عندما التحقت بجامعة القاهرة في خريف عام 1983، كان جزء من الطريق ما بين محطة القطارات في ميدان رمسيس وميدان التحرير بالقاهرة، يعج بالمعدات الضخمة الثقيلة التي تعمل في بناء مترو أنفاق القاهرة. كان الطريق شديد الازدحام، وأتذكر أنني ذات يوم قطعت المسافة من جامعة القاهرة حتى ميدان رمسيس سيرا على القدمين لكي أصل في موعد انطلاق القطار المتجه إلى مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، عائدا إلى مسقط رأسي. بعد تخرجي في الجامعة ببضع شهور، وتحديدا في نهاية سبتمبر عام 1987، تم افتتاح الخط الأول لمترو أنفاق القاهرة. كنت واحدا من الذين تحملوا معاناة الزحام خلال فترة إنشاء أول مترو أنفاق في أفريقيا والدول العربية، ومع ذلك لم تتح لي الفرصة للتمتع كثيرا بهذه الوسيلة الراقية والآمنة لنقل الركاب، فبعد تخرجي التحقت بالخدمة العسكرية بعيدا عن القاهرة، ثم سافرت إلى خارج مصر. وعندما وصلت إلى بكين في سبتمبر عام 1992، كانت العاصمة الصينية بها خطان لمترو أنفاق بكين، ولكن لم يكن أي منهما قريبا من مسكني في فندق الصداقة (يويي بينغقوان) بشارع تشونغقوانتسون في حي هايديان في شمال غربي بكين. كانت أقرب محطة مترو أنفاق لمسكني هي محطة شيتشيمن للخط الثاني لمترو بكين على مسافة سبعة كيلومترات تقريبا، ومحطة موشيدي للخط الأول بشارع تشانغآن على بعد حوالي أحد عشر كيلومترا. وفي وقت لم تكن العاصمة الصينية مدينة مزدحمة بالسيارات الخصوصية، كانت وسيلة المواصلات المفضلة لي وربما لمعظم سكان بكين هي الدراجة، فقبل وصولي إلى بكين ببضع سنوات، وتحديدا في عام 1986 كانت الدراجات تستخدم في 60% من الرحلات اليومية لسكان العاصمة، ويأتي من بعدها وسيلة المواصلات الأقرب إلى مكان الإقامة، سواء باصات النقل العام أو سيارات الميكروباص قبل حظرها في العاصمة أو سيارات التاكسي المتعددة الأنواع، ومنها السيارات التي كان يطلق عليها "ميانباو" أي "رغيف الخبز"، ربما لأن شكلها يشبه رغيف الخبز.
في نهاية تسعينات القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة، ومع تحسن مستوى معيشة سكان بكين والمدن الساحلية في الصين، زاد عدد السيارات الخصوصية وصار الازدحام المروري سمة ظاهرة، وصار مشهد "تنين" السيارات في شوارع بكين مألوفا. في عام 1997 وصل عدد السيارات في بكين إلى مليون، مقارنة مع 2300 سيارة في عام 1949، العام الذي تأسست فيه الصين الجديدة. استغرق وصول بكين إلى المليون سيارة الأول نحو ثمانية وأربعين عاما، بينما استغرق الوصول إلى المليون سيارة الثاني ستة شهور فقط. في تلك الفترة، كانت العاصمة قد بدأت بالفعل في تشغيل وإنشاء خطوط جديدة لمترو الأنفاق، باعتباره من أفضل الطرق لحل الازدحام المروري. تزايد عدد السكان والعدد المتزايد من السيارات جعل إنشاء المزيد من خطوط قطارات الأنفاق في المدن الصينية أمرا ضروريا، وبدأت العديد من الحكومات المحلية بمدن عدة في بناء مترو الأنفاق. صار مترو الأنفاق الوسيلة الأكثر تفضيلا للسفر في بكين، كما في مدن عديدة حول العالم لأسباب عديدة، منها أنك تجد دائما محطة لمترو الأنفاق قريبة من مكان إقامتك، فضلا عن السرعة في السفر والالتزام بالمواعيد. وبنظرة بسيطة داخل أي محطة لمترو الأنفاق في بكين، تكتشف أن قطارات الأنفاق باتت وسيلة النقل المفضلة لكل من الركاب المحليين والأجانب.
بدأ العمل في مشروع مترو أنفاق بكين في عام 1953، وافتتح لأول مرة للجمهور في 15 يناير عام 1971، أي بعد نحو مائة وعشر سنوات من بناء مترو أنفاق لندن الذي افتتح سنة 1863، وليكون أول مترو أنفاق في بر الصين الرئيسي، ولتكون الصين ثاني دولة في آسيا لديها مترو أنفاق بعد اليابان التي افتتحت مترو أنفاق طوكيو في سنة 1927. ويُعتقد أن أول مترو أنفاق في بر الصين الرئيسي بني كملجأ من الغارات الجوية أكثر من كونه وسيلة نقل. وحتى أواخر تسعينيات القرن العشرين، لم تهتم الصين كثيرا بمشروعات مترو الأنفاق، إلى أن بدأت السيارات الخصوصية في إحداث اختناقات مرورية وهاجر مئات الملايين من أبناء الريف إلى المدن واستقروا فيها للعمل. ومنذ ذلك الحين، يسير بناء مترو الأنفاق في الصين على المسار السريع للتنمية.
بحلول مارس 2023، صار في بكين 27 خطا لمترو الأنفاق، منها خطان للترام الحديث وخط مغناطيسي منخفض السرعة وخطان سريعان إلى المطار، بطول إجمالي حوالي تسعمائة كيلومتر، و475 محطة، منها 81 محطة تحويل، تربط مناطق وسط المدينة مثل ميدان تيانآنمن وشارع تشيانمن وشارعي وانغفوجينغ وشيدان المشهورين، بالعديد من مناطق ضواحي العاصمة. مترو الأنفاق في بكين عالم رائع وعجيب، تتميز معظم محطاته بجمالها الخاص وتتزين بأعمال فنية أنيقة بشكل مدهش. وعلى سبيل المثال، في محطة يونغدينغمنواي، وهي محطة تحويل بين الخط الثامن والخط الرابع عشر للمترو، يمكنك الاستمتاع بجولة في متحف المحور المركزي الفني الصغير، حيث تمثل منطقة يونغدينغمن الجزء الجنوبي للمحور المركزي التاريخي لبكين. وفي محطات مترو الأنفاق توجد متاجر صغيرة يمكن شراء القهوة أو الماكولات الخفيفة فيها.
قبل عام 2000، كان مترو الأنفاق موجودا في أربع مدن صينية فقط، هي: بكين وتيانجين وشانغهاي وقوانغتشو. بحلول نهاية عام 2022، تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من خمسين مدينة صينية بها مترو أنفاق، بينما يجري العمل في إنشاء المزيد في مدن أخرى. يبلغ طول مترو الأنفاق في كل الصين أكثر من تسعة آلاف كيلومتر، أي نفس المسافة بين مدينة بكين وعاصمة الجمهورية التونسية في قارة أفريقيا. وحسب تقرير نشرته صحيفة ((تشينا ديلي)) الصينية التي تصدر باللغة الإنجليزية، في الثامن من مارس 2023، بلغ طول خطوط النقل بالسكك الحديدية الحضرية المستخدمة في 55 مدينة في بر الصين الرئيسي 95ر10291 كيلومترا بنهاية عام 2022. وحسب بيانات من الرابطة الصينية للمترو تشكل خطوط المترو 85ر77% من إجمالي طول خطوط النقل بالسكك الحديدية الحضرية. ووفقا لتلك البيانات، فإنه في عام 2022 وحده، قامت المدن الصينية بتشغيل 7ر1085 كيلومترا من خطوط النقل بالسكك الحديدية الحضرية، وقد افتتح نصفها تقريبا في الشهور الثلاثة الأخيرة من ذلك العام. واستحوذت شبكة المترو على 01ر77% من الخطوط الجديدة التي تم افتتاحها في عام 2022، تليها السكك الحديدية الحضرية والترام بنسبة 57ر19% و64ر5% على التوالي. وقد أضافت مدينة هانغتشو بشرقي الصين ومدينة شنتشن بجنوبي الصين أطول خطوط نقل بالسكك الحديدية الحضرية في عام 2022، بينما بدأت خمس مدن أخرى في جميع أنحاء الصين تشغيل النقل بالسكك الحديدية الحضرية في عام 2022. وعلى مدى السنوات العشر الماضية، ظلت بكين وشانغهاي، تتبادلان المركز الأول بين مدن العالم من حيث طول مترو الأنفاق، الذي يبلغ تسعمائة كيلو متر تقريبا في كل منهما.
في الثامن والعشرين من ديسمبر عام 1984، افتتحت مدينة تيانجين ثاني مترو أنفاق في بر الصين الرئيسي، وفي الثامن والعشرين من مايو عام 1993، بدأ تشغيل أول خط لمترو الأنفاق في شانغهاي، لتكون ثالث مدينة في بر الصين الرئيسي بها مترو أنفاق. في هذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها حوالي 25 مليون نسمة، يعمل عشرون خطا لمترو الأنفاق، منها خط مغناطيسي، بطول إجمالي 831 كيلومترا وخمسمائة وثماني محطات، حيث يمكن السفر عبر مترو الأنفاق إلى مناطق بعيدة مثل ديزني لاند ومطار بودونغ، وحتى إلى مدينة كونشان في مقاطعة جيانغسو المجاورة.
وتعد مدينة تشنغدو، عاصمة مقاطعة سيتشوان، نموذجا للتطور السريع لمترو الأنفاق في الصين، فهذه المدينة التي استضافت الدورة الحادية والثلاثين للألعاب الجامعية العالمية من 28 يوليو حتى 8 أغسطس 2023، افتتحت أول خط لمترو الأنفاق بها في عام 2010، ولديها حاليا إثنا عشر خطا بطول خمسمائة كيلومتر تعمل بالفعل، ويجري العمل في ثمانية خطوط أخرى. مكّنت قطارات الأنفاق آلاف الصحفيين الذين غطوا أحداث الألعاب الجامعية والمشاهدين الذين حضروا من استكشاف المدينة التي تضم العديد من المواقع التاريخية والمواقع الطبيعية الخلابة.
مشروعات مترو الأنفاق تكلفتها باهظة، وينصح المخططون الحضريون السلطات المحلية دائما بإطلاق مشروعات مترو أنفاق جديدة عندما يكون من المؤكد أن تحقق تلك المشروعات إيرادات كافية. وقد ألغت السلطات المركزية الصينية أو أجلت بضع عشرات من مشروعات مترو الأنفاق مرة واحدة منذ حوالي عشر سنوات عندما تجاوز دين الحكومة المحلية المعنية الحد الأعلى، وفعلت ذلك أيضا في السنوات الأخيرة، عندما كانت هناك حاجة إلى أموال ضخمة لمنع انتشار كوفيد- 19 والسيطرة عليه. وتقدر تكلفة بناء كيلومتر واحد من مترو الأنفاق بأكثر من ستمائة مليون يوان (الدولار الأمريكي يساوي 2ر7 يوانات حاليا) في المتوسط. وتتضاعف التكلفة في المناطق ذات الظروف الجيولوجية الصعبة، أو عندما يتطلب البناء تهجير السكان أو هدم تجمعات سكنية ودفع تعويضات للسكان أو بناء مساكن بديلة لهم. من نافلة القول إن مترو الأنفاق من مشروعات المنفعة العامة، وعندما تقوم الحكومات المحلية ذات الإيرادات المحدودة بإنفاق عشرات الملايين من اليوانات على بناء مترو الأنفاق، فهذا يعني أنها ستنفق أقل على مشروعات النفع العام الأخرى، مما يضر بالمصالح العامة القصيرة الأجل للشعب. لذلك، ومن أجل الحد من الاندفاع في بناء مترو الأنفاق، أوضحت السلطات المركزية الصينية أن المدن التي يقل عدد سكانها عن ثلاثة ملايين نسمة لا ينبغي لها أن تبني مترو أنفاق، وليست هناك حاجة لبناء مترو أنفاق على الطرق التي يكون فيها تدفق الركاب في اتجاه واحد كل ساعة أقل من ثلاثين ألف راكب. كما تم تنبيه الحكومات المحلية بأن تضع مواردها المالية في الاعتبار، لأن تكلفة تشغيل مترو الأنفاق قد تكون عالية، كما أن فرص جني الأرباح من مشروعات مترو الأنفاق الجديدة صعبة للغاية في المستقبل المنظور. وفقا للتقارير، فإن عددا قليلا فقط من الخطوط المزدحمة تحقق أرباحا بعد تشغيلها لعشرات السنين.
عندما رجعت إلى بكين في شهر يونيو 2023، كان مترو الأنفاق الاختيار الأول لي، فمحطة المترو على بعد خطوات من مكان إقامتي وتستغرق المسافة إلى مقر مجلة ((الصين اليوم)) أقل من نصف ساعة، وسعر التذكرة أربعة يوانات فقط، في حين أن سيارة التاكسي تقطع نفس المسافة في وقت يتراوح بين أربعين وستين دقيقة حسب حالة المرور، وقد تتجاوز التكلفة خمسين يوانا. في مترو الأنفاق ببكين، يدخل الراكب إلى المحطة بتمرير هاتفه النقال على الجهاز المعني، وبالنسبة لمن ليس لديهم التطبيق المطلوب، يمكنهم الدفع نقدا. وفي بعض المحطات حاليا، يمكن للراكب تمرير راحة اليد أمام جهاز مخصص للدخول إلى المحطة. يتطلب ذلك من الراكب القيام بالإجراءات المطلوبة مسبقا، والتي تتضمن أخذ بصمة راحة يد الشخص وربطها بحسابه في تطبيق ويتشات، وأيضا تسجيل البيانات الشخصية على جهاز الخدمة الذاتية في محطة مترو الأنفاق. وقد تم توفير هذه الخدمة تجريبيا في خط مطار داشينغ الذي يمتد من محطة تشاوتشياو التبادلية بين الخطين 19 و10 إلى مطارداشينغ الدولي.
قطارات الأنفاق منفعة عامة يتمتع بها كل من المسافرين المحليين والسياح، وسوف يستمر تطورها في الصين بفضل توسع المدن والتوسع الحضري السريع فيها.