في رسالة بعث بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى "الندوة الدولية حول دبلوماسية الجوار الصينية" التي عقدت في بكين في الرابع والعشرين من أكتوبر 2023، قال: "ستواصل الصين اتباع مبدأ الصداقة الودية والإخلاص والمنفعة المتبادلة والشمول، والعمل مع الدول الأخرى في المنطقة لبناء موطن آسيوي للسلام والهدوء والرخاء والجمال والتعايش الودي، لكتابة فصل جديد معا في تعزيز بناء رابطة مصير مشترك لآسيا وللبشرية."
ما قاله السيد شي ينسجم تماما مع ثلاث مبادرات طرحتها الصين، توفر إطار عمل لنظام حوكمة متعددة الأطراف أو عالمية لبناء رابطة مصير مشترك للبشرية. هذه المبادرات هي: مبادرة التنمية العالمية ومبادرة الأمن العالمي ومبادرة الحضارة العالمية. كما أن هذا يتفق مع حقيقة أن الصين هي القوة الكبرى الوحيدة في العالم غير المنخرطة في أي صراع مسلح بشكل مباشر أو غير مباشر، بل تركز مساعي الصين على التسوية السلمية للنزاعات المسلحة. في فبراير 2023، أصدرت الحكومة الصينية وثيقة توضح موقف الصين بشأن التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية- الروسية، تضمنت مقترحا من اثنتي عشرة نقطة لإنهاء النزاع من خلال معالجة أعراض الأزمة وأسبابها الجذرية، وأكدت على ضرورة إنهاء النزاع عن طريق الحوار والتفاوض. وقد حظي المقترح الصيني بالترحيب من جانب دول عديدة، وأشاد به ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، واعتبره "مساهمة مهمة". في الرابع عشر من يناير 2024، دعا وزير خارجية الصين وانغ يي، عقب اجتماعه مع وزير خارجية مصر سامح شكري في القاهرة، إلى عقد مؤتمر سلام دولي أكثر شمولا وموثوقية وفعالية لصياغة خارطة طريق لتنفيذ حل الدولتين من أجل تسوية الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. وطرح السيد وانغ اقتراحا من أربع نقاط لحل الصراع الدائر في قطاع غزة الفلسطيني. ملخص النقاط الأربع هو: إنهاء الصراع في غزة في أقرب وقت ممكن؛ تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي بشأن المساعدات الإنسانية في غزة وإنشاء آلية للإغاثة الإنسانية في أقرب وقت ممكن؛ الاحترام الكامل لإرادة الشعب الفلسطيني فيما يتعلق بالترتيبات المستقبلية لغزة؛ تنفيذ حل الدولتين باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق التسوية العادلة للقضية الفلسطينية.
في العاشر من مارس 2023، توصلت السعودية وإيران، بوساطة صينية، إلى اتفاق يتضمن الموافقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما. حظي الاتفاق بترحيب واسع في جميع أنحاء العالم باعتباره نصرا للسلام والحوار. تم استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين الجارتين بعد قطيعة استمرت سبعة أعوام، وفي الخامس من فبراير 2024، دخل قرار إيران بإعفاء مواطني السعودية من تأشيرة الدخول حيز التنفيذ.
ليس ثمة من يعرف قيمة السلام أكثر ممن عانى ويلات الحروب والعدوان. في الفترة من الثالث عشر من ديسمبر سنة 1937، عندما استولت القوات اليابانية على مدينة نانجينغ قتلت أكثر من ثلاثمائة ألف من المدنيين والجنود العزل الصينيين، خلال ستة أسابيع.
في الفترة من الأول إلى الثامن من الشهر الماضي، فبراير 2024، أجرت قوات الدفاع الذاتي اليابانية والجيش الأمريكي تدريب محاكاة بالكمبيوتر لمركز قيادة مشترك حمل اسم "الحافة الحادة (Keen Edge)". وكانت اليابان قد أعلنت في وقت سابق بأن ذلك التدريب لا يستهدف ولا يفترض منطقة أو دولة محددة. في اليوم الرابع للتدريب، نقلت صحيفة ((ذي جابان تايمز)) عن مصادر حكومية يابانية أن قوات الدفاع الذاتي اليابانية والجيش الأمريكي صنفتا الصين كعدو افتراضي لأول مرة في تدريب مركز القيادة المشتركة، مع سيناريو مفترض لنشوب صراع عسكري عبر مضيق تايوان. وقد اعتبرت صحيفة ((هوانتشيو "غلوبال تايمز")) الصينية في تقرير لها يوم 6 فبراير، أن هذا يمثل تصعيدا كبيرا من تصريحات اليابان الاستفزازية التي تقول إن حالة الطوارئ في تايوان هي حالة طوارئ يابانية، وبالتالي حالة طوارئ بالنسبة للتحالف الياباني- الأمريكي، إلى الإجراءات المشتركة الفعلية من جانب اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، وهو أمر خطير للغاية.
