على مقهى في الشارع الصيني < الرئيسية

الديمقراطية الفاعلة

: مشاركة
2022-01-25 13:49:00 الصين اليوم:Source حسين إسماعيل:Author

في مقابلة مع القناة العربية لشبكة تلفزيون الصين الدولية، المعروفة اختصارا باسم (CGTN)، طُلِب مني التعليق على الكتاب الأبيض الذي أصدره مكتب الإعلام لمجلس الدولة الصينية في الرابع من شهر ديسمبر سنة 2021 تحت عنوان ((الصين.. الديمقراطية الفاعلة)). قلت، إن هدف أي فلسفة أو فكر أو نظام حكم ينبغي أن يكون تحقيق الخير للوطن وللمواطن، بل وللبشرية كلها، وإن أي فكر هو نتاج عملية طويلة من الممارسة والتجربة والخطأ.

ومن المعلوم أن "الديمقراطية" بمعناها الشائع، كلمة يونانية مكونة من شقين؛ الأول هو "ديموس"، ويعني الشعب؛ أي عامة الناس، والثاني هو "كراتيا"؛ أي الحكم. فالديمقراطية تعني "حكم الشعب"، وبعبارة أخرى أن تكون السلطة العليا للشعب. في اللغة الصينية، كلمة الديمقراطية تعني حرفيا "الشعب هو السيد". وقد كان الكاتب والسياسي الصيني ليانغ تشي تشاو (1873- 1929)، هو أول من أدخل مصطلح الديمقراطية إلى الصين. السيد ليانغ ترجم إلى الصينية مؤلفات الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز والمفكر جان جاك روسو وجون لوك ودافيد هوم وبنثام وغيرهم من الفلاسفة الغربيين. وثورة "شينهاي" التي قادها صون يات صن سنة 1911، وقضت على النظام الإمبراطوري في الصين سميت بالثورة الديمقراطية؛ ومن أقوال صون يات صن عن الديمقراطية: "هذا تيار عالمي جياش، من يتقدم معه يحيا، ومن يقاومه يهلك." لكن تجربة حزب "الكومينتانغ" الذي أنشأه وقاده السيد صون، فشلت، وعاد النظام الإمبراطوري الإقطاعي وانتهج قادة الحزب طريقا استبداديا أفقدهم دعم الشعب الصيني. وكان تمسك الحزب الشيوعي الصيني بالديمقراطية من أسباب انتصاره على الكومينتانغ. وفي مقال مشهور للزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ بعنوان "حول الديمقراطية الجديدة"، شرح بصورة منهجية الديمقراطية الصينية، وقال: "السياسة الديمقراطية وحدها يمكنها أن تجنب السلطة الهلاك، وتحقق النهوض العظيم للأمة الصينية." وقد خطت الصين الجديدة، التي ولدت في سنة 1949، خطوات واسعة على طريق التطبيقات الاجتماعية للديمقراطية؛ حيث أُلغِيَت الدرجات والامتيازات الإقطاعية، وتحققت المساواة بين الرجل والمرأة، وأُتيحت فرصة المشاركة السياسية للعمال والفلاحين. وعندما تبنت الصين في سنة 1978 سياسة الإصلاح والانفتاح ارتكزت هذه السياسة على عملية إصلاح سياسي يمكن وصفها بأنها ثورة سياسية، والتي أطلقتها الدورة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي الصيني؛ فخلال هذه الدورة أعيدت هيكلة سلطة الحزب الشيوعي. ويعلم جل الباحثين المتخصصين في الشأن الصيني أنه من دون هذه الثورة السياسية، ما كان سيحدث إصلاح للنظام الاقتصادي في الصين. ومع ذلك، ظل الباحثون الغربيون ينظرون إلى التنمية السياسية والاقتصادية في الصين وفقا للمعايير الغربية التي تقوم على التعددية الحزبية ونظام الانتخابات المباشرة والفصل بين السلطات، معتبرين أن ما تحقق في الصين هو تنمية اقتصادية فقط من دون تنمية سياسية؛ وقد يكون ذلك صحيحا إذا كانت المعايير الغربية هي الأدوات الوحيدة الصحيحة لتقييم النظم السياسية، وإذا كانت التجارب التاريخية أثبتت نجاعة الحلول الديمقراطية الغربية، وهذا لم يحدث، بل على العكس باءت محاولات فرض النموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي بالفشل في حالات كثيرة. الأكثر من ذلك، أن دور النظام السياسي في التنمية الاقتصادية الصينية أعظم من دوره في الدول الغربية، وقد وعى الزعيم الصيني الراحل دنغ شياو بينغ ذلك عندما قال: "من دون إصلاح النظام السياسي، لا يمكن حماية ثمار إصلاح النظام الاقتصادي... ومن دون إصلاح النظام السياسي لن ينجح إصلاح النظام الاقتصادي." لقد آمن السيد دنغ بأن التغيرات الأيديولوجية السياسية مقدمة ضرورية لعملية الإصلاح الشامل؛ لهذا دعا إلى "تحرير العقول" كأول مهمة لحركة الإصلاح، وقال: "إذا لم نحطم الجمود الفكري، ولم نحرر أفكار الكوادر والجماهير، لن يكون هناك أمل في التحديثات." ولعلنا نذكر مقولته الشهيرة: "ليس مهما أن يكون لون القط أسود أو أبيض طالما أنه يصطاد الفئران." ربما لا يعرف كثيرون أن السيد دنغ قال ذلك في ستينات القرن العشرين، قبل انتهاج سياسة الإصلاح والانفتاح بسنوات. المعنى هو أنه طالما أن النظام الاقتصادي أو السياسي يعمل بفاعلية فهو نظام جيد.  

