على مقهى في الشارع الصيني < الرئيسية

الصين وتحولات العائد الديمغرافي

: مشاركة
2024-02-06 13:55:00 الصين اليوم:Source حسين إسماعيل:Author

العائد الديمغرافي، وفقا لتعريف صندوق الأمم المتحدة للسكان، هو النمو الاقتصادي الذي قد ينجم عن تحولات في التركيبة العمرية للسكان، وذلك بالأساس عندما تكون شريحة السكان في سن العمل (15- 64 عاما)، أكبر من الشريحة السكانية في سن لا يسمح بالعمل (14 عاما فأصغر، و65 عاما فأكبر). وبطبيعة الحال، ليس كل مجتمع يتوفر له العائد الديمغرافي يمكنه تحقيق نمو اقتصادي قوي، فثمة العديد من الدول يمثل سكانها في سن العمل نسبة مرتفعة ولا تحقق النمو الاقتصادي المنشود. يرتبط بمفهوم العائد الديمغرافي، مفهوم آخر هو نسبة الإعالة الكلية، التي يقصد بها نسبة عدد السكان من سن صفر إلى 14 سنة إلى عدد السكان من سن 15 إلى 64 سنة، أي إعالة الأطفال، ونسبة عدد السكان من سن 65 سنة وما فوق إلى عدد السكان من سن 15 إلى 64 سنة، أي إعالة المسنين.

تَوفُر نسبة كبيرة من السكان في سن العمل لا يعني مباشرة تحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية، فالاستفادة من العائد الديمغرافي تستلزم سياسات وإجراءات ملائمة لتوظيف العدد الهائل من الأيدي العاملة في القطاعات الاقتصادية المناسبة، مع انتهاج برامج للتدريب التحويلي وتحسين مستويات التعليم والتدريب والمهارات المهنية، وغير ذلك من السياسات التي تمكن من توظيف العائد الديمغرافي.

خلال العقود الأربعة الماضية، زاد عدد سكان الصين في سن العمل بسرعة أكبر بكثير من عدد المعالين من الأطفال والمسنين. وقد أدى هذا- من بين عوامل أخرى- إلى زيادة مساهمة الفرد في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ومن ثم زيادة معدل النمو الاقتصادي للصين. خلال الفترة من عام 1980 إلى عام 1995، وهي الفترة التي يعتبرها البعض النصف الأول من العائد الديمغرافي للصين، حقق الاقتصاد الصيني نموا سريعا بلغ في المتوسط 2ر10% سنويا، في وقت كان يدخل فيه سوق العمل الصينية أكثر من عشرة ملايين فرد سنويا. ولا شك أن انتهاج سياسة الإصلاح والانفتاح، التي بدأت في عام 1978، وبزوغ العديد من الصناعات الكثيفة العمالة، فضلا عن إرادة الصينيين القوية لتغيير مصيرهم، عوامل ساهمت في تعظيم الاستفادة من العائد الديمغرافي. في الفترة من عام 1978 حتى عام 2007، كان متوسط معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للصين 7ر9%، مقارنة مع نسبة 3% لنمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي في نفس الفترة. وفي النصف الثاني من العائد الديمغرافي، أي منذ عام 1995، لم يحدث أي تباطؤ في الاقتصاد الصيني، الذي لا يزال يحقق نموا مرتفعا. ورغم أن معدل نمو السكان في سن الإنتاج بدأ في التراجع بالفعل، فإن النمو ظل مدعوما بمعدل ادخار مرتفع يعادل أكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي للصين، فضلا عن الاستثمار المزدهر المدفوع بتدفق الشركات الأجنبية للعمل في الصين.