وسائل الإعلام اليابانية قالت إن هذه هي المرة الأولى التي تتم فيها تسمية الصين بأنها "عدو افتراضي" في التدريبات العسكرية المشتركة للحليفين الأمريكي والياباني، ولكن الحقيقة، وفقا لوسائل إعلام صينية أن هذه ليست المرة الأولى؛ فحسب تقرير ((هوانتشيو))، فإنه عندما عقدت أول محادثات أمنية ثلاثية بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية والفلبين في يونيو 2023، اعتبرتها وسائل الإعلام اليابانية، بما في ذلك وكالة أنباء كيودو، بمثابة تحضير للتعامل مع "حالة الطوارئ في تايوان". وفي الفترة من العاشر إلى العشرين من نوفمبر من نفس العام، أجرت قوات الدفاع الذاتي اليابانية أكبر مناورة مشتركة على الإطلاق لعام 2023. وقد استخدمت في هذه المناورة، ولأول مرة، على نطاق واسع المطارات والموانئ والمرافق الأخرى المدنية، وقد فهم العالم الخارجي أنها "رد على الصين". واعترفت وكالة أنباء كيودو، في تغطيتها لبرنامج "Keen Edge"، بأن الولايات المتحدة الأمريكية واليابان لديهما خطط عمليات مشتركة متعددة تتصور حالات الطوارئ، مع استكمال مسودة الخطة المتعلقة بتايوان في نهاية عام 2023. وقالت الصحيفة الصينية إن اليابان والولايات المتحدة الأمريكية ربما ترغبان في ممارسة المزيد من الضغوط على الصين بهذه الطريقة لتحقيق تأثير رادع. وبعبارة صريحة، فإنها تريد إبلاغ هدف الردع، وهو الصين، بأن اليابان والولايات المتحدة الأمريكية منخرطتان فعليا في الاستعدادات للتدخل العسكري حتى لا تجرؤ الصين على التصرف بشكل متسرع فيما يتعلق بمسألة تايوان. وإذا كانت اليابان والولايات المتحدة الأمريكية تعتقدان ذلك حقا، فهذا يعني أنهما بالغتا في تقدير نفسيهما واستخفتا بإرادة الصين وقدرتها فيما يتعلق بقضية إعادة التوحيد الوطني. وهذا الخطأ من شأنه أن يجلب مخاطر غير مقبولة على اليابان والولايات المتحدة الأمريكية.
إن التأكيد على أن "حالة الطوارئ في تايوان هي حالة طوارئ يابانية" تعارضه الصين بشدة، وهو الموقف الذي كررته بكين في مناسبات عديدة. لقد احتلت اليابان في السابق تايوان لمدة نصف قرن، وارتكبت العديد من الجرائم الشنيعة. إن دوافع اليابان الحالية للتدخل عسكريا في مسألة تايوان من شأنها أن تلحق ضررا شديدا بتايوان. وهذا أيضا لا يحترم سيادة الصين على جزيرة تايوان وينتهك مبدأ "عدم التدخل في الشؤون الداخلية" المنصوص عليه في معاهدة السلام والصداقة بين الصين واليابان. أما اليابان فلم تعر القدر الكافي من الاهتمام لتحذيرات الصين الصارمة، أو أنها قامت، بتحريض من الولايات المتحدة الأمريكية، بتقييم الوضع بشكل مضلل، فتابعت على نحو متهور المغامرات والاستفزازات فيما يتصل بمسألة تايوان. لقد تطورت إهانة اليابان "لجوهر المصالح الأساسية للصين" من الخطاب إلى الفعل، وسوف تنتقل التدابير المضادة التي أعدتها الصين على نحو مماثل من الخطاب إلى الفعل، وهو ما من شأنه أن يضمن مواجهة اليابان لعواقب وخيمة إذا تدخلت.
عندما ننظر في خريطة الصراعات الإقليمية والدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، نلاحظ وجود معاول الهدم الغربية، والأمريكية تحديدا في كل الصراعات تقريبا. وبنظرة خاطفة على ما يجري في قطاع غزة الفلسطيني، سنرى أن الدولة الوحيدة في العالم التي تتحدى إرادة المجتمع الدولي لوقف العدوان الإسرائيلي هي الولايات المتحدة الأمريكية. ليس هذا فحسب، بل تزود آلة الحرب الإسرائيلية بالذخائر والقنابل وكل أدوات القتل. لا يمكن القول إن كل الشعب الأمريكي مؤيد لموقف إدارة بلاده، ولكن الحسابات الانتخابية للحزبين الجمهوري والديمقراطي تدفع ثمنها شعوب العالم من دمائها وأمنها واقتصادها، بل من وجودها.
