على مقهى في الشارع الصيني < الرئيسية

الثقة والديمقراطية والأساطير الثلاث

: مشاركة
2023-06-26 13:30:00 الصين اليوم:Source حسين إسماعيل:Author

في عام 1995، أصدر المفكر الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما كتابه المعنون بـ"الثقة: الفضائل الاجتماعية وخلق الرخاء". يجادل فوكوياما بأن الدول المزدهرة تميل إلى أن تكون تلك التي يمكن فيها إقامة العلاقات التجارية بين الناس بشكل غير رسمي ومرن على أساس الثقة. ويعتقد كثيرون أن كتاب ((الثقة)) يتجاوز في أهميته كتاب ((نهاية التاريخ والإنسان الأخير))، الذي أصدره فوكوياما في عام 1992. يقول المفكر المصري الدكتور عبد المنعم سعيد إن "الثقة" هي الرابطة الأساسية في تقدم العالم المعاصر، فالمجتمعات تتكون لأن بين أفرادها رواية مشتركة تسمي الهوية، ولكنها لا تستمر من دون مصالح تجمعها، ودون تحديات تواجهها، وربما تهديدات تخاف منها، فيكون ذلك بذرة ما يسمى بـ"الوطنية". ولكن أعظم ما يجعل المجتمع مجتمعا بحق وفقا لفوكوياما هو "الثقة" بين الأفراد والأسر والجماعات الفرعية.

لقد ظل العالم، لعشرات السنين بعد الحرب العالمية الثانية، يعتقد أن الديمقراطية الغربية هي مفتاح نجاح الدولة وهي حجر الأساس للحوكمة العالمية. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ذهب فوكوياما إلى القول بأن الديمقراطية الليبرالية الغربية هي الشكل النهائي للحكومة البشرية. بيد أن الأسطورة التي روج لها فوكوياما في "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" لم تدم طويلا لأن الصين، تلك القوة الاقتصادية الصاعدة، ذات نظام حكم مختلف، ولم يكن نظامها السياسي المختلف عن الديمقراطية على النمط الغربي عائقا لنجاحها الاقتصادي على الرغم من كل الصعوبات التي واجهتها، بما في ذلك الحروب التجارية ضدها من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وجائحة كوفيد- 19، بل كانت الاقتصاد الرئيسي الوحيد الذي حقق نموا اقتصاديا إيجابيا في عام 2020.

في مقالة له بصحيفة ((تشينا ديلي)) الصينية يوم 23 مارس 2023، يقول أونغ تي كيت مدير "مركز آسيا الشاملة الجديدة" في كوالالمبور بماليزيا: "في حين أن العالم بحاجة ماسة إلى تعاون عالمي منسق في مواجهة التحديات العالمية، فإن القيادة العالمية التي يُفترض أن توفرها القوة العظمى السائدة لا تلوح في الأفق؛ بدلا من ذلك، فإنها تضع الحوكمة العالمية في حالة من الفوضى." وعلى مر السنين، تعرضت الإدارة العالمية المستندة إلى الأمم المتحدة للاختطاف من جانب القوة المهيمنة وحلفائها لخدمة مصالحها الخاصة. ومع ذلك، تستمر بعض القوى الغربية في العزف على مصطلح "النظام القائم على القواعد" في خطابها، على الرغم من أن القواعد يتم تفسيرها وفقا لرغباتها. وحتى في الوقت الذي لا يزال فيه العالم المُستقطَب يعاني تداعيات الجائحة، فإن التعاون العالمي المتعدد الأطراف يزداد تشظيا مع الانقسام الأيديولوجي الذي انبعث من قبر الحرب الباردة. ومن المفارقات أن هذا يتم باسم الدفاع عن الديمقراطية الليبرالية؛ نفس شكل الديمقراطية الذي تجاهر به الولايات المتحدة الأمريكية والغرب ويختاران نشره في جميع أنحاء العالم. يتم تصنيف جميع الدول، من جانب واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية، على أنها ديمقراطية أو غير ديمقراطية، أي استبدادية. في المنظور الجغرافي- السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، فإن الديمقراطية ليست سوى أداة ملائمة للمنفعة السياسية في حشد الدعم لواشنطن لوصم بكين وتشويهها وسط تراجع ما يسمى بـ"السلام الأمريكي (Pax Americana)". وقد تم بعث التسمية القديمة "النظم الاستبدادية" من صندوق أدوات الحرب الباردة لعزل الصين عن المجتمع الدولي. يتم تحويل الديمقراطية إلى سلاح لعزل الصين، أكبر منافس لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، عن بقية العالم.