وقد أثبتت تجربة الأكثر من الأربعين عاما الماضية أن هناك علاقة وثيقة بين التغيرات الأيديولوجية والتقدم السياسي والاجتماعي في الصين. وأستعيد هنا ما قاله البروفيسور يوي كه بينغ، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بكين ومؤلف كتاب ((الديمقراطية شيء جيد))، بأن عملية الإصلاح والانفتاح في الصين هي عملية تصادم للأفكار الجديدة والأفكار القديمة، وعملية انتصار الأفكار والمفاهيم الجديدة على الأفكار والمفاهيم القديمة، ثم دفع الأفكار والمفاهيم الجديدة للتقدم الاجتماعي. خلال الأكثر من الأربعين عاما منذ تبني سياسة الإصلاح والانفتاح، ظل الاتجاه العام للتنمية السياسية الصينية هو الديمقراطية؛ حيث تحول الحزب الشيوعي الصيني من حزب ثوري إلى حزب حاكم، وبدأ الفصل بين الحزب والدولة، وصارت الأعمال الحزبية تلتزم بقانون الدولة، وبدأ يظهر مجتمع مدني مستقل نسبيا ويؤدِّي دورا متزايدا، ويترسخ حكم القانون، وتم تعميم الانتخاب المباشر في المناطق الريفية، وأصبحت حقوق الإنسان محمية من قبل دستور الدولة. لكن الإصلاح السياسي في الصين ينتهج مسار الحوكمة إلى حد كبير، بمعنى أنه يهدف رئيسيا إلى حوكمة أعمال الإدارة الحكومية. وقد برزت نتيجة هذا العمل في مجالات عديدة، منها بناء حكومة خدمية وتحسين نوعية الخدمات العامة وشفافية صنع واتخاذ القرارات.

