في الرابع عشر من الشهر الماضي، سبتمبر 2023، اختتم الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو زيارة دولة إلى الصين، ووصفها بـ"التاريخية". الزيارة التي استمرت أسبوعا كاملا، قام خلالها مادورو بجولات في عدد من المدن الصينية، بما في ذلك شنتشن بمقاطعة قوانغدونغ في جنوبي الصين وشانغهاي وجينان بمقاطعة شاندونغ في شرقي الصين.
في الثالث عشر من سبتمبر، أجرى الرئيس الصيني شي جين بينغ محادثات مع مادورو، وأعلن الرئيسان الارتقاء بالعلاقة بين الصين وفنزويلا إلى "شراكة إستراتيجية في كل الأحوال". وخلال اللقاء، قال الرئيس شي: "الصين تنظر دائما إلى علاقاتها مع فنزويلا من منظور إستراتيجي وطويل الأجل، وتدعم بقوة جهود فنزويلا لحماية السيادة الوطنية والكرامة الوطنية والاستقرار الاجتماعي، فضلا عن قضية فنزويلا العادلة المتمثلة في معارضة التدخل الخارجي." وأضاف أن إقامة "شراكة إستراتيجية في كل الأحوال" بين الصين وفنزويلا تلبي التوقعات المشتركة للشعبين وتتوافق مع الاتجاه العام للتنمية التاريخية، داعيا الجانبين إلى الدفع من أجل تعاون إستراتيجي مثمر أكثر بين الجانبين، لجلب المزيد من الفوائد للشعبين وضخ المزيد من الطاقة الإيجابية في السلام والتنمية العالميين.
ومن جانبه قال مادورو إن فنزويلا والصين تتمتعان بصداقة عميقة وتعاون مثمر، مما يجعل العلاقات الثنائية نموذجا للعلاقات بين دول الجنوب العالمي. وقال إن الشعب الفنزويلي يشكر الصين حكومة وشعبا على دعمها ومساعدتها القيمة عندما كانت فنزويلا تعاني من عقوبات أحادية غير قانونية وجائحة كوفيد- 19. وأضاف أن التنمية الوطنية في فنزويلا والعلاقات بين فنزويلا والصين تمر بمرحلة مهمة، مؤكدا أن إقامة "شراكة إستراتيجية في كل الأحوال" لها أهمية تاريخية وستؤدي بالتأكيد إلى حقبة جديدة من العلاقات الثنائية. جدير بالذكر أن العام القادم يصادف الذكرى السنوية الخمسين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين وفنزويلا.
زيارة نيكولاس مادورو للصين، وهي الخامسة له منذ تولى الحكم في بلاده، أثارت اهتماما واسعا وحديثا متجددا عن العلاقات الصينية- اللاتينية والتعاون بين دول الجنوب العالمي، على خلفية مزيد من الحقائق التي تشير إلى تطورات سريعة وعميقة في روابط الصين مع دول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، ومنها: أولا، أن الصين هي ثاني أكبر شريك تجاري لأمريكا اللاتينية منذ عشر سنوات، وحاليا الشريك التجاري الأول لدول أمريكا الجنوبية. في عام 2022، بلغ إجمالي حجم التبادل التجاري بين الصين وأمريكا اللاتينية 79ر485 مليار دولار أمريكي، مقارنة مع 2ر261 مليار دولار أمريكي في عام 2012 و5ر236 مليار دولار أمريكي في عام 2015. زاد حجم التبادل التجاري بين الجانبين أكثر من عشرين مرة خلال السنوات العشر المنصرمة. والصين هي الشريك التجاري الأول لبعض دول أمريكا اللاتينية، ومنها البرازيل حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما 150 مليار دولار أمريكي في عام 2022، وفنزويلا، حيث زاد حجم التبادل التجاري بين البلدين في النصف الأول من عام 2023 بنسبة 16% على أساس سنوي، ووصل إلى 91ر1 مليار دولار أمريكي؛ ثانيا، أن أمريكا اللاتينية حاليا هي ثاني أكبر مقصد للاستثمارات الصينية المباشرة في الخارج، متقدمة على قارة أفريقيا، ولا يسبقها سوى قارة آسيا. وحتى نهاية عام 2020، بلغ الحجم التراكمي للاستثمار الصيني في أمريكا اللاتينية 81ر629 مليار دولار أمريكي. وحسب تقرير لكلية ستيفن جيه غرين للشؤون الدولية والعامة بجامعة فلوريدا الدولية، في الثالث من يناير 2023، ظلت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر من الصين إلى أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي ثابتة عند مستويات تزيد عن 5ر4 مليارات دولار أمريكي سنويا في المتوسط منذ عام 2016. قبل عام 2016، كانت حصة منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي أقل من 3% من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر من الصين إلى الخارج سنويا. الآن، زادت حصتها إلى ما بين 5% و10%؛ ثالثا، أن ثلث دول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي البالغ عددها 33 دولة، قد وقعت مع الصين وثائق تعاون بشأن البناء المشترك لـ"الحزام والطريق"؛ رابعا، أنه بالإضافة إلى أطر التعاون الثنائية، يتعاون الجانبان في أطر جماعية شاملة أو جزئية، فقد تأسس منتدى التعاون بين الصين ومجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي في عام 2014. كما أن تجمع بريكس يضم الصين والبرازيل، وستنضم إليه الأرجنتين في يناير 2024. ويتعاون الجانبان أيضا في إطار مجموعة العشرين، التي تضم في عضويتها الصين والبرازيل والأرجنتين والمكسيك؛ خامسا، أنه بحلول مارس 2023، زاد عدد دول أمريكا اللاتينة التي تقيم علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية إلى ست وعشرين دولة، بعد إعلان هندوراس قطع علاقاتها مع تايوان. الملاحظ أنه خلال السنوات الست الأخيرة، منذ عام 2017، أقامت خمس دول في أمريكا اللاتينية علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية. من نافلة القول إن كوبا هي أول دولة في أمريكيا اللاتينية أقامت العلاقات الدبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية، في عام 1960؛ سادسا، أن علاقات الصين الاقتصادية مع دول أمريكا اللاتينية شهدت دفعة كبيرة في عام 2023، حيث وقعت عدة دول من بينها نيكاراغوا وتشيلي وبيرو وكوستاريكا والإكوادور على اتفاقيات تجارة حرة مع الصين.
محددات علاقة الصين مع دول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، أجملها عضو مجلس الدولة ووزير خارجية الصين وانغ يي، في تصريحات له نشرتها وكالة أنباء الصين الجديدة ((شينخوا)) في العشرين من مايو 2022، فقد قال إنه على الرغم من بعد المسافة بين الصين ودول أمريكا اللاتينية والكاريبي، فإنهما يتشاطران مصالح مشتركة واسعة ويدعم كل منهما ويساعد الآخر بشكل دائم، مشيرا إلى أن تعاونهما هو تعاون بين بلدان الجنوب يتميز بالمنفعة المتبادلة والنتائج المربحة للجانبين. وتأمل الصين في تعميق التعاون العملي في مختلف المجالات ودفع العلاقات مع دول أمريكا اللاتينية والكاريبي إلى مستوى أعلى. وأعرب وانغ عن معارضته لعقلية الحرب الباردة العنيدة لبعض الدول ومحاولاتها تقسيم المجتمع الدولي من خلال المواجهة الأيديولوجية، قائلا إن التعاون بين الصين وأمريكا اللاتينية يستند إلى المساواة والمنفعة المتبادلة دون أي اعتبارات جيوسياسية ولا يستهدف أي طرف ثالث ولا يسعى إلى استبدال أي طرف، ويجب أن يخلو من تدخل الأطراف الثالثة. وأوضح السيد وانغ أنه في مواجهة التحديات العالمية المختلفة في حقبة ما بعد الجائحة، يتعين على الصين ودول أمريكا اللاتينية والكاريبي التمسك بشكل مشترك بأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة والأعراف الأساسية الحاكمة للعلاقات الدولية وحماية سيادتها وأمنها ومصالحها التنموية بجدية. وقال إن الصين مستعدة لتعزيز التنسيق والتعاون مع دول أمريكا اللاتينية والكاريبي في الشؤون الدولية والمتعددة الأطراف، ورفع راية التعددية بشكل مشترك، وتعزيز التضامن والتعاون الدوليين، وضخ المزيد من الطاقة في الوضع الدولي المعقد والمتغير باستمرار.
في الخامس عشر من يونيو 2023، نشر الموقع الإلكتروني لمجلس الشؤون الخارجية الأمريكي مقالة بعنوان ((نفوذ الصين المتزايد في أمريكا اللاتينية))، جاء فيها: "على مدى أكثر من عشرين عاما، طورت الصين علاقات اقتصادية وأمنية وثيقة مع العديد من دول أمريكا اللاتينية، بما في ذلك البرازيل وفنزويلا. لكن نفوذ بكين المتزايد في المنطقة، يثير مخاوف في واشنطن وخارجها." وحسب الدراسة التي أعدتها ديانا روي، الكاتبة المتخصصة في شؤون نصف الكرة الغربي، فإن دور الصين في أمريكا اللاتينية يتنامى بسرعة منذ مطلع القرن، مما يعد بفرص اقتصادية، بينما يثير أيضا المخاوف بشأن نفوذ بكين. وتُعد الشركات المملوكة للدولة في الصين من كبار المستثمرين في صناعات الطاقة والبنية الأساسية والفضاء في المنطقة. وقد تجاوزت الصين الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها الشريك التجاري الأكبر لأمريكا الجنوبية. كما قامت بكين بتوسيع وجودها الدبلوماسي والثقافي والعسكري في جميع أنحاء المنطقة. وفي الآونة الأخيرة، استفادت من دعمها أثناء جائحة كوفيد- 19، حيث قامت بتزويد المنطقة بالمعدات الطبية والقروض ومئات الملايين من جرعات اللقاح. وتخشى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها أن تستخدم بكين هذه العلاقات لتحقيق أهدافها الجيوسياسية. وتعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يرى الصين باعتبارها "منافسا إستراتيجيا" في المنطقة، بتعاون اقتصادي أكبر مع أمريكا اللاتينية، لكن بعض المحللين يقولون إن الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تفعل المزيد. إلى هنا ينتهي تحليل ديانا روي. وحسب تقرير لصحيفة ((هوانتشيو "غلوبال تايمز")) الصينية، في الرابع من يونيو 2023، فإن التعاون المتنامي بين الصين وأمريكا اللاتينية، والذي يمثل خطوة إيجابية تستحق الترحيب، يلقى تذمرا من البعض في الولايات المتحدة الأمريكية. ونسبت الصحيفة الصينية إلى وكالة ((بلومبرغ)) القول بأن واشنطن تسعى إلى الحصول على "أدوات جديدة للتنافس مع الصين في أمريكا اللاتينية". ونقلت ((بلومبرغ)) عن خوان غونزاليس، المدير بمجلس الأمن القومي الأمريكي لنصف الكرة الغربي، القول بأن الإدارة الأمريكية تعتزم تصحيح موقف الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة (أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي) من خلال تغييرات في مؤسسة تمويل التنمية، وهي وكالة تنمية للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط. واعتبرت ((هوانتشيو))، أن تلك التحركات تكشف مرة أخرى عن نهج واشنطن المهيمن والخاسر في علاقاتها مع الدول والمناطق الأخرى. لقد تعاملت الولايات المتحدة الأمريكية لفترة طويلة مع أمريكا اللاتينية باعتبارها "الفناء الخلفي" لها، وكانت تحاول جاهدة تخريب التعاون الطبيعي المربح للجانبين بين الصين ودول أمريكا اللاتينية. ومع ذلك، وسط الصعوبات الاقتصادية المحلية التي ترجع في جزء كبير منها إلى السياسات السامة للولايات المتحدة الأمريكية، تسعى العديد من دول أمريكا اللاتينية بشكل متزايد إلى توسيع التعاون مع الصين.
لسنوات عديدة، حاولت الولايات المتحدة الأمريكية زيادة نفوذها في دول أمريكا اللاتينية، ومع ذلك لم تتمكن دول أمريكا اللاتينية من تحقيق الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية التي طالما رغبت فيها. والآن مع تحول الولايات المتحدة الأمريكية إلى موقف الحمائية، تآكلت فرص التنمية التجارية لأمريكا اللاتينية، حتى أن بعضها يواجه أزمات متعددة بسبب السياسة النقدية غير المسؤولة التي ينتهجها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. وتواجه بعض دول أمريكا اللاتينية الأخرى مواقف مماثلة، وتدرك الآن أكثر من أي وقت مضى أن إجماع واشنطن، الذي يرتكز على الهيمنة الأمريكية ويهدف إلى الإبقاء عليها، قد مات. وفي هذا السياق، هناك تصور متزايد للصين كشريك يمكن الاعتماد عليه في المنطقة. وقد أبدت السوق المشتركة الجنوبية (ميركوسور) اهتماما كبيرا بالسعي إلى توسيع التعاون مع الصين، والذي يقوم على أساس المنافع المتبادلة والإمكانات الواسعة للتعاون مع الصين.