في نهاية عام 2022، بلغ عدد سكان الصين مليارا وأربعمائة وأحد عشر مليونا وسبعمائة وخمسين ألف نسمة، بانخفاض قدره ثمانمائة وخمسون ألف نسمة عن نهاية عام 2021، لتسجل الصين أول انخفاض في عدد سكانها منذ عام 1961. ومع تحسن مستويات المعيشة والرعاية الصحية والظروف العامة في الصين، بدأت الصين تشهد زيادة كبيرة في نسبة المسنين من إجمالي عدد سكانها. في عام 2000، بلغت نسبة سكان الصين ممن هم في سن الستين فما فوق 10% من العدد الإجمالي للسكان، إذ بلغ عددهم 130 مليون نسمة؛ وبحلول نهاية عام 2022، بلغ عددهم 280 مليونا، أي ما يعادل 8ر91% من إجمالي السكان. ومن المتوقع أن يتجاوز هذا الرقم ثلاثمائة مليون بحلول عام 2025، وأربعمائة مليون بحلول عام 2035. وتشير التوقعات إلى أن نسبة المسنين في الصين ستصل إلى 40% في عام 2050.

حدوث انخفاض طفيف في حجم السكان وزيادة شيخوخة المجتمع أمر لا مفر منه خلال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفقا لخبراء السكان والتنمية. وحسب تقرير نشرته في السابع من نوفمبر 2023 صحيفة ((تشينا ديلي)) الصينية التي تصدر باللغة الإنجليزية، فإنه من المرجح أن يستمر الانخفاض السكاني في الصين حتى القرن الثاني والعشرين، وسوف تحتاج الدولة التي ظلت عقودا تحتل المرتبة الأولى عالميا من حيث عدد السكان، إلى زيادة استثماراتها في الموارد البشرية لمواجهة التحديات الناجمة عن التغير الديمغرافي. وقال تسوه شيويه جين، الرئيس السابق لمعهد الاقتصاد التابع لأكاديمية شانغهاي للعلوم الاجتماعية، نقلا عن دراسة سابقة ونتائج عملية محاكاة، إنه حتى لو زاد معدل الخصوبة الإجمالي في الصين بسلاسة من 55ر1 في عام 2015 إلى مستوى الإحلال السكاني 1ر2، وهو المعدل اللازم لاستقرار عدد السكان، فسوف يستغرق الأمر 60 عاما أخرى لعكس اتجاه الانخفاض السكاني. وبالنظر إلى أن معدل الخصوبة الإجمالي الفعلي في الصين أقل حتى من أرقام الدراسة التي توقعت تلك الأرقام، فمن غير المرجح أن يعود المعدل إلى مستويات الإحلال بحلول عام 2040. لذلك، من المتوقع أن يمتد الانخفاض السكاني إلى القرن المقبل. وأشار تسوه أيضا إلى أن الصينيين يواصلون الهجرة والتمركز في المناطق الحضرية، مما يؤدي إلى تفاقم محتمل لانخفاض عدد السكان في المدن الأقل نموا مقارنة بالمدن الأكثر ثراء. وكشفت بيانات التعداد السكاني الوطني السابع الأخير لعام 2021، أن منطقة شرقي الصين، الأكثر تطورا، تشكل الآن حوالي 40% من إجمالي السكان. ويقترح السيد تسوه أن تتخذ المدن نهجا حذرا في التنبؤ والتخطيط لعواقب هذه التحولات السكانية وتجنب الإفراط في الاستثمار في مشروعات العقارات والاتصالات والبنية التحتية. ولمواجهة هذه التحديات الديمغرافية، يوصي تسوه بأن تعمل الحكومة على تحسين نوعية السكان، بما يتماشى مع حملة التحديث في البلاد من خلال التركيز على التنمية العالية الجودة. وسيتضمن ذلك زيادة الاستثمارات في مجالات، مثل التعليم والرعاية الصحية والرياضة والترفيه والخدمات المعنية. وبدلا من التركيز على مشروعات البنية الأساسية كما كان الحال في السابق، يقترح تسوه إعادة توجيه بعض النفقات نحو تحسين نوعية حياة الناس، وهو ما من شأنه أن يحفز الاستهلاك المحلي في الخدمات ويساعد في الإبحار عبر المخاطر الديمغرافية والاقتصادية بفعالية.

