اختتمت في الحادي عشر من مارس عام 2024 "الدورتان" أو "ليانغهوي" بالصينية، وهما الدورة الثانية للمجلس الوطني الرابع عشر لنواب الشعب الصيني، والدورة الثانية للمجلس الوطني الرابع عشر للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني لعام 2024. وعلى مدى ثمانية أيام، تابعت كغيري من المهتمين بالشؤون الدولية هذا الحدث السياسي المهم، ليس للصين فحسب، وإنما أيضا للعالم كله. هذا الحدث ليس مجرد كشف حساب لأعمال الصين خلال عام انقضى وإنما الأهم أنه يوضح معالم خطوات الصين للعام المقبل وما بعده. ولأن الصين باتت لاعبا دوليا أساسيا في اقتصاد وسياسة وتوجهات العالم، فلا بد للباحث أن يمعن النظر في التقرير الذي يقدمه رئيس مجلس الدولة الصيني أمام الجلسة الافتتاحية للمجلس الوطني لنواب الشعب، والذي يلقي الضوء على ما أنجزته الحكومة الصينية في العام السابق ويحدد معالم السياسات الصينية للعام المقبل. تضمن "تقرير أعمال الحكومة" الذي ألقاه رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ في الخامس من مارس 2024، إجابات للعديد من الأسئلة التي تدور في أذهان الصينيين وغيرهم. وحسب وكالة أنباء الصين الجديدة ((شينخوا))، فإن التقرير تضمن النقاط الرئيسية التالية: معدل النمو المستهدف للناتج المحلي الإجمالي لعام 2024 في الصين: حوالي 5%؛ خلق أكثر من 12 مليون وظيفة في المناطق الحضرية؛ نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي: 3%؛ إصدار سندات ذات أغراض خاصة للحكومات المحلية: 9ر3 تريليونات يوان (الدولار الأمريكي يساوي 1ر7 يوانات تقريبا حاليا)؛ إصدار سندات خزانة خاصة طويلة الأجل للغاية؛ إطلاق مبادرة الذكاء الاصطناعي+ تعزيز الأبحاث المتعلقة بالتقنيات الإحلالية والرائدة؛ إطلاق برنامج مدته سنة لتحفيز الاستهلاك؛ ميزانية الحكومة المركزية للاستثمار: 700 مليار يوان؛ توسيع الطلب المحلي؛ ضمان المعاملة الوطنية للشركات ذات التمويل الأجنبي؛ العمل على الانضمام إلى الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ؛ السعي إلى تحقيق الانفتاح بمعيار أعلى؛ نزع فتيل المخاطر في قطاع العقارات وديون الحكومات المحلية والمؤسسات المالية الصغيرة والمتوسطة الحجم؛ ضمان كل من التنمية والأمن؛ دفع ثورة الطاقة؛ معارضة ما يسمى بـ"استقلال تايوان" والتدخلات الخارجية؛ دعم الإنصاف والعدالة الدوليين. وإضافة إلى ذلك ذكر التقرير أن الصين تخطط لإنفاق 66554ر1 تريليون يوان (حوالي 5ر234 مليار دولار أمريكي) على الدفاع في عام 2024، بزيادة تبلغ نسبتها 2ر7% عن العام السابق.
تستحق كل عبارة وردت في "تقرير أعمال الحكومة" تدبرا وتحليلا عميقا. كما أن مداولات المسؤولين الصينيين ونواب الشعب حول القضايا المهمة التي تشغل المواطنين في هذا البلد لا بد أن تسترعي الأنظار. ولكن كيف تابعت وسائل الإعلام الغربية "الدورتين"؟ ومن أي زاوية ترى الصين؟
في الخامس من مارس 2024، جاء عنوان صحيفة ((نيويورك تايمز))، في متابعتها لـ"الدورتين"، كما يلي: "المشهد السياسي الكبير في الصين يعود إلى طبيعته نوعا ما". وجاء في صدر تقرير الصحيفة الأمريكية أن "الاجتماع السنوي للهيئة التشريعية الصينية بدا، ظاهريا، وكأنه عودة إلى أيام ما قبل الوباء. لكن الكثير تغير في البلاد منذ ذلك الحين". أكثر ما لفت انتباه مراسلة ((نيويورك تايمز)) فيفيان وانغ، هو أنه "مع دخول ما يقرب من ثلاثة آلاف مندوب إلى قاعة الشعب الكبرى في بكين يوم الثلاثاء الخامس من مارس لحضور افتتاح الاجتماع التشريعي السنوي للصين، لم يكن أي منهم يرتدي الكمامة، واصطف المسؤولون معا للمصافحة والتقاط الصور، ومن حولهم، كان المراسلون والدبلوماسيون من جميع أنحاء العالم يتجولون في الردهة، وقد دُعي العديد منهم من جديد للمرة الأولى منذ تفشي جائحة كوفيد- 19 قبل أربع سنوات".