لا يتعلم الساسة في طوكيو وواشنطن والعديد من العواصم الغربية دروس التاريخ، ويبدو أنهم لا يأبهون بمعاناة ومآسي الشعوب. في دراسة أعدتها جامعة براون الأمريكية حول خسائر الحروب الأمريكية المفتوحة منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، فإنه بحلول سبتمبر 2021 لقي نحو 432 ألف مدني في أفغانستان والعراق وغيرهما من الدول حتفهم نتيجة أعمال العنف. وبحلول مايو 2023، كشفت الإحصاءات عن مقتل ما يقدر بنحو 6ر3 ملايين إلى 8ر3 ملايين شخص بشكل غير مباشر في مناطق حروب ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، ومن المرجح أن تتراوح الإحصاءات النهائية بين 5ر4 ملايين إلى 7ر4 ملايين. وأشارت الدراسة إلى أن الأشخاص الذين يعيشون في مناطق الحرب قُتلوا في منازلهم وفي الأسواق وعلى الطرق بالقنابل والرصاص والنيران والعبوات الناسفة والطائرات بدون طيار، وعند نقاط التفتيش، عندما كانت المركبات العسكرية تخرجهم عن الطرق، أو عند التعرض لألغام أو قنابل عنقودية أو عنف مسلح من المتمردين والإرهابيين. وتوفى عدد أكبر بكثير من الأشخاص في مناطق الحرب نتيجة للبنية التحتية المدمرة والظروف الصحية السيئة الناجمة عن الحروب مقارنة بالعنف المباشر. وإلى الآن، لا يزال يعاني أكثر من 6ر7 ملايين طفل دون سن الخامسة في مناطق ما بعد 11 سبتمبر من سوء التغذية الحاد، ومن المرجح أن يكون عدد الوفيات الناجمة عن سوء التغذية وتضرر النظام الصحي والبيئة أكبر بكثير من عدد الوفيات الناجمة عن القتال. وذكرت ميريام برجر في تقرير نشرته صحيفة ((واشنطن بوست)) الأمريكية في 15 مايو 2023، أن الباحثين في جامعة براون اعتمدوا في تقريرهم على بيانات الأمم المتحدة وتحليلات الخبراء. ونقل التقرير عن ستيفاني سافيل، وهي مؤلفة الدراسة والمديرة المشاركة لقسم تكاليف الحرب، قولها: "هناك تكاليف متكررة، وهي التكلفة البشرية للحرب، والتي لا يعرفها معظم الناس في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل كاف." وتشير التقديرات إلى أن تكلفة الحرب الأمريكية في العراق بلغت 7ر1 تريليون دولار أمريكي، إضافة إلى 490 مليار دولار أمريكي تمثل مستحقات قدامى المحاربين الأمريكيين. بينما أنفقت واشنطن أكثر من تريليوني دولار أمريكي على الحرب في أفغانستان خلال عشرين عاما.
في شرقي آسيا، كانت فضائع الحرب مروعة. حسب دراسة لعالم السياسة الأمريكي رودولف جوزيف رومل (1932- 2014)، نشرتها جامعة هاواي الأمريكية في عام 1997، فإنه منذ غزو الصين في عام 1937 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، قتل النظام العسكري الياباني ما بين ثلاثة ملايين إلى عشرة ملايين شخص، منهم على الأرجح نحو ستة ملايين من الصينيين والإندونيسيين والكوريين والفلبينيين وفي الهند الصينية.
إن آخر ما يريده المواطن الأمريكي والياباني، وأي إنسان رشيد في العالم، أن يشهد صراعا عسكريا بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية أو حلفائها. في تقرير نشره موقع معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول في الثاني عشر من مايو 2023، يقول تريتا بارسي المؤسس المشارك ونائب الرئيس التنفيذي لمعهد كوينسي، وستيفن سايمون الأستاذ الزائر لدراسات الشرق الأوسط للعام الدراسي 2023- 2024 في مدرسة هنري إم جاكسون للدراسات الدولية: "لا داعي للتحسر على النجاحات الدبلوماسية للصين التي يُزعم أنها حققتها على حساب الولايات المتحدة الأمريكية. ينبغي على الولايات المتحدة الأمريكية التعامل مع الصين، ووضع أقدامها على النار فيما يتعلق بأهدافها المزعومة، وحيثما أمكن، توحيد الجهود لتأمين المصالح المتبادلة." الدبلوماسية تدور حول التحقق من نوايا الخصم واختبار المسارات نحو التسوية المتبادلة. إنها سمة من سمات فن الحكم الذكي، وليس الضعف الإستراتيجي. هكذا يقول تريتا بارسي وستيفن سايمون. العالم في حاجة إلى السلام وليس إلى قارعي طبول الحرب.