على مقهى في الشارع الصيني < الرئيسية

الصين بين "الطاولة والقائمة" الأمريكية

: مشاركة
2024-06-19 17:37:00 الصين اليوم:Source حسين إسماعيل:Author

أثناء مشاركته في الدورة الستين لمؤتمر ميونخ للأمن التي عقدت في الفترة من السادس عشر إلى الثامن عشر من فبراير 2024 بمدينة ميونخ في ألمانيا، قال وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية أنتوني بلينكن: "إذا لم تكن أنت على طاولة النظام الدولي، فقد تكون على القائمة." "الطاولة" المقصودة هنا هي طاولة الطعام و"القائمة" هي قائمة الطعام أيضا. ما قاله كبير الدبلوماسيين الأمريكيين جاء ردا على تعليق بأن "التوترات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين تؤدي إلى مزيد من التشرذم".

وفقا لافتتاحية صحيفة ((هوانتشيو "غلوبال تايمز")) الصينية في الثاني والعشرين من فبراير 2024، فإن العبارة الصينية المقابلة للعبارة التي استخدمها السيد بلينكن هي: "إذا لم تكن أنت السكين ولوح التقطيع، فسوف تكون السمكَ واللحمَ على لوح التقطيع." وبمعنى أكثر وضوحا، إن لم تكن مُفترِسا (بكسر الراء) فسوف تصبح الفريسة التي تؤكل. الجدير بالملاحظة، أن بلينكن استخدم نفس العبارة في الرابع والعشرين من يناير عام 2022، لتوضيح العلاقة بين بلاده والصين، إذ قال إنه في المنافسة مع الصين، يجب التأكد من أن الولايات المتحدة الأمريكية "على الطاولة (المفترِسة)"، وليست على "القائمة (الفريسة)".

ربما لا يحتاج المرء إلى جهد ليؤكد أن ما قاله وزير الخارجية الأمريكي يجسد تماما السياسة الأمريكية التي تتسم بالغطرسة الوقحة. "إذا لم تكن على طاولة النظام الدولي، فقد تكون على القائمة"، عبارة شديدة الوضوح والصراحة، وتمثل عقلية اللعبة ذات المحصلة الصفرية، والتي تعني أن تأخذ كل شئ أو أن تفقد كل شئ. هذه العقلية لا تقبل التشارك والتنافع، فإذا كانت لديك القوة، فإنك تلتهم الآخرين على المائدة، وإذا كنت تفتقر إلى القوة تصبح فريسة تؤكل. هذه هي شريعة الغاب، حيث القوة والنفوذ، وليست القواعد الأخلاقية أو القانونية، هي التي تقرر السلوك والتصرف. لقد مارست الولايات المتحدة الأمريكية هذه السياسية منذ أكثر من مائتي عام. فمن المذابح الأولى التي ارتُكبت ضد الهنود الحمر إلى استعباد الأفارقة، ومن التدخلات في أمريكا اللاتينية إلى الحملات العسكرية في الشرق الأوسط، والتي امتدت حتى إلى أوروبا، يظل التاريخ الأمريكي مترعا بالاستغلال والنهب. ومن أجل تأمين مكانها على الطاولة، شنت الولايات المتحدة الأمريكية الحروب وفرضت العقوبات وأشعلت وأدارت الاضطرابات في جميع أنحاء العالم. لقد سبق واعترف وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو، بأنهم- أي الأمريكيون- يفعلون كل شئ وأي شئ. ففي منتصف إبريل عام 2019، قال بومبيو أمام طلبة أمريكيين بجامعة "A&M" في ولاية تكساس، أثناء حديثه عن تجربته كمدير للاستخبارات الأمريكية في عامي 2017 و2018: "لقد كذبنا وغششنا وسرقنا. لقد تدربنا لأجل ذلك. إن هذا مجد التجربة الأمريكية." هذه العقلية هي المسيطرة على الساسة الأمريكيين، أيا كانت انتماءاتهم الحزبية أو توجهاتهم السياسية. ويعد الموقف الأمريكي من الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة تجسيدا واضحا لهذه العقلية. الرسالة الأمريكية الواضحة لقادة إسرائيل هي ببساطة: "اقتلوا الفلسطينيين ودمروا كل شئ، فقط اسمحوا بدخول بعض المساعدات، ولا تسرفوا في القتل إلى الدرجة التي تثير انتباه وامتعاض العالم!" برغم تفوه المسؤولين الأمريكيين بمناشدة إسرائيل بالحد من قتل المدنيين، منعت الإدارة الأمريكية مجلس الأمن ثلاث مرات من إصدار قرار لوقف الحرب. في السابع من مارس، كشفت صحيفة ((واشنطن بوست)) الأمريكية أن واشنطن أبرمت مع تل أبيب أكثر من مائة صفقة بيع أسلحة منذ بدء الحرب على غزة في السابع من أكتوبر 2023، وحتى كتابة تقرير ((واشنطن بوست)).