هذه التحولات الديمغرافية في الصين جعلت البعض، وخاصة في الدول الغربية، يرسم صورة متشائمة لمستقبل التنمية في الصين. في التاسع عشر من سبتمبر 2015، نشرت مجلة ((الإيكونومست)) البريطانية مقالة بعنوان "يبدو أن العائد الديمغرافي للصين خرافة". وفي الخامس والعشرين من يوليو 2023، نشر الباحث الهندي أديتيا كومار مقالة في موقع المجلس الهندي للشؤون العالمية بعنوان "تراجع العائد الديمغرافي في الصين"، قال فيها إن الصين تواجه تحديات هائلة بسبب تقلص عدد سكانها، وذلك يؤثر على الاقتصاد والمجتمع الصيني. وأضاف أنه منذ عام 2012، أخذ عدد السكان في سن العمل بالصين في الانخفاض. وقال إن تقرير اللجنة الوطنية الصينية للسكان وتنظيم الأسرة، أشار إلى أن عدد السكان انخفض ثمانمائة وخمسين ألف نسمة في عام 2022.

في الحادي عشر من يوليو 2023، نشر موقع شبكة تلفزيون الصين الدولية (CGTN) تقريرا بعنوان "هل اختفى عائد الصين الديمغرافي؟"، جاء فيه أن ثمة مخاوف متزايدة بشأن مستقبل العائد الديمغرافي للصين مع تحول المشهد الديمغرافي في البلاد. ويرجع ذلك في المقام الأول إلى شيخوخة السكان وانخفاض معدل المواليد، مما يثير تساؤلات حول التآكل المحتمل لهذه الميزة الاقتصادية القوية. وأضاف التقرير أنه على الرغم من التحديات الديمغرافية التي تواجهها الصين، فإنها تمتلك العديد من العوامل التي يمكن أن تساعد في المحافظة على عائدها الديمغرافي في السنوات المقبلة. ونقل التقرير عن ليو يا تشيو، الباحث في المعهد الوطني للتنمية الاجتماعية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، قوله إن النمو الاقتصادي السريع الذي حققته الصين في العقود الأخيرة يمكن أن يعزى جزئيا إلى هذه الظاهرة، يقصد العائد الديمغرافي. ومع ذلك، وفقا للسيد ليو، فإن نمو الصين الاقتصادي لا يتحدد فقط من خلال حجم السكان، وإنما يشمل أيضا عوامل مثل تطوير البنية التحتية السريعة والمستقرة في البلاد، والتحسن العام في مستوى تعليم السكان. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن معدل الالتحاق بالجامعات في الصين وصل إلى ما يقرب من 60% في عام 2023، وفقا لما ذكرته وزارة التعليم الصينية. فقد أنشأت الصين أكبر نظام للتعليم العالي في العالم، حيث حصل 240 مليون فرد على التعليم العالي. ويحتل عدد العاملين في مجال البحث والتطوير بالصين المرتبة الأولى في العالم. وفيما يتعلق بالتعليم الذي يركز على الابتكار وريادة الأعمال، طورت الكليات والجامعات في جميع أنحاء الصين أكثر من 30 ألف دورة متخصصة ووظفت 174 ألف معلم من ذوي الخلفيات المهنية. وقال تيم دايسون، أستاذ الدراسات السكانية الفخري في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية: "قللت الصين معدل المواليد بسرعة، ولكن لديها عدد أقل من الأطفال الذين يتعين عليها تعليمهم، وبالتالي فهي قادرة بشكل أساسي على تعليمهم أكثر فأكثر إلى مستوى أعلى وأعلى لتحسين مستوى رأس المال البشري." وعلى الرغم من انخفاض إجمالي عدد السكان في سن العمل بالصين، فإنها تحتفظ بقوة عمل كبيرة، وهو أمر جدير بالملاحظة بشكل خاص بسبب وفرة العمال المهرة. وتضع هذه الميزة الصين في مكانة إيجابية في السوق العالمية. يوجد في الصين ما يقرب من تسعمائة مليون فرد في سن العمل، تلقى كل منهم 9ر10 سنوات من التعليم في المتوسط، وفقا لوزارة الخارجية الصينية. وبالنسبة لمن يدخلون سوق العمل حاليا، ارتفع متوسط مدة تعليمهم إلى ما يقرب من 14 عاما للفرد. يضاف إلى ذلك، أنه من بين المسنين الذين تبلغ أعمارهم 60 عاما فما فوق، تتراوح أعمار نصفهم تقريبا بين 60 و69 عاما، ويتمتع كثير منهم بالمعرفة والخبرة والمهارات، ولا تزال صحتهم جيدة ويمكنهم الاستمرار برغبتهم في تقديم مساهمات للمجتمع.

