في يوم الأربعاء، الحادي والعشرين من شهر ديسمبر سنة ألفين واثنتين وعشرين الميلادية الموافق الثاني والعشرين من جمادى الأولى عام ألف وأربعمائة وأربعة وأربعين الهجري، تلقيت رسالة من زميلنا في ((الصين اليوم)) بنغ تشو يون، جاء فيها: "أستاذنا محمود يوسف لي هوا ينغ في ذمة الله." فكتبت إليه: "زهرة أخرى تسقط من شجرة الأحباب." حقا، لا أحد عرف لي هوا ينغ إلا وأحبه، فقد كان من ذلك الصنف من الناس الذي يتغلغل في القلوب بمجرد أن تقع عيناك على وجهه الذي لا تفارقه الابتسامة.
بعد قدومي إلى الصين في خريف عام 1992، سمعت اسم محمود يوسف في أكثر من مناسبة، وبالطبع عرفت أنه مدير الطبعة العربية لمجلة ((الصين المصورة)) التابعة لنفس المؤسسة التي تتبعها ((الصين اليوم))، وهي دار النشر باللغات الأجنبية (المجموعة الصينية للإعلام الدولي حاليا). كانت ((الصين المصورة)) تُصدر طبعة ورقية فاخرة قبل توقفها في وقت لاحق. كان المترجم الفلسطيني الأستاذ محمد أبو جراد هو من يقوم بتنقيح مقالات ((الصين المصورة)) بالعربية بجانب عمله خبيرا في وكالة أنباء الصين الجديدة ((شينخوا)). وكان الأستاذ أبو جراد وأنا نقيم في نفس التجمع السكني بفندق الصداقة في بكين. كنت أحيانا أرى الأستاذ لي هوا ينغ في تجمعنا السكني حاملا معه حقيبته التي تحوي مقالات ((الصين المصورة)) لينقحها الأستاذ أبو جراد.
عندما زرت الأستاذ لي هوا ينغ في بيته لأول مرة، دُهشت لحجم تواضع الرجل، وقد كان في عمر والدي تقريبا. وقد لاحظت أن تواضعه هو الانطباع الأول لكل من يلقاه. رحب بي هو وزوجته الفاضلة السيدة طليعة، واحتفى بي الاثنان كثيرا بطريقة جعلتني أشعر بالدفء في هذا البيت الذي يبعد آلاف الكيلومترات عن مسقط رأسي. في الحقيقة، لم أذهب إلي بيته للسؤال عن شيء محدد وإنما لأسمع منه وأُؤْنِس نفسي بالحديث معه. تكررت اللقاءات بيننا وكان زميلي في ((الصين اليوم)) الأستاذ حسن وانغ ماو هو، يرتب لنا هذه اللقاءات ويستمتع معي بصحبة الأستاذ لي هوا ينغ.