في مقالة نشرها موقع ((Modern Diplomacy "الدبلوماسية الحديثة")) في الحادي والعشرين من فبراير 2024، قال الباحث البنغلاديشي م.أ. حسين، إنه قبل ما يقرب من عقدين من الزمن، كان العالم يتصارع مع خطاب مماثل من الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش: "يتعين على كل دولة في كل منطقة الآن أن تتخذ قرارا؛ إما أن تكون معنا أو أن تكون مع الإرهابيين". وشهدت الفترة التي أعقبت إعلان بوش زعزعة منتظمة للاستقرار من جانب الغرب. فشلت "الحرب على الإرهاب" المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية في إحلال السلام وخربت استقرار البلدان التي كانت مسالمة سابقا. باسم "الحرب على الإرهاب"، حقق المجتمع الصناعي العسكري الأمريكي وعمالقة التكنولوجيا أرباحا ضخمة من خلال العقود المبرمة مع الجيش الأمريكي والوكالات الحكومية الأخرى. يكشف فيلم "فهرنهايت 11/9" الوثائقي لمايكل مور، الحقائق المفجعة وراء هذا الاستهتار من الولايات المتحدة الأمريكية. لقد كانت "الحرب على الإرهاب"، التي أعلنها الرئيس جورج دبليو بوش في عام 2001، سببا في تفاقم الانقسامات على مستوى العالم. لقد كشف هذا الصراع عن عقلية صليبية مع كراهية الإسلام وكراهية الأجانب، بما يتماشى مع مفهوم صامويل هنتنغتون في كتابه "صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي". إن تحول الحرب من مكافحة الإرهاب إلى مكافحة التمرد، وما أعقبه من مهام بناء الدولة في أفغانستان والعراق وليبيا، سلط الضوء على التناقضات في الغرب. وعندما تولى الرئيس جو بايدن منصبه، قال: "لم يكن من المفترض أبدا أن تكون المهمة في أفغانستان هي بناء الدولة."

وبينما يؤكد الخطاب الدبلوماسي الرسمي الحالي لواشنطن على ما يسمى "النظام الدولي القائم على القواعد"، فإنه يستخدم تلك "القواعد" كأدوات لمطالبة الآخرين وتقييدهم واتهامهم، أو للتغطية على نوايا الهيمنة الأمريكية. تشير ملاحظات بلينكن حول "الطاولة والقائمة" إلى أن المنطق الأساسي الذي تؤمن به واشنطن حقا وتتبعه في إستراتيجيتها الخارجية لم يتغير بشكل جذري. قد يكون القصد منه أيضا خلق تأثير مثير للترهيب. ففي الكونغرس الأمريكي، هناك تعبئة للرأي العام حول إستراتيجية الاحتواء ضد الصين، بينما على المستوى الدولي، تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على إرغام الدول الأخرى على الوقوف في صف بينها وبين الصين، وإلا سينتهي الأمر بتلك الدول أن تكون في "القائمة".

إن عالم اليوم ليس مطعما خاصا تحتكره وتسيطر عليه قوة عظمى منفردة، بل إنه مسرح واسع حيث يتعين على كافة البلدان أن تتقاسم فيه الرخاء وتتحمل المسؤوليات وتتنافس بشكل عادل. إن الغالبية العظمى من دول المجتمع الدولي تشترك في الرغبة المشتركة في السلام بدلا من الحرب، والعدالة بدلا من الهيمنة، والتعاون بدلا من المجابهة. ليس من المقدر لأي بلد أن يصبح السمكة في القائمة. إن السير ضد هذا الاتجاه التاريخي لا بد أن يلقى معارضة وانتقادا من قبل المجتمع الدولي. في الحادي والعشرين من فبراير 2024، نشرت ((هوانتشيو))، تحليلا بعنوان "التعايش والتعاون مع الصين هو الاختيار الوحيد بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية". ومما جاء في التحليل، أن الولايات المتحدة الأمريكية تدفع بقوة نحو "الانفصال" عن الصين وتحاول إقناع الغرب برمته بـ"الانفصال" عن الصين، باستخدام مصطلح "إزالة المخاطر". وتأمل واشنطن في نهاية المطاف في احتواء التنمية الصينية من أجل المحافظة على الهيمنة الأمريكية. لكن واشنطن تواجه هذه المرة حضارة شرقية ذات خبرة تاريخية وغنية إستراتيجيا. لقد اختارت القوى المعارضة السابقة التي استهدفتها الولايات المتحدة الأمريكية مواجهتها إستراتيجيا. الولايات المتحدة الأمريكية لا تتمتع بأقوى القدرات التكنولوجية والعسكرية فحسب، وإنما أيضا تسيطر على الشبكات المالية والمعلوماتية العالمية ولديها عدد كبير من الحلفاء. أما البلدان التي دخلت في مواجهات مباشرة فقد تكبدت الخسائر؛ فمنها بلدان انهارت وأخرى ضعفت أو وقعت في صعوبات. ومع ذلك، فإن ما تراه واشنطن من الصين هو رباطة جأش ومرونة إستراتيجيتين.