طريق التنمية السياسية الذي تسلكه الصين يختلف اختلافا كبيرا عن النموذج الغربي؛ وكما أسلفت، إذا تم تقييم التنمية السياسية الصينية وفقا للمعايير الغربية، فإنها ليست ديمقراطية لعدم وجود الأعمدة الثلاثة لتلك الديمقراطية، وهي: التعددية الحزبية والانتخابات العامة المباشرة والفصل بين السلطات. وهذا هو الخطأ الذي يقع فيه العديد من الباحثين والمحللين في الدول الغربية وفي الدول العربية أيضا، ممن يضعون أمامهم النموذج الغربي وحده ولا يرون سواه. وفقا للرؤية الصينية، ينبغي أن يكون "حكم الشعب" المعيار الأساسي للديمقراطية، والشكل الذي يجسد ويضمن "حكم الشعب" لا يقوم بالضرورة على الأعمدة الثلاثة للديمقراطية الغربية، فأي نظام تجسد فيه سياسات الحكومة إرادة الشعب ويتيح مشاركة متساوية للمواطنين في الحياة السياسية للدولة، وتُمثل فيه السلطة مصالح الشعب، هو نظام ديمقراطي. يقول البروفيسور يوي كه بينغ، إن الحزب الشيوعي الصيني يدعو إلى تطبيق أربعة أشكال من الديمقراطية؛ وهي: الانتخابات الديمقراطية، واتخاذ القرارات ديمقراطيا، والإدارة الديمقراطية، والمراقبة الديمقراطية. الشكل الديمقراطي الصيني ناتج عن التحديث الصيني، كما أنه جزء من عملية التحديث الصيني، ويضمن الاستقرار الاجتماعي والحقوق الأساسية للمواطن ودفع الحكم الرشيد.

أما بشأن الانتخابات الديمقراطية، فإن الحكومة الصينية تؤكد على التشاور أكثر. لذلك، يرى البعض أن الديمقراطية الصينية هي ديمقراطية تشاورية؛ حيث تتمسك الصين بقيادة الحزب الشيوعي الصيني وحده، ولا تطبق نظام التعددية الحزبية والسياسة البرلمانية. يتمثل حكم الحزب الشيوعي في "قيادة حزب واحد وتعاون أحزاب متعددة". ولا تطبق الصين "الفصل بين السلطات الثلاث"؛ أي بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية كما في الدول الغربية، لكنها تتمسك بالاستقلال النسبي بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية. وبشأن العلاقة بين الجيش والسياسة، لا يُسمح بتدخل الجيش في السياسة، مع التمسك بمبدأ "أن يقود الحزب الجيش". وبشأن العلاقة بين الدولة والمجتمع، نشأ مجتمع مدني مستقل نسبيا له تأثير متزايد على الحياة الاجتماعية، لكن المجتمع المدني الصيني يتسم بأنه موجه من الحكومة، مثلما يخضع اقتصاد السوق في الصين لتوجيه الحكومة.

الكتاب الأبيض حول الديمقراطية في الصين، والمكون من خمسة أجزاء، هي: "العملية الكاملة للديمقراطية الشعبية تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني"؛ "إطار مؤسسي سليم"؛ "ممارسات ملموسة وعملية"؛ "الديمقراطية الفعالة"؛ "نموذج جديد للديمقراطية"، صدر قبل أيام من انعقاد القمة الافتراضية حول الديمقراطية، في يومي التاسع والعاشر من ديسمبر 2021، والتي دعا إليها الرئيس الأمريكي جو بايدن. لقد قرر السيد بايدن وفريقه في المكتب البيضاوي تحديد النظم الديمقراطية وفقا لمعايير لم يتم التشاور بشأنها أو إقرارها من المجتمع الدولي.

في الثاني عشر من نوفمبر 2021، نشرت دورية ((السياسة الخارجية "فورين بولسي")) الأمريكية مقالا بعنوان "قمة بايدن للديمقراطية تحتاج إلى أكثر من الوعود"، كتبها ريتشارد فونتين وجاريد كوهين، جاء فيها: ما تسعى القمة لتحقيقه مازال غير واضح، وكذلك مستقبل القمة على المدى البعيد. إن العملية المستخدمة لتحديد الدول المشاركة غير معروفة أيضا. تصنف منظمة فريدوم هاوس ثلاثة وثمانين بلدا على أنها "حرة" من أصل مائتين وعشرة بلدان، وتصنف ثلاثة وستين بلدا على أنها "شبه حرة"... ليس من الواضح ما هى العوامل التى ساعدت على اتخاذ هذا القرار. في الثاني من ديسمبر 2021، كان التساؤل الذي طرحه بول بيلار في مقالته المعنونة "كيف تدير قمة للديمقراطية في وقت تحتضر فيه ديمقراطيتك؟" في مجلة ((The National Interest)) الأمريكية معبرا عن أصوات كثيرة في العالم.