أما صحيفة ((الغادريان))، البريطانية فقد جاء عنوان تغطيتها: "الصين تحدد هدفا صعبا للناتج المحلي الإجمالي في مواجهة التوترات الإقليمية وشيخوخة السكان". يقول التقرير، الذي كتبته آمي هوكنز، إنه وفقا للإحصاءات الرسمية، نما الناتج المحلي الإجمالي للصين بنسبة 2ر5% في عام 2023. لكن خبراء اقتصاديين مستقلين يقدرون أن معدل النمو الفعلي كان أقل، حيث يقدره المحللون في "روديوم" بنحو 5ر1%. ويعتقد الاقتصاديون أن تحقيق هدف الـ5% هذا العام قد يكون طموحا بالنظر إلى المشكلات الهيكلية التي يواجهها الاقتصاد الصيني وأولويات بكين المتغيرة. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن ينمو الاقتصاد الصيني بنسبة 6ر4% هذا العام. أهملت السيدة هوكنز تقارير المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية المرموقة ولم تلتفت إلا إلى "روديوم"، وهي شركة للتحليلات المالية غير معروفة. تجاهلت الكاتبة تقارير صندوق النقد الدولي، الذي تضمنه تقريرها، والبنك الدولي ومؤسسات مالية مرموقة والتي تتفق تقريبا مع معدل النمو المعلن من السلطات الصينية. لم ينتبه التقرير إلى أن قادة الصين يدركون ظروف بلادهم والعالم، فقد أشار "تقرير أعمال الحكومة" بصراحة ووضوح إلى "الصعوبات والتحديات المتعددة التي تواجهها البلاد، مثل عدم وجود أساس متين بما فيه الكفاية للتعافي والنمو الاقتصادي المستدام ونقص الطلب الفعال". وقد قال رئيس مجلس الدولة الصيني: "إن تحقيق أهداف هذا العام لن يكون بالأمر الهين، لذا نحتاج إلى المحافظة على تركيز السياسات والعمل بجدية أكبر وحشد الجهود المنسقة من جميع الأطراف." إن تحديد هدف نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5% تقريبا جاء بعد تفكير علمي، ويتوافق مع أهداف التنمية الطويلة المدى التي حددتها الخطة الخمسية الرابعة عشرة للصين (2021- 2025).
لقد أثار انتباهي أن تقرير ((نيويورك تايمز)) انشغل بالعديد من النواحي الشكلية، والتي اتخذها "دليلا" على أن الصين في وضع صعب. يقول التقرير إن الرسالة التي تم إرسالها واضحة، وهي أن عزلة البلاد التي طالت قد انتهت، وأصبحت الصين منفتحة مرة أخرى على العالم وجاهزة لممارسة الأعمال التجارية. لكن الوضع الطبيعي في الصين اليوم له معنى مختلف عن ذي قبل. وتحت قشرة الانفتاح هناك علامات تشير إلى مدى تغير الصين في السنوات الأربع الماضية، حيث أصبحت أكثر انعزالية. وحاول التقرير تعضيد "الدليل"، بالإشارة إلى أنه لكي يُسمح للحاضرين بدخول قاعة الشعب الكبرى، كان عليهم إجراء اختبار كوفيد الذي رتبته الحكومة! وخلافا للسنوات السابقة، عندما كان يتم الإعلان عن تقرير يحتوي على هدف النمو الاقتصادي السنوي للحكومة في بداية مراسم الافتتاح، تمت مشاركته هذا العام في البداية فقط مع المندوبين والدبلوماسيين! لم يغب عن ملاحظة مراسلة ((نيويورك تايمز)) أن رئيس مجلس الدولة الصيني استغرق ساعة تقريبا في قراءة "تقرير أعمال الحكومة"، وأنه قدم التحية غير مرة للرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي كان يجلس في منتصف الصف الثاني وأمامه كوبان من الشاي!
أي عدسة وبأي عين ترى الصين، تلك هي المسألة. في الرابع من مارس، جاء في تقرير لصحيفة ((واشنطن بوست)) الأمريكية، أن "الصين تمر بلحظة اقتصادية محفوفة بالمخاطر. ويواجه ثاني أكبر اقتصاد في العالم ضعف الطلب المحلي، وانخفاض الثقة، مع قطاع صناعي ينتج أكثر بكثير مما يريده المشترون. وقد أدى هذا إلى هز المستهلكين الصينيين والمستثمرين الدوليين على حد سواء. ويبدو أن من كتب التقرير يعيش في كوكب آخر، فلا يعرف أن الصينيين أنفقوا في رحلاتهم السياحية خلال عطلة عيد الربيع في شهر فبراير هذا العام ستمائة واثنين وثلاثين مليار يوان، أي ما يعادل أكثر من سبعة مليارات دولار أمريكي، في ثمانية أيام فقط. قد يكون من المفيد هنا أن أكرر ما قاله رئيس وزراء أستراليا الأسبق كيفين رود: "ليس من الضروري أن تزور الصين مئات المرات على مدى أربعين عاما لتستنتج أن المستهلك الصيني هو أفضل ضمان لمستقبل الصين الاقتصادي."