ويعتقد تشن وي، الأستاذ بمركز دراسات السكان والتنمية في جامعة رنمين الصينية، أنه عند النظر في المؤشرات الديمغرافية، مثل نسبة السكان في سن العمل ونسبة الإعالة، فإن العائد الديمغرافي للصين لا يزال فاعلا، ويمكن أن يستمر لمدة عشر سنوات أخرى. وذكر تشن أن تزايد أعداد المسنين الأصحاء في الصين وظروف التعليم ستؤدي أيضا إلى زيادة استهلاك السلع والخدمات. وفضلا عن تحسن نوعية السكان، أدت حملة التوسع الحضري المستمرة في الصين إلى هجرة داخلية كبيرة، حيث يبحث الملايين من سكان الريف عن فرص عمل أفضل في المدن. وهذه العملية لا تحفز النمو الاقتصادي فحسب، وإنما أيضا تعالج اختلالات سوق العمل، من خلال إعادة توزيع القوى العاملة على الصناعات والمناطق الأكثر حاجة إليها. ويرى تشنغ تشن تشن، الأستاذ في معهد السكان واقتصاديات العمل في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، وحيث أنه طالما لا يزال أمام الصين مجال واسع لمزيد من التوسع الحضري، فإن ذلك سيساعد في تسهيل تعبئة رأس المال البشري والحراك الاجتماعي، وليس فقط النمو الاقتصادي. وقال أيضا إنه مع مواصلة تحديث القطاع الزراعي، يمكن تحرير نسبة أكبر من القوى العاملة من الزراعة واستخدامها بشكل أفضل في قطاعات أخرى.

تدرك القيادة الصينية أبعاد التحول الديمغرافي الذي تشهده البلاد، وتعمل على التعاطي مع هذا التحول على نحو يحقق لها أعظم استفادة ممكنة. في اجتماع للجنة المركزية للشؤون المالية والاقتصادية التابعة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني، عقد في السادس من مايو 2023، شدد الرئيس الصيني شي جين بينغ على تسريع بناء النظام الصناعي الحديث في البلاد المدعوم بالاقتصاد الحقيقي وتعزيز التحديث الصيني بدعم من التنمية العالية الجودة للسكان. وقال شي إن التنمية السكانية قضية حيوية تتعلق بالنهضة العظيمة للأمة الصينية، ويجب بذل الجهود لتحسين الجودة السكانية الشاملة لدعم التحديث الصيني النمط. وأكد الاجتماع على بذل المزيد من الجهود للمحافظة على معدل المواليد المناسب وحجم السكان. ووفقا للاجتماع، ستعمل الصين على تطوير خدمات شاملة لرعاية الأطفال وتخفيف العبء الواقع على أسر الإنجاب وتربية الأطفال وتعليمهم وتعزيز بناء مجتمع صديق للإنجاب.

تتعامل الصين بحكمة مع التحول الديمغرافي الذي لا مفر منه، وتسعى لتوظيفه لخدمة أهدافها الاقتصادية والاجتماعية بأفضل صورة ممكنة.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4