عادت منطقة الشرق الأوسط إلى بؤرة اهتمام العالم مرة أخرى، مع دخول الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني جولة جديدة من العنف منذ أطلقت حركة حماس الفلسطينية يوم السبت السابع من أكتوبر 2023، آلاف الصواريخ على إسرائيل في هجوم مباغت كبير ردت عليه إسرائيل بغارات جوية واسعة النطاق وإجراءات عقابية. جاء الهجوم متزامنا تقريبا مع الذكرى السنوية الخمسين لحرب أكتوبر 1973، التي بدأت في السادس من أكتوبر.
يرى كثير من المراقبين أن الأحداث المشتعلة في الشرق الأوسط مناسبة أخرى لاختبار مواقف الأطراف الدولية، للتمييز بين من يدقون طبول الحرب ودعاة السلام، في وقت لا تزال أصداء المصالحة التاريخية بين إيران والسعودية بوساطة صينية تدوى في أرجاء المنطقة والعالم. فعلى النقيض من الولايات المتحدة الأمريكية التي سارعت بإعلان دعمها لإسرائيل بكل السبل، بما في ذلك إرسال سفن حربية إلى الشرق الأوسط، فإن الصين والهند ومعظم دول أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، اتخذت موقفا عقلانيا ينسجم مع القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. في الثامن من أكتوبر، نقلت وكالة أنباء الصين الجديدة ((شينخوا)) عن متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية قوله، إن الصين قلقة للغاية إزاء التصعيد الحالي للتوترات وأعمال العنف بين فلسطين وإسرائيل، وإنها تدعو الأطراف المعنية إلى التزام الهدوء وممارسة ضبط النفس والوقف الفوري للأعمال العدائية لحماية المدنيين، وتجنب المزيد من تدهور الوضع. وأضاف المتحدث أن تكرار الصراع يبرهن مرة أخرى أن جمود عملية السلام الذي طال أمده لا ينبغي أن يستمر، وأن المخرج الأساسي من الصراع يكمن في تنفيذ حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. وقال المتحدث إنه ينبغي للمجتمع الدولي التحرك بشكل أكثر إلحاحا، وتعزيز إسهاماته إزاء القضية الفلسطينية، وتسهيل الاستئناف المبكر لمحادثات السلام بين فلسطين وإسرائيل، وإيجاد سبيل لتحقيق السلام الدائم. وأكد أن الصين ستواصل العمل بشكل حثيث مع المجتمع الدولي لتحقيق هذه الغاية.
نذكّر هنا بأن الرئيس الصيني شي جين بينغ اقترح في يونيو 2023، عقد مؤتمر دولي للسلام بشأن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، وقال إنه مستعد للعب دور نشيط في تسهيل محادثات السلام. وخلال الزيارة التي قام بها رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس إلى بكين في يونيو، دعا الرئيس شي إلى أن تصبح فلسطين عضوا كامل العضوية في الأمم المتحدة.
في الاجتماع المغلق الذي عقده مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في التاسع من أكتوبر حول "الشرق الأوسط، بما فيه القضية الفلسطينية لبحث التطورات الأخيرة وتصاعد الوضع"، جاء موقف الصين واضحا، فقد قال مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة، تشانغ جيون، عند خروجه من قاعة الاجتماع: "الصين تدين جميع أعمال العنف والهجمات ضد المدنيين." قد يكون من المفيد هنا أيضا أن نذكّر بما قاله تشانغ جيون نفسه في اجتماع لمجلس الأمن عقد في الخامس من يناير 2023، حول "الحالة في الشرق الأوسط، بما في ذلك القضية الفلسطينية"، عقب قيام وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير بدخول الأماكن المقدسة في القدس، مصحوبا بحراسة أمنية مشددة وما رافقها من أحداث عنف، فقد أعرب مندوب الصين عن الأسف للأحداث التي وقعت، وقال: "يعترينا القلق. إن أي تصرفات وأي أفعال أحادية الجانب في الأماكن المقدسة من شأنها أن تصعد من التوترات ومن المشكلات، الأمر الذي قد ينذر باشتباكات ومواجهات لأن هذا أمر يمس الوضع الديني للمواقع الدينية". وأكد السيد تشانغ أن التصرفات الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين قد أدت إلى تأجيج الوضع، قائلا إن الصين تدعو دائما إلى المحافظة على الهدوء وإلى صون السلم والأمن في المناطق الدينية والمقدسة، وتدعو الأطراف كافة لأن تحافظ على الهدوء وتمارس ضبط النفس تجنبا للمزيد من التصعيد. ولفت السيد تشانغ الانتباه إلى أن "قرارات مجلس الأمن تدين وبشكل واضح، أي تدابير من شأنها أن تغير الطابع الديمغرافي وكذلك حالة الأرض المحتلة منذ عام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية". وفي كلمته أمام أعضاء مجلس الأمن قال إن ما يؤدي دائما إلى اندلاع التوترات بين الإسرائيليين والفلسطينيين هو ما يؤثر على تحقيق حل الدولتين. ودعا إلى حث الطرفين على التفاوض من أجل تحقيق حل الدولتين وحل مسألة القدس وغير ذلك من القضايا المرتبطة بالوضع النهائي، وذلك من أجل تحقيق تعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين كبلدين آمنيْن. وقال: "إن الصين تؤيد إقامة دولة فلسطين ذات سيادة كاملة وذلك على حدود عام 1967،على أن تكون القدس الشرقية عاصمة لها. وسنعمل مع المجتمع الدولي من خلال تعددية الأطراف وذلك من خلال مساهمات إيجابية من أجل التسوية الشاملة والدائمة والعادلة للقضية الفلسطينية ومن أجل أن يعم السلم والأمن منطقة الشرق الأوسط."
