مُستقبلة للقواعد المفروضة عليها من الخارج؛ انطلاقا من أن بناء اقتصاد رقمي مهم من شأنه مساعدة الصين في المنافسة العالمية وتسريع عملية التحول الرقمي في البلاد. كما أشارت الخطة الخمسية الرابعة عشرة في الصين إلى أنه من المستهدف بحلول 2025، أن تمثل القيمة المُضافة للصناعات المرتبطة بالاقتصاد الرقمي في البلاد 10% من الناتج المحلي الإجمالي.
وتقوم إستراتيجية الصين الرقمية على بعدّين: الأول، هو تحويل البنية التحتية القائمة لأن تصبح رقمية بالكامل. أما الثاني، فهو إيجاد نظام وطني لإدارة البيانات والتحكم فيها. فالصين تنظر إلى البيانات كأصول إستراتيجية يتم التعامل معها بمنطق اقتصادي وإستراتيجي. لذلك، تم إنشاء مكتب وطني للبيانات ليكون الجهة المسؤولة عن الأنشطة المعنية بالبيانات. وإضافة إلى الجوانب الاقتصادية، تؤكد الرؤية الصينية على أهمية تضمين الأبعاد الرقمية في كافة جوانب حياة الأفراد، لتصبح أكثر فاعّلية وكفاءة. لذا، تُعدّ إستراتيجية الصين الرقمية الأولى عالميا كإستراتيجية رقمية كبرى، مُصممة للمدى الطويل، ذات صبغة شاملة؛ إذ تركز على التطوير الرقمي في كافة مجالات التنمية الاقتصادية وغير الاقتصادية. الشمول يرتبط ببعد آخر يتعلق بنطاق التطبيق، بحيث لا تُطبق في المشروعات الكبرى فحسب وإنما أيضا في كافة المشروعات في البلاد أيا كان حجمها، بما يصب في مسار التنمية في البلاد. كما أنها ليست موجهة للداخل فحسب، فمن المهم أيضا ربطها بالرؤية الصينية الأوسع للحوكمة العالمية.
إستراتيجية الصين الرقمية والإنجازات المحققة
منذ عام 2012، شهدت الصين تحركات مهمة، بالتركيز على الابتكار والتكنولوجيا لدعم الاقتصاد. وذلك في إطار سعي الصين لأن تكون رائدة في مجال الاقتصاد الرقمي عالميا. ليشكّل التحول نحو اقتصاد قائم على المعرفة توجها صينيا خلال القرن الحادي والعشرين؛ إذ أدركت الصين مبكرا أن البقاء على المعجزة الصينية في المجال الاقتصادي يتطلب المزيد من الاستثمار في المعرفة والتكنولوجيا الرقمية ودعم البحث والتطوير، وذلك في إطار هدف أشمل هو تطوير اقتصاد قوي متطور تكنولوجيا يسهّل دخول الصين للثورة الصناعية الخامسة. وفي عام 2017، تحولت تلك الرؤية لتصبح إستراتيجية وطنية رسمية.
ورغم أن إستراتيجية الصين الرقمية ما زالت في مراحلها الأولى، فإن الأرقام توضح نجاحات مهمة في هذا الشأن. فقد ارتفع حجم الاقتصاد الرقمي في الصين من 2ر11 تريليون يوان في عام 2012 إلى 9ر53 تريليون يوان صيني في عام 2023، أي أنه خلال 11 عاما نما الاقتصاد الصيني بمعدل 25ر381%. ويوضح الشكل رقم (1) تطور حجم الاقتصاد الرقمي الصيني خلال الفترة من عام 2005 إلى عام 2023. فخلال أقل من عقدين، نما الاقتصاد الرقمي في الصين بمعدل 1973%. وكنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، مثّل الاقتصاد الرقمي 4ر41% من حجم الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022، وفي عام 2023 مثّل حجم الاقتصاد الرقمي 7ر42% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.