كان كثيرون من الذين يأتون إلى الصين للبحث في شؤون المسلمين الصينيين يحرصون على مقابلة الشيخ محمود يوسف. عندما جاء صديقي الدكتور أسامة عبد السلام منصور إلى الصين في سنة 2009 لجمع مادة علمية لأطروحة الدكتوراه له حول التعليم الإسلامي في الصين، كان أول طلب له هو مقابلة الشيخ لي هوا ينغ. وعندما رتبت لهما مقابلة في بيتي بفندق الصداقة في بكين كنت أراقب دهشة صديقي من تواضع الرجل الكبير الذي تجشم عناء الانتقال من بيته ليقابل باحثا شابا مصريا. كان موعدنا في الساعة الخامسة مساء، وقد وصل أسامة إلى بوابة الفندق في الساعة الخامسة وثلاث دقائق، فإذا به يجد الأستاذ لي هوا ينغ منتظرا هناك. قال له الأستاذ إنه وصل في الخامسة تماما. في بداية حديثهما، قال له أسامة: "الأستاذ الشيخ محمود يوسف لي هوا ينغ، العالم المسلم الكبير." فقاطعه قائلا: "أنا لست عالما، أنا أمام العرب مازلت متعلما." كان الأستاذ لي هوا ينغ سعيدا بالمقابلة وأجاب على تساؤلات الباحث المصري بصبر ومودة، وكان يبدأ إجابته بعبارة: "حسب ما أعرف..". عندما غادر الشيخ الكبير بيتي قال لي صديقي المصري: "الشيخ محمود يوسف بكل علمه ومعارفه على هذا القدر من التواضع، ياله من رجل عظيم." في الحقيقة، لم يكن مفاجئا لي أن يطلب الباحث المصري مقابلة الأستاذ لي هوا ينغ، فقبل عشرات السنين من هذه المقابلة، عندما جاء إلى الصين الكاتب المصري فهمي هويدي، بغرض تأليف كتاب عن المسلمين في الصين، كان الأستاذ محمود يوسف أول شخص طلب مقابلته. في يوليو عام 1981، صدر كتاب ((المسلمون في الصين)) لفهمي هويدي ضمن سلسلة ((عالم المعرفة)) في الكويت. وأذكر أنني سألت الأستاذ لي هوا ينغ ذات يوم عن مقابلته مع الأستاذ هويدي، فقال إن الأستاذ فهمي هويدي كان دائما عصبي المزاج. وعندما قرأت أنا كتاب ((المسلمون في الصين)) بدا لي أنه كُتب بالفعل بمزاج عصبي.
أثناء عمله في ((الصين المصورة))، كتب الأستاذ لي هوا ينغ مقالته المشهورة "المسلمون في الصين"، التي نُشرت على أربع صفحات بالعدد الأول لمجلة ((الصين المصورة)) في عام 1980 وطُبع منها حوالي مليون نسخة بإحدى وعشرين لغة ووُزعت في أكثر من مائة دولة خارج الصين. وفي مقابلة مع ((الصين اليوم)) في يناير عام 2004، قال الشيخ محمود يوسف عن هذه المقالة: "كانت أول مقالة مصورة تعكس أحوال المسلمين الصينيين بصورة إيجابية خلال قرابة ربع قرن."
كان الأستاذ لي هوا ينغ حاضرا دائما على صفحات ((الصين اليوم))، فقد نشرت له المجلة سلسلة مقالات بعنوان "الحوار الحضاري الصيني- العربي"، و"الإسلام دين يدعو إلى السلام" و"نصب تشين.. شاهد جديد على تاريخ المسلمين في الصين"، إلخ، وأجرت المجلة معه مقابلات عديدة، وكان آخر ما كُتب عنه في ((الصين اليوم)) مقالة للزميلة لي ينغ بعنوان "لي هوا ينغ.. محبة الوطن والدين"، نُشرت في عدد يونيو سنة 2021. كان ضعف بصره واعتلال صحته في السنوات الأخيرة هو ما منعه عن المساهمة بكتاباته القيمة وعلمه الوفير.
كان الشيخ لي هوا ينغ، في مسيرة حياته وعمله، نموذجا للشخص النبيل، منذ مولده لعائلة مسلمة بمدينة تشينيانغ في مقاطعة خنان عام 1936 حتى وفاته في بكين عام 2022. كان ضمن الدفعة الأولى لخريجي المعهد الصيني للعلوم الإسلامية في عام 1957. كان من أساتذته في المعهد علماء مرموقون من بينهم الإمام الكبير بانغ شي تشيان (محمد تواضع) والأساتذة ما جي قاو وما وي تشي وجين ماو تشيوان وتشن كه لي. وقد حظي مع زملائه من الدفعة الأولى لخريجي المعهد بمقابلة ماو تسي تونغ وتشو أن لاي ودنغ شياو بينغ وغيرهم من كبار قادة الحزب والدولة في الصين. وبرغم ذلك، واجه الشاب لي هوا ينغ بعد تخرجه صعوبة في إيجاد عمل له في بكين، فاضطر لقبول العمل كموظف بريد في منطقة ريفية بمقاطعة تشينغهاي ذات الظروف الطبيعية القاسية. وخلال السنوات الأربع التي أمضاها في هذا المكان النائي، لم ينس لي هوا ينغ غايته الأصلية، فانكب على تحصيل العلم وتعميق معارفه. وقد قال عن ذلك: "لم أبدد شبابي سدى، بل اغتنمت كل فرصة لاستذكار ما تعلمته من اللغة العربية والمعارف الإسلامية." وبينما كان بين جبال تشينغهاي، ترجم قصيدة للشاعر المعروف خه تشي فانغ من الصينية إلى العربية، وأرسلها إلى دار النشر باللغات الأجنبية في بكين (المجموعة الصينية للإعلام الدولي حاليا). لم تكن غايته هي نشر قصيدته المترجمة، وإنما حسب قوله: "لاختبار كفاءتي في التعريب." ما حدث هو أن هذه القصيدة المترجمة غيرت مصير الشاب لي هوا ينغ، فقد نالت الترجمة استحسان خبير عربي سوري كان يعمل في دار النشر باللغات الأجنبية، واقترح توظيف هذا المترجم الشاب في الطبعة العربية لمجلة ((الصين المصورة)). وبالفعل وصل إلى بكين والتحق بالعمل الجديد في عام 1963. وفر العمل في ((الصين المصورة)) فرصة نادرة للشاب المجتهد لي هوا ينغ لزيارة كافة مقاطعات ومدن الصين، فجمع مادة ثرية حول المعالم الإسلامية في البلاد ورتبها وأصدرها في ثلاثة كتب قيمة، هي: ((المساجد في الصين)) و((الإسلام في الصين)) و((الشخصيات الإسلامية البارزة في الصين)). هذه الكتب التي صدرت الطبعة الأولى لها عن دار النشر باللغات الأجنبية في الفترة من سنة 1989 إلى سنة 1993، أعيد طبعها عدة مرات، وقد كتب كل من العلامة عبد الرحمن نا تشونغ مؤسس قسم اللغة العربية في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين، المتوفى سنة 2008، والرئيس السابق للجمعية الإسلامية الصينية الشيخ هلال الدين تشن قوانغ يوان، مقدمة لواحدة من طبعات تلك الكتب، وأثنيا كثيرا على الأستاذ لي هوا ينغ. تعد هذه الكتب الثلاثة أعمالا وثائقية مازالت مرجعا مهما للباحثين في شؤون المسلمين الصينيين وتدرس في جامعات مرموقة بالدول العربية والإسلامية. في المقابلة التي أجرتها ((الصين اليوم)) مع الأستاذ لي هوا ينغ في عام 2004، قال عن مقدمتي نا تشونغ وتشن قوانغ يوان: "من الواضح أن الشيخ هلال الدين والأستاذ عبد الرحمن قد بالغا في تقديري، والحقيقة أن خدماتي في هذا المجال شيء لا يذكر إذا قورنت مع ما قدمه العلماء القدامى، ويجوز اعتباري مثقفا مستفيدا من التعليم الإسلامي الصيني بنوعيه القديم والجديد على أقصى تقدير." في شهر مارس عام 2021، صدر للأستاذ لي هوا ينغ كتاب بعنوان ((هانينغ جيويهوا)) الذي يعني بالعربية (ارتشاف عصارة الزهور)، يستعرض فيه مسيرة حياته كواحد من أبناء قومية هوي في الصين المعاصرة.
خلال مسيرة حياته العملية، نال الأستاذ لي هوا ينغ العديد من الألقاب وحظي بالتكريم داخل الصين وخارجها. في عام 1985، منحته الجهة المعنية في الصين درجة "منقح" وهي درجة علمية تعادل درجة "الأستاذ الجامعي"، وفي عام 1992 منحه مجلس الدولة الصيني لقب "المساهم البارز في الصحافة"، كما انتخب عضوا في مجلس إدارة الجمعية الصينية للمترجمين لمدة ثلاث دورات من سنة 1983 حتى سنة 1992، وفي عام 2006 منحته الجمعية الصينية للمترجمين لقب "المترجم الكبير"، وكان عضوا في لجنة التحكيم الصينية لمؤهلات شاغلي الوظائف العليا في الترجمة، وهي أعلى هيئة علمية للمترجمين الصينيين. وبرغم كل هذا التكريم كنت أسمع الشيخ محمود يوسف، الكبير المتواضع، يقول دائما عندما يتحدث معي: "معذرة لأن لغتي العربية ليست جيدة." كان يؤمن بمقولة "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، فلم يتوقف يوما عن طلب العلم. وكان علم ومعرفة الشيخ لي هوا ينغ جواز السفر الذي أخذه إلى بلاد عديدة خارج الصين للدراسة والعمل والمشاركة في المؤتمرات والنشاطات العلمية، فقد زار المملكة العربية السعودية ودولة الكويت والإمارات العربية المتحدة والمملكة المغربية وليبيا والصومال وقطر ولبنان وباكستان وإيران وماليزيا ومالطا وسويسرا وألمانيا وفرنسا. وحظي بمقابلة العديد من الزعماء والقادة، ومنهم خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك خالد بن عبد العزيز، وملك المغرب الراحل الحسن الثاني، أثناء مشاركته في "الدروس الحسنية" التي كانت تُلقى في حضور الملك الحسن الثاني وبحضور العديد من العلماء والمشايخ من داخل المملكة المغربية وخارجها.
لم يتقاعس الأستاذ لي هوا ينغ يوما عن المساهمة بعلمه وخبرته لخدمة أبناء وطنه وقوميته. في عام 2006، وبينما كان يعاني من أمراض عديدة وضعف شديد في البصر، طُلب منه المساعدة في فك رموز نصب تذكاري مكتوب بالعربية كان قد اُكتشف سنة 1990 بقرية شوينانقوان في محافظة تشينيانغ بمقاطعة خنان، مسقط رأس الأستاذ لي هوا ينغ. وقد كشف الأستاذ لي هوا ينغ عن أن هذا النصب يتضمن معلومات تاريخية باللغة العربية حول نشأة قومية هوي في وسط الصين، ويعد دليلا آخر على أن ثقافة هوي جزء أصيل من الثقافة الصينية. في عام 2013، أُدرج نصب مسجد قرية شوينانقوان ضمن قائمة الدفعة السابعة للآثار المحمية الهامة على المستوى الوطني بالصين. في يناير عام 2014، عندما اجتمع أكثر من مائة صيني مسلم في مسجد نيوجيه ببكين، لإحياء الذكرى السنوية الخامسة والخمسين لرحيل معلمه الشيخ محمد تواضع بانغ شي تشيان، حرص على المشاركة معهم بل وترأس اللجنة المنظمة لهذا الاجتماع، وقال في كلمة له بهذه المناسبة: "هدفنا من إحياء هذه الذكرى هو تنبيه أبناء المسلمين في الصين بأن لا ينسوا أسلافهم في دعائهم، وأن يرثوا رسالتهم السامية في تطوير الإسلام في الصين. ومن هؤلاء الأسلاف شيخنا المرحوم محمد تواضع بانغ شي تشيان، باعتباره قائد حركة الثقافة في الأوساط الإسلامية الصينية في بداية القرن العشرين، وعالما تربويا عظيما، والذي بفضل جهوده أصبح دفعة من تلاميذه أساتذة كبارا في العلوم العربية والإسلامية، منهم ما جيان (محمد مكين)، وعبد الرحمن نا تشونغ." كان يقول دائما إن أكثر ما يفخر به هو خدمة المسلمين الصينيين وتعزيز الصداقة بينهم وبين إخوتهم خارج الصين وتطبيق السياسة الدينية للحكومة الصينية. كان نموذجا رائعا لأبناء قومية هوي المحبين لوطنهم ودينهم. ولهذا، تظل سيرة حياته نبراسا للشباب من أبناء قومية هوي وغيرها من القوميات الصينية.