 وفي محاولة لفهم الوضع الدولي لبكين وواشنطن، يرى التحليل أن موضوع الصين أصبح ساما في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن في أوروبا، لا يزال من الممكن إظهار الود علنا تجاه الصين. هناك منافسة حقيقية بين أوروبا والصين. ولكن، على الرغم من أن أوروبا تميل أكثر نحو الولايات المتحدة الأمريكية، فإن مصطلح "الغرب" يمكن أن يكون موجودا فقط من الناحية الأيديولوجية، أما فيما يتعلق بالمصالح الاقتصادية الأساسية، فإن أوروبا تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية. ومن حيث الأمن، فإن الموقف الأوروبي تجاه الصين يختلف أيضا بشكل كبير عن الموقف الأمريكي. في السابع من مايو 2024، خلال زيارة الرئيس شي جين بينغ لفرنسا، جاء في ((بيان الصين وفرنسا حول الوضع في الشرق الأوسط))، النص على أن "تعمل الصين وفرنسا، بصفتهما عضوين دائمين في مجلس الأمن الدولي، معا من أجل إيجاد حلول بناءة قائمة على القانون الدولي، للتحديات والتهديدات التي تواجه الأمن والاستقرار الدوليين."

في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، أو على أطراف الصين، حيث تريد الولايات المتحدة الأمريكية إنشاء "حلف الناتو الآسيوي"، تختلف الأوضاع المحددة للبلدان المتنازعة مع الصين تمام الاختلاف. تتمتع الصين بنفوذ هائل في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، فهي أكبر شريك تجاري للغالبية العظمى من بلدانها، وتتمتع بعلاقات ودية مع معظم تلك البلدان. إن النزاعات مع دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ ليست صراعات إستراتيجية جوهرية، والصين لديها القدرة على إدارة النزاعات مع كل دولة على حدة ودفعها إلى التحرك نحو الحياد بدرجات متفاوتة دون الارتباط بسياسة واشنطن تجاه بكين.

من جانب آخر، لدى الصين الكثير من الشركاء التجاريين وأصحاب المصلحة في الولايات المتحدة الأمريكية، ففي عام 2023 بلغ حجم التبادل التجاري بين بكين وواشنطن 4ر664 مليار دولار أمريكي، مما يدل على حضور الصين الكبير في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أجبرت المصالح الضخمة الرئيس جو بايدن وكبار المسؤولين في إدارته على الإعلان مرارا وتكرارا عن أنهم "لا يريدون الانفصال عن الصين" وبدلا من ذلك يريدون "إدارة الصين". ويرى تحليل ((هوانتشيو)) المشار إليه، أن الصين عليها أن تخوض معركة إستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية "من أقرب مسافة ممكنة"، وأن مبادرة "الحزام والطريق" سوف تعمل على زيادة قدرة بكين على التنافس مع واشنطن، وتوسيع خط المواجهة الذي تحتاج الولايات المتحدة الأمريكية إلى المحافظة عليه في احتواء الصين، مما يجعل الولايات المتحدة الأمريكية أكثر عجزا.

ومن أجل تفكيك إستراتيجية واشنطن في التعامل مع بكين، يتعين على الصين أن تصبح أكثر تنوعا، مع المحافظة على الاتساق الإستراتيجي. ويقترح التحليل أن تكون الدبلوماسية الصينية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية مبدئية وعقلانية وحازمة للغاية، وأن تكون فريدة من نوعها، بحيث تشتمل على "أصوات مناهضة للولايات المتحدة الأمريكية"، وجهود للمحافظة على العلاقات الودية بين المجتمعين وتوسيع التعاون الاقتصادي والعملي مع الولايات المتحدة الأمريكية. يقول التحليل: "كما نرى الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها دولة معقدة، فلابد أيضا أن يُنظَر في الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين باعتبارها دولة معقدة. فالصين تشكل مصدر قلق جيوسياسي ووجهة استثمارية مربحة بالنسبة للأمريكيين، وهي من أكبر الشركاء التجاريين الذين يصعب استبدالهم. ويتعين على الصين أن تجعل النخب السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية تدرك أنه من غير المجدي التعامل مع الصين بنفس الطريقة التي تعاملت بها واشنطن تاريخيا مع الاتحاد السوفيتي وغيره من القوى الكبرى. علاوة على ذلك، سيكون التعايش والتعاون مع الصين، طوعا أو كرها، هو اختيارهم الوحيد.

يقول الساسة الأمريكيون إن الهدف من إقناع الدول الأخرى بالوقوف إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية هو "توفير اختيار جيد". ومع ذلك، إذا استمرت الولايات المتحدة الأمريكية في أعمال النهب والبلطجة، فستجد نفسها وحيدة على نحو متزايد. إن الاختيار أمام العم سام صارخ: إما تناول الطعام بمفرده على الطاولة أو المشاركة في مأدبة الدبلوماسية والسلام.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4