ميزانية الدفاع كانت أيضا موضوع لغط لمراكز البحث ووسائل الإعلام الغربية والتي تسير في ركابها. في الثامن من مارس 2024، نشر المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، وهو معهد أبحاث يقع مقره في بريطانيا، تقريرا بعنوان "زيادة ميزانية الدفاع الصينية لا يمكن أن تخفي الضغوط الحقيقية". ومع اعتراف التقرير بأن ميزانية الدفاع الصينية، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، تبلغ 25ر1%، وأنها أقل كثيرا من المتوسط العالمي البالغ 8ر1%، والهدف الذي حددته دول حلف شمال الأطلسي (2%)، زعم التقرير أن إجمالي الإنفاق العسكري للصين، بما في ذلك البحث والتطوير الممول من الحكومة، وتمويل الميليشيات المحلية والتمويل المركزي لشرطة الشعب المسلحة، سيصل إلى 17ر2 تريليون يوان في عام 2024. في السابع من مارس، قالت صحيفة ((هوانتشيو "غلوبال تايمز")) الصينية: "في كل عام خلال الدورتين، يجذب رقمان رئيسيان اهتماما خارجيا كبيرا: هدف نمو الناتج المحلي الإجمالي وميزانية الدفاع الوطني. وبمجرد إصدار هذه البيانات كل عام، تنطلق جولة من الضجيج حول ’نظرية التهديد العسكري الصيني‘. وهذا العام، أخذت اليابان زمام المبادرة في تأجيج هذه التكهنات." في يوم نشر البيانات، ادعى كبير أمناء مجلس الوزراء الياباني يوشيماسا هاياشي خلال مؤتمر صحفي، أن "الصين عززت باستمرار نفقاتها الدفاعية الوطنية لتعزيز قوتها العسكرية دون شفافية كافية"، واصفا ذلك بأنه "التحدي الإستراتيجي الأكبر وغير المسبوق". وشدد أيضا على ضرورة الرد "بالقوة الكاملة لليابان وبمساعدة الحلفاء والدول ذات التفكير المماثل". قد يكون من المفيد التذكير بأن ميزانية الدفاع اليابانية للعام المالي 2024، زادت بنسبة 5ر16% لتصل إلى حوالي 56 مليار دولار أمريكي، في بلد من المفترض أنه مازال مقيدا بدستور "السلام".
غابت عن اهتمام جل وسائل الإعلام الغربية، قضايا جوهرية عديدة طُرحت خلال "الدورتين". بالنسبة لي، كان تصريح وزير خارجية الصين وانغ يي، في السابع من مارس 2024 بمؤتمر صحفي على هامش "الدورتين"، بأن الصين تدعم فلسطين لتصبح عضوا كامل العضوية في الأمم المتحدة، بيانا مهما في هذا الوقت، برغم أن الصين أكدت من قبل مرارا على هذا الموقف. وقد قال السيد وانغ إن الفشل في إنهاء الكارثة الإنسانية الناجمة عن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي اليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين هو مأساة للبشرية وعار على الحضارة، مطالبا المجتمع الدولي باتخاذ إجراء لإعطاء الأولوية لوقف فوري لإطلاق النار. وقال الوزير أيضا إن الشعب الفلسطيني لديه الحق في العيش في العالم، داعيا إلى إطلاق سراح جميع الأسرى. وأوضح أن استعادة العدالة للشعب الفلسطيني والتنفيذ الكامل لحل الدولتين هو السبيل الوحيد لكسر الحلقة المفرغة للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. وقد جاءت كلمات وانغ يي مباشرة وصريحة في الإشارة إلى الدولة التي تقف حائلا أمام حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم والعيش في سلام، فقال: "ندعم العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة ونحث عضوا محددا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على التوقف عن وضع العراقيل أمام هذه الغاية."
لم تلتفت وسائل الإعلام الغربية لهذا التصريح، فقط أشار إليه الموقع الإلكتروني لشبكة ((ABC)) التلفزيونية الأمريكية في نصف سطر.
عندما يتعلق الأمر بالصين، ينبغي أن نعرف من أي زاوية نرى هذا البلد الكبير، وأن نقارن ما يقال مع ما يجري على أرض الواقع. وكما يقال، التاريخ خير معلم، وقد أخبرتنا تجربة السنوات العديدة المنصرمة أن الأهداف التي تقرها الصين في "الدورتين"، تكون غالبا قابلة للتنفيذ، وأن الحكومة الصينية لا تضع أهدافا خيالية ولا تطرح شعارات جوفاء.