 يؤكد الكتاب الأبيض الصيني أن الديمقراطية قيمة مشتركة للبشرية، وأن الحزب الشيوعي قاد الشعب في تحقيق الديمقراطية الشعبية في الصين، منوها إلى أن جوهر الديمقراطية الشعبية يتمثل في مكانة الشعب بصفته سيد بلاده. ويشير إلى أن الديمقراطية الشعبية في الصين تدمج الديمقراطية الموجهة نحو الفاعلية مع الديمقراطية الموجهة نحو النتائج، والديمقراطية الإجرائية مع الديمقراطية الموضوعية، والديمقراطية المباشرة مع الديمقراطية غير المباشرة، والديمقراطية الشعبية مع إرادة الدولة. إنه نموذج للديمقراطية الاشتراكية يغطي جميع جوانب العملية الديمقراطية وجميع قطاعات المجتمع. ويؤكد الكتاب الأبيض أن الصين لم تنسخ نماذج الديمقراطية الغربية، لكنها خلقت نموذجها الديمقراطي الخاص، مضيفا أن الطموح الأصلي للديمقراطية الصينية هو ضمان وتأكيد مكانة الشعب كسيد للبلاد، وأن الصين أنشأت وطوّرت عملية كاملة للديمقراطية الشعبية تتماشى وظروفها الوطنية، وأن هذا الشكل من الديمقراطية يتميز بخصائص صينية، ويعكس في ذات الوقت رغبة عالمية إنسانية نحو الديمقراطية. ويوضح الكتاب الأبيض أن العقبة الحقيقية التي تقف أمام الديمقراطية لا تكمن في النماذج المختلفة للديمقراطية، وإنما في الغطرسة والتحيّز والعداء إزاء محاولات الدول الأخرى استكشاف مساراتها نحو الديمقراطية، وفي الإصرار على افتراض التفوق والإصرار على فرض نموذج محدد للديمقراطية على الآخرين.

في الخامس من ديسمبر 2021، أصدرت وزارة الخارجية الصينية، على موقعها الإلكتروني، تقريرا بعنوان: "حالة الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية"، جاء فيه: أنه ليس من الديمقراطية على الإطلاق قياس الأنظمة السياسية المتنوعة في العالم بمعيار واحد، أو فحص الحضارات السياسية المختلفة من منظور واحد. وأكد التقرير، أن النظام السياسي لأي بلد يجب أن يقرره شعبه بشكل مستقل. وأضاف: "ما هو ضروري حاليا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، هو العمل بجدية حقيقية لضمان الحقوق الديمقراطية لشعبها، وتحسين نظامها الديمقراطي، بدلا من التركيز بشكل كبير على الديمقراطية الإجرائية أو الشكلية على حساب الديمقراطية الموضوعية ومُخرجاتها ونتائجها."

الأهمية الجوهرية للديمقراطية هي أن يكون الشعب سيدا للدولة، والتجسيد الملموس لذلك هو سلسلة من الأنظمة والآليات التي تضمن حقيقيا الحقوق الديمقراطية للمواطن. النظام الذي يمكنه أن يضمن أن يكون الشعب سيدا للدولة هو نظام ديمقراطي؛ الفيصل في هذه المسألة هو: هل أصبح الشعب سيدا حقيقيا للدولة، وعلى أي مستوى أصبح "سيدا للدولة"؛ هل تجسد سلوكيات الحكومة إرادة الشعب وتمثل المصالح الحقيقية للشعب؛ هذه هي المعايير الأساسية لتقييم السياسة الديمقراطية ومستوى تطورها.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4