الموقف الصيني الداعم للسلام والمصالحة والرخاء في الشرق الأوسط، والذي يتفق مع مبادئ السياسة الخارجية الصينية وقرارات الأمم المتحدة وفي مقدمتها القرار رقم 242، ومبدأ حل الدولتين، يثير امتعاض بعض الأمريكيين. لقد كان لافتا أن زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأمريكي تشاك إليس شومر، خلال زيارته للصين مؤخرا، دعا في التاسع من أكتوبر الرئيس شي جين بينغ إلى دعم إسرائيل. السيد شومر ذهب إلى القول إنه يشعر "بخيبة الأمل" لأن بكين لم تظهر أي تعاطف مع إسرائيل. وقالت سفارة إسرائيل لدى الصين في منشور لها يوم 8 أكتوبر على منصة X: "نأمل أيضا أن تتمكن الصين من إظهار التضامن والدعم لإسرائيل في هذه اللحظة الصعبة." وفي العاشر من أكتوبر، كتب جيمس بالمر في دورية ((السياسة الخارجية)) تحليلا بعنوان: "أين تقف الصين من الحرب بين إسرائيل وحماس؟ الأزمة قد تكشف حدود نفوذ بكين في الشرق الأوسط". وأشار نائب رئيس تحرير الدورية الأمريكية المعروفة إلى أن الرئيس شي جين بينغ عبر عن إدانة "جميع أعمال العنف والهجمات ضد المدنيين".
في الثامن من أكتوبر، قدمت صحيفة ((هوانتشيو "غلوبال تايمز")) الصينية، قراءة موضوعية للأحداث الأخيرة، ففي مقال كتبه تشاو يو شا بعنوان "هجوم حماس.. تذكير قاس بأن تيار المصالحة في الشرق الأوسط لن يستمر من دون حل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي"، جاء فيه أن الصين أكدت مجددا أن الطريق الأساسي للخروج من الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي يكمن في تنفيذ حل الدولتين وإقامة دولة فلسطين المستقلة. وقال مراقبون صينيون إن الهجوم المفاجئ، يعد تذكيرا قاسيا بأن تيار المصالحة في الشرق الأوسط لن يستمر مع بقاء الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي من دون حل. يعتقد الخبراء الصينيون أيضا أن هذا الصراع سيوجه ضربة قوية لسياسات واشنطن في الشرق الأوسط، بما في ذلك تعطيل المشروع المقترح للطريق التجاري (الممر الاقتصادي) الجديد بين الهند والشرق الأوسط الذي تدعمه الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يعتبر خطة تهدف إلى مواجهة الصين. وقال لي شاو شيان، مدير معهد الأبحاث الصينية- العربية في جامعة نينغشيا، لصحيفة ((غلوبال تايمز))، إن أحد الأسباب الأعمق لهذا الهجوم هو تعطيل مفاوضات التطبيع الإسرائيلية- السعودية، والتي تسهلها واشنطن في المقام الأول. ويرى الخبراء الصينيون أن هذا الصراع سيشكل انتكاسة شديدة للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط. وأحدث مثال على ذلك هو خطة بايدن لبناء شبكة نقل واسعة النطاق مع الهند والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. إذا قامت المملكة العربية السعودية وإسرائيل بتطبيع العلاقات، فيمكن أن يشمل نظام السكك الحديدية إسرائيل، مما يوسع نطاق المشروع إلى أوروبا عبر الموانئ البحرية الإسرائيلية، وفقا لموقع أكسيوس.
