على مقهى في الشارع الصيني < الرئيسية

"قاوكاو".. العدالة التعليمية في الصين

: مشاركة
2024-07-10 17:34:00 الصين اليوم:Source حسين إسماعيل:Author

في الساعة السابعة صباح يوم الجمعة السابع من شهر يونيو عام 2024، بدأت الأمطار تهطل في العاصمة الصينية، بينما كانت حشود من الناس في حي شيتشنغ تحتمي تحت مظلاتها المفتوحة، والقلق واضح على وجوه الجميع. في ذلك اليوم، بدأ الاختبار الوطني للقبول بالجامعات في الصين (قاوكاو في اللغة الصينية، اختصارا) وهو المعادل لاختبار الثانوية العامة أو البكالوريا في الدول العربية. مشهد الآباء والأمهات والأصدقاء والأقرباء حول لجان الاختبار في الحي الواقع بجنوبي بكين أعاد إلى ذاكرتي مشهدا مماثلا حول مدرسة السادات الثانوية العسكرية بمدينة ديرب نجم في محافظة الشرقية بمصر حيث أديت اختبار الثانوية العامة قبل عشرات السنين، وحول مدارس في حي مدينة نصر بالقاهرة حيث أدى أبنائي اختبارات الثانوية العامة.

اختبار "قاوكاو" لعام 2024 في الصين حظي بتغطية إعلامية واسعة النطاق في الصين وخارجها، ليس لأنه أضخم وربما أصعب اختبار أكاديمي على وجه الأرض فحسب، وإنما أيضا لأن عدد من شاركوا فيه هذا العام غير مسبوق، فقد بلغ ثلاثة عشر مليونا وأربعمائة وعشرين ألف طالب.

وكما هو الحال في في الدول العربية، فإن فترة اختبار "قاوكاو" الذي يعتبره كثيرون مفترق الطرق أو اختبار العمر للطلاب، تُرفع فيها حالة الطوارئ والاستعدادات في الصين، من جانب العائلات والسلطات الحكومية. في بكين، كمثال، ومع بدء هطول الأمطار في صباح أول يوم للاختبار، قام مكتب إدارة المرور في العاصمة الصينية بتفعيل خطة العمل لضمان التدفق السلس لحركة المرور. وتم نشر أكثر من ثمانمائة شرطي على دراجات نارية حول مائة وخمسة أماكن لاختبار "قاوكاو"، لضمان السلامة والنظام. وحتى الساعة التاسعة والنصف صباحا في ذلك اليوم، تلقى المكتب 44 طلب مساعدة من المتقدمين للاختبار وأولياء أمورهم، بما في ذلك إحدى عشرة حالة طوارئ مثل تعطل المركبات.

الاستعدادات لاختبار "قاوكاو" 2024 بدأت قبل فترة من بدء الاختبار، فقد تم اعتماد تدابير خاصة في جميع أنحاء الصين لضمان راحة الطلاب الذين فُقدت أو تلفت بطاقات هويتهم، ويحتاجون بشكل عاجل إلى بطاقة هوية جديدة، أو وثيقة داعمة، لأداء اختبار "قاوكاو". في الأول من يونيو، قامت مقاطعة قانسو بتفعيل القناة الخضراء لإصدار بطاقات دخول الاختبار، واستمر تشغيلها حتى العشرين من يونيو. ومن أجل تقديم المشورة للطلاب خلال فترة الاختبار، أطلقت مقاطعة هوبي مائة وسبعة خطوط اتصال ساخنة للإبلاغ والاستشارة لمعالجة المخاوف المختلفة للمتقدمين للاختبار، والتي شملت تقديم الدعم لضغوط الاختبار والقلق. وفي شانغهاي، بدأت مراكز حجز سيارات الأجرة قبول الحجوزات للطلاب المتقدمين للاختبار قبل أسبوع من بدء "قاوكاو".

يتم تصنيف أوراق اختبار "قاوكاو" على أنها من أسرار الدولة العليا، ويتم نقلها تحت حراسة الشرطة. تستخدم التقنيات المتقدمة، مثل التعرف على الوجه والأبواب الأمنية الذكية والطائرات بدون طيار، لإحباط محاولات الغش. يتم بذل كل هذه الجهود لخلق منافسة عادلة.

في السابع من يونيو 2024، نشرت شبكة (CNN) الإخبارية الأمريكية تقريرا حول "قاوكاو"، لا يخلو من الغمز واللمز حول الصين، فقد جاء في سطوره الأولى: "بدأ عدد قياسي من طلاب المدارس الثانوية في جميع أنحاء الصين إجراء اختبار تنافسي للغاية يمكن أن يقرر مستقبلهم في بلد يتصارع مع تباطؤ الاقتصاد وتناقص الفرص للخريجين الشباب." وقال التقرير إن اختبار "قاوكاو" تصفه وسائل الإعلام الحكومية الصينية بأنه "أصعب اختبار للالتحاق بالجامعات في العالم" بسبب مخاطره العالية وقدرته التنافسية وكثافته، حيث يسكب الطلاب كل ما تعلموه خلال اثني عشر عاما من الدراسة في عدد قليل من اختبارات المواد التي يستمر كل منها أقل من ساعتين. وقد سجل أكثر من 4ر13 مليون طالب في الاختبار هذا العام، ليتجاوز عددهم الرقم القياسي المسجل في العام الماضي والذي بلغ 9ر12 مليون طالب، مما يجعله أضخم اختبار "قاوكاو" على الإطلاق في الصين. وقال التقرير إن الطلاب الصينيين يقضون سنوات في التحضير لاختبار صعب للغاية، حيث أن الدرجات العالية هي الطريقة الوحيدة للالتحاق بأفضل الجامعات في الصين. يتضمن الاختبار موضوعات، مثل الأدب الصيني والرياضيات واللغة الإنجليزية والفيزياء والكيمياء والسياسة والتاريخ. ويحصل معظم الطلاب على فرصة واحدة فقط في هذا الاختبار القاسي، على عكس الطلاب الأمريكيين الذين يمكنهم إعادة أداء اختبار التقييم المدرسي "SAT" للقبول بالجامعات. وقد نشر العديد من المشاهير الصينيين وحتى بعض النجوم العالميين، رسائل على وسائل التواصل الاجتماعي متمنين حظا سعيدا للمتقدمين للاختبار. وقد نشر أسطورة كرة القدم البريطانية ديفيد بيكهام تمنياته الطيبة على موقع ويبو، حيث يتابعه عشرة ملايين فرد، وقال: "أريد فقط أن أقول ’حظا سعيدا‘ لجميع الطلاب الذين سيتقدمون لاختبارهم قريبا." وأشارت (CNN) إلى أن العديد من الآباء والمعلمين كانوا يرتدون ملابس باللون الأحمر، وهو لون النصر في الصين، وكان بعضهم يحمل زهور عباد الشمس التي تعتبر زهرة ميمونة للنجاح الأكاديمي.

الطعن في الصين من قناة "قاوكاو" لم يقتصر على (CNN)، فقد كان عنوان تقرير صحيفة ((الإيكونوميست)) البريطانية في السادس من يونيو 2024 حول "قاوكاو" الصيني، هو "التغييرات التي طرأت على اختبار ’قاوكاو‘ في الصين تتعلق بالسياسة، وليس بالعدالة". وزعم التقرير أن الاختبار يُدار بطرق لا تبدو على قدر كبير من الجدارة، حيث يُسمح للحكومات المحلية بإنتاج نسختها الخاصة من "قاوكاو"، بأسئلة وطرق تسجيل مختلفة. يتمتع الطلاب في مدن النخبة، مثل بكين وشانغهاي، بطريق أسهل للالتحاق بالجامعات المحلية، والتي تضم بعضا من أرقى الجامعات في البلاد.

بالطبع، الالتحاق بجامعة مرموقة قد يعني مستقبلا أفضل، فحسب بيانات عام 2023 لموقع إحصاءات الرواتب الصيني ((xinchou.cn))، فإن متوسط ​​الراتب الشهري لخريجي أفضل خمسين جامعة أعلى بنسبة 30% تقريبا من أولئك الذين يتخرجون في الجامعات التي تحتل المرتبة من 50 إلى 100. ولكن تظل الحقيقة هي أنه برغم كل شئ يظل "قاوكاو"، أو الثانوية العامة أو البكالوريا، الطريقة الأفضل لتقييم مستوى الطلاب، والتي يمكن بها ضمان الحد الأدنى من العدالة بينهم. وقد أثبت نظام "قاوكاو" فعاليته في تحقيق تكافؤ الفرص في الصين، فهو يسمح للطلاب من جميع الخلفيات بالمنافسة بناء على قدراتهم فقط، بعيدا عن تأثير الثروة والعلاقات. ومن خلال توحيد طرق التقييم، لا تعمل الصين على تبسيط عملية القبول الجامعي فحسب، وإنما أيضا تعمل على تعزيز الشفافية والمساءلة. ويُعتقد أن هذا النظام هو أحد أكثر الطرق فعالية لتحقيق العدالة في التعليم لسكان الصين الذين يبلغ عددهم مليارا وأربعمائة مليون نسمة.

بدأ نظام الاختبار الوطني للقبول بالجامعات في الصين سنة 1952، أي بعد تأسيس الصين الجديدة بثلاث سنوات، وكان الخطوة الأولى لإصلاح سياسات الالتحاق بالجامعات في الصين. وفي عام 1966، عندما اندلعت الثورة الثقافية، تم تعليق الاختبار الوطني للقبول بالجامعات وحل محله نظام للقبول يمهد طريق الالتحاق بالجامعات للعمال والفلاحين والجنود، باعتبارهم الفئات الأكثر تفضيلا في تلك الفترة. وخلال السنوات العشر للثورة الثقافية (1966- 1976م)، ظهرت حركة "الذهاب إلى الريف"، التي أطلقها الرئيس ماو تسي تونغ، والتي اضطرت خريجي المدارس الثانوية للذهاب إلى الريف للعمل كفلاحين، وأغلقت الجامعات. في بداية سبعينات القرن العشرين، أعيد افتتاح الجامعات، ولم يُستـأنف العمل بنظام "قاوكاو"، إذ كان يتم ترشيح الطلاب وفقا لخلفياتهم السياسية والعائلية وليس على أساس نتائجهم الدراسية. في سنة 1977، أعيد العمل بنظام الاختبار الوطني للقبول بالجامعات المستمر حتى الآن. كان الاختبار الأول الذي أقيم بعد الثورة الثقافية، في أواخر سنة 1977، حدثا تاريخيا مهما. وتميز اختبار ذلك العام بالإعفاء من شرط تحديد عمر المتقدم للاختبار أو خلفيته التعليمية. ومن ثم، تقدم للاختبار في عام 1977، غالبية الصينيين الذين تراكمت آمالهم طوال عشر سنوات وآخرون رأوا أن يجربوا حظهم. بلغ عدد من تقدموا لاختبار عام 1977 خمسة ملايين وسبعمائة ألف فرد. وبرغم أن وزارة التعليم الصينية زادت نسبة القبول بالجامعات في ذلك العام، لم تتجاوز نسبة المقبولين في الجامعات من الذين تقدموا للاختبار 8ر4%، حيث قبلت الجامعات نحو مائتين وثلاثة وسبعين ألف طالب. واعتبارا من سنة 1978، طبقت الصين نظام الاختبار الموحد على مستوى الدولة، والذي استمر كالنمط الوحيد لاختبار "قاوكاو" حتى سنة 1985، عندما بدأت مدينة شانغهاي تطبيق نظام اختبار خاصا بها، وتبعتها مدن ومقاطعات أخرى. في الفترة من عام 1977 إلى عام 2021، تم تسجيل ما يقرب من 140 مليون طالب في الكليات والجامعات من خلال نظام "قاوكاو"، ولعب هؤلاء دورا حاسما في الازدهار الاقتصادي للصين. على مدى عشرات السنين، أصبح نظام "قاوكاو" أداة مساواة وعدالة اجتماعية وتعليمية فعالة. إنه يغرس الثقة في الطلاب، ويؤكد أنه من خلال العمل الجاد والتفاني، يمكنهم بناء حياة ناجحة.

المواد الإجبارية لاختبار قاوكاو هي اللغة الصينية والرياضيات واللغة الأجنبية (تكون عادة الإنجليزية)، والمواد الاختيارية للقسم العلمي هي الفيزياء والكيمياء والأحياء، وللقسم الأدبي التاريخ والجغرافيا والتربية السياسية. وفي الإصلاحات التي تم إدخالها في عام 2014 على نظام "قاوكاو"، تم منح الطلاب المزيد من الاستقلالية في اختيار موضوعات الاختبار الخاصة بهم في شانغهاي ومقاطعة تشجيانغ المجاورة لها. وقد استمرت الإصلاحات في التوسع خلال العقد الماضي. وكشفت الاستطلاعات المستقلة التي أجريت بين عامي 2019 و2020 أن أكثر من 80% من الطلاب الذين شملهم الاستطلاع وافقوا على الإصلاح. كان التعلم عن ظهر قلب يعتبر في السابق نقطة حساسة في الاختبار، لكن مصممي الاختبارات اتخذوا خطوات لمعالجة هذه المشكلة. على سبيل المثال، أكد الدليل الرسمي لتنظيم "قاوكاو" 2024 على أهمية التفكير الاستكشافي والإبداعي ودعا إلى المزيد من الأسئلة العملية والمفتوحة.

وبالإضافة إلى ضمان العدالة في أوراق الاختبار، تعالج الصين