أصبح النموذج الغربي للديمقراطية الليبرالية هو المعيار الوحيد للديمقراطية، وقد تم الترويج للاقتراع العام ووجود مؤسسة انتخابية متعددة الأحزاب "صوت واحد لشخص واحد" على أنها حجر الزاوية للديمقراطية. وقد احتكر الغرب الحق في تفسير الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، وعملت القوى الغربية على "تغيير النظام" في البلدان التي لا ترضخ لإملاءاتها. حدث ذلك على الرغم من أن ميثاق الأمم المتحدة ينص صراحة على أنه لا يوجد بلد لديه التفويض المطلق لفرض معاييره وسياساته على البلدان الآخرى تحت أي مبررات. وتُثبت الإخفاقات المتكررة للحكومات الديمقراطية على النمط الغربي أن جوهر الحكم الديمقراطي لا يكمن في إقامة نظام انتخابي متعدد الأحزاب في حد ذاته، ولكن بشكل أكبر في شموله، سواء في عملية صنع القرار أو في صياغة السياسات وتنفيذها.

في مقالة بعنوان "ما الذي يخطئه الغرب بشأن الصين؟ نشرتها مجلة ((هارفادر بيزنس ريفيو)) في عدد مايو- يونيو 2021، يقول رنا ميتر، أستاذ تاريخ وسياسة الصين الحديثة بجامعة أكسفورد، وإلسبيث جونسون، المحاضرة في كلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: "عندما سافرنا إلى الصين لأول مرة، في أوائل التسعينيات، كان الأمر مختلفا تماما عما نراه اليوم.. بفضل السياسات التي تهدف إلى تطوير الاقتصاد وزيادة الاستثمار الرأسمالي، برزت الصين كقوة عالمية، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، مع وجود طبقة وسطى مزدهرة حريصة على الإنفاق.. شيء واحد لم يتغير، رغم ذلك، وهو أن العديد من السياسيين الغربيين لا يزالون لا يفهمون الصين." وحسب الكاتبين، فإنهم في الغرب افترضوا خطأ، على سبيل المثال، أن الإنترنت في الصين سيكون مشابها للنسخة الحرة والمضطربة سياسيا التي تم تطويرها في الغرب، وأن النمو الاقتصادي الصيني يجب أن يُبنى على نفس الأسس التي يقوم عليها الاقتصاد في الغرب. فشل كثيرون في تصور استمرار دور الدولة الصينية كمستثمر ومنظم ومالك للملكية الفكرية.

يطرح رنا ميتر وإلسبيث جونسون سؤالا، وهو لماذا يصر القادة في الغرب على فهم الصين بشكل خاطئ؟ ويقولان إنهما توصلا إلى أن السبب في ذلك هو تشبثهم في الغرب بثلاثة افتراضات (أساطير) مشتركة ولكنها في الأساس خاطئة حول الصين الحديثة. الأسطورة الأولى هي أن الاقتصاد والديمقراطية وجهان لعملة واحدة. فقد افترض العديد من الغربيين أن الصين تسير على نفس مسار التنمية الذي شرعت فيه اليابان وبريطانيا وألمانيا وفرنسا في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، والفرق الوحيد هو أن الصينيين بدأوا في وقت متأخر كثيرا عن الاقتصادات الآسيوية الأخرى. وفقا لوجهة النظر هذه، سيؤدي النمو الاقتصادي والازدهار المتزايد للصين إلى التحرك نحو نموذج أكثر ليبرالية لكل من اقتصادها وسياستها، كما فعلت تلك الدول. في خطاب ألقاه في عام 2000، قال الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون: "إن الصين من خلال الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، لن توافق ببساطة على استيراد المزيد من منتجاتنا فحسب، وإنما أيضا استيراد واحدة من أعز قيم الديمقراطية؛ الحرية الاقتصادية. عندما يمتلك الأفراد القوة لتحقيق أحلامهم، فإنهم سيطالبون بدور أكبر." الحقيقة أن العديد من الصينيين يعتقدون أن الإنجازات الاقتصادية لبلادهم، ومنها الحد من الفقر على نطاق واسع والاستثمار الضخم في البنية التحتية والتطور كدولة مبتكرة، تحققت بفضل شكل الحكم القائم في الصين، والذي يوصف في الغرب بأنه استبدادي.

أشير هنا إلى مسح بعنوان "فهم مرونة الحزب الشيوعي الصيني- استبيان رأي الصينيين عبر الزمن" أجراه إدوارد كننغهام، من مركز ASH للحكم الديمقراطي والابتكار في كلية كينيدي الحكومية بجامعة هارفارد، والذي كشف عن رضا المواطنين الصينيين عن حكومة بلادهم بنسبة 95%. يقول إدوارد كننغهام: "منذ بدء المسح في عام 2003، زاد رضا المواطنين الصينيين عن الحكومة فعليا في جميع المجالات. من تأثير السياسات الوطنية إلى سلوك مسؤولي المدن المحليين، يصنف المواطنون الصينيون الحكومة على أنها أكثر قدرة وفعالية من أي وقت مضى. ويقول رنا ميتر وإلسبيث جونسون: "إن تجاربنا الخاصة على أرض الواقع في الصين تؤكد هذا." ومن المثير للاهتمام، أن الفئات الأكثر تهميشا في المناطق الداخلية الأكثر فقرا بالصين هم الأكثر تعبيرا عن الزيادة في الرضا. تتعارض هذه السردية مع المصير المتوقع لأي "حكم استبدادي" من منظور الديمقراطية الليبرالية. إن الغطرسة المطلقة والأحكام المسبقة للنخب السياسية الغربية ضد أي شيء غريب أو غير غربي جعلتهم أقل قابلية لتقبل أي شكل بديل للديمقراطية على النمط الغربي في الطيف السياسي العالمي. ومن الأمثلة على ذلك، وفقا للسيد أونغ تي كيت، نموذج الحكم الصيني الذي لا يفتقر مطلقا إلى عناصر الديمقراطية المتمحورة حول الناس. ظل الغرب يغض الطرف باستمرار عن قيمة التشاور المتأصلة في النموذج الصيني للحكم، والتي تتناقض بشكل صارخ مع قاعدة حكم الأغلبية في الديمقراطية على النمط الغربي. قد يبدو أن قاعدة حكم الأغلبية تتميز بحرية المعارضة، ولكن النتيجة النهائية لاتخاذ القرار هي أن "الفائز يأخذ كل شيء" بغض النظر عن هامش الأغلبية. في المقابل، فإن عنصر التشاور المخصص لاستيعاب آراء الأقلية يجعل النموذج الصيني لـ"الديمقراطية التشاورية" أكثر شمولا في ممارسته. وحسب أونغ تي كيت، فإن نسبة الموافقة العالية لصالح الحكومة الصينية، وفقا للمسح الذي أجراه كننغهام، تعكس التأييد الساحق لصياغة السياسات ونظام حكم الحزب الشيوعي الصيني. وفي كل الأحوال، فإنه في ممارسة الديمقراطية يظل اختيار الشعب هو المهم.

الأسطورة الثانية، حسب رنا ميتر وإلسبيث جونسون، هي أن الأنظمة السياسية التي توصف في الغرب بأنها استبدادية لا يمكن أن تكون شرعية. يقولان: "لا يعتقد الكثير من الصينيين أن الديمقراطية ضرورية للنجاح الاقتصادي فحسب، وإنما أيضا يعتقدون أن شكل حكومتهم مشروع وفعال.. يعود جزء من شرعية النظام في نظر الصينيين إلى جذوره التاريخية؛ فقد اضطرت الصين في كثير من الأحيان إلى محاربة الغزاة.. قاتلت بمفردها بشكل أساسي ضد اليابان من عام 1937 حتى عام 1941. بعد مرور أكثر من سبعين عاما على تأسيس الصين الجديدة، يعتقد العديد من الصينيين أن نظامهم السياسي أصبح الآن في الواقع أكثر شرعية وفعالية من النظام الغربي."

الأسطورة الثالثة، هي أن الصينيين يعيشون ويعملون ويستثمرون مثل الغربيين. والحقيقة أن تاريخ الصين الحديث يعني أن الشعب الصيني والدولة يتعاملان مع القرارات بشكل مختلف تماما عن الغربيين- في كل من الأطر الزمنية التي يستخدمونها والمخاطر التي يقلقون بشأنها أكثر.

مستوى ثقة الناس في الحكم هو أفضل مقياس لمدى تلبية تطلعاتهم في بلدانهم. ويبدو هذا بالتأكيد أكثر امتثالا للديمقراطية في الممارسة العملية بالمقارنة مع شكل بعينه من أشكال الديمقراطية الانتخابية. وربما لا يختلف كثيرون معي في أن الاستقرار يمثل تطلعا مشتركا للصينيين بغض النظر عن المسمى أو الشكل الذي تدار به السلطة. ولعل ما شهده العالم في السنوات الأخيرة، يعزز هذه الرؤية المتمحورة حول التنمية والاستقرار والأمن. وفي وقت يقف فيه العالم على أعتاب عصر جديد من التعددية القطبية، من المتوقع ظهور نماذج حكم مختلفة عبر الطيف الأيديولوجي والثقافي، ويجب قبولها بمساحة واسعة من التسامح والشمول.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4