وقال ليو تشونغ مين، الأستاذ في معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة شانغهاي للدراسات الدولية، إن الصين أدركت جوهر حل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وهو ما تعكسه تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، مشيرا إلى أن تنفيذ حل الدولتين وإنشاء دولة فلسطين المستقلة يعني وضع الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني على الطاولة، ومن ثم التحرك لتعزيز المصالحة بين إسرائيل والعالم العربي. وأضاف: "إن الولايات المتحدة الأمريكية تضع خططا لحل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني دون إشراك فلسطين، ثم تفرض هذه الخطة على فلسطين." وأوضح أن الخطة الأمريكية الحالية لحث المزيد من الدول العربية للتصالح مع إسرائيل دفعت فلسطين إلى الزاوية، وهجوم حماس هو آخر محاولاتها. وقال الخبراء إن نجاح الصين في التوسط في المحادثات السعودية- الإيرانية قد يكون بمثابة دور نموذجي في حل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، على الرغم من أن هذا الأخير هو نتيجة لصراعات أكثر تعقيدا.
في الثامن من أكتوبر، كتب هُو شي جين في ((غلوبال تايمز)) أيضا: "أظهرت حماس قدرا كبيرا من السرية ونفذت هجوما مباغتا وقويا، فاجأت فيه الموساد الإسرائيلي ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA). لم تقم حماس بإطلاق آلاف الصواريخ فحسب، وإنما أيضا قامت بالتسلل على نطاق واسع إلى الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل. في الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، يُنظر إلى حماس على أنها عصابة متناثرة من ’الإرهابيين‘، لكن قدرة حماس على تنظيم مثل هذه العملية الضخمة دون تسريب أي معلومات أمر مثير للإعجاب، ويمثل تحديا كبيرا."
يقول السيد هُو: "يتساءل كثير من الناس: لماذا شنت حماس هجوما شاملا في هذا الوقت؟" ويقدم الإجابة: "ما أدى إلى هذا الهجوم على الأرجح هو الصراعات الأخيرة المستمرة الصغيرة النطاق بين إسرائيل والفلسطينيين. حماس تريد تصفية الحسابات مع إسرائيل. لكن من الناحية الإستراتيجية، هذه مقاومة حاسمة من قبل الفلسطينيين ضد التطور الجاري للوضع في الشرق الأوسط نحو التضحية بالمصالح الفلسطينية. خلال فترة ولاية دونالد ترامب، تحولت الولايات المتحدة الأمريكية من التوسط في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني إلى ميل أكثر وضوحا نحو إسرائيل. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المزيد والمزيد من الدول العربية تتصالح مع إسرائيل. وتدفع الولايات المتحدة الأمريكية حاليا من أجل تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. لا يستطيع الفلسطينيون هزيمة إسرائيل بمفردهم، لكنهم بحاجة إلى ’خلق مشهد‘ لكسر الوضع الحالي في الشرق الأوسط." ويختتم السيد هُو بالقول: "على الرغم من قيام دولة فلسطين واعتراف العديد من الدول بها، لا تزال إسرائيل تحتل أرض الفلسطينيين، ويعيش عدد كبير من الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين. إنهم مجموعة ضعيفة في المجتمع الدولي، وغضبهم ومظالمهم أكبر بكثير من تلك التي يشعر بها الإسرائيليون الأقوياء."
هذا الموقف الصيني الواضح يعكس رؤية حكيمة لتسوية النزاعات، ويمثل تطبيقا عمليا لقانون العلاقات الخارجية لجمهورية الصين الشعبية، الذي دخل حيز التنفيذ في الأول من يوليو 2023. تتضمن المادة الرابعة من هذا القانون النص على أن: "جمهورية الصين الشعبية تلتزم بأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وتسعى لحماية السلام والأمن العالميين، وتعزيز التنمية العالمية المشتركة، وبناء نمط جديد للعلاقات الدولية، وتلتزم بتسوية النزاعات الدولية بالوسائل السلمية وتعارض استخدام القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية وتعارض الهيمنة وسياسة القوة. وتظل الصين مؤمنة بمبدأ أن جميع البلدان متساوية بغض النظر عن حجمها أو قوتها أو مستوى تنميتها وتحترم مسارات التنمية والأنظمة الاجتماعية التي تقررها بشكل مستقل شعوب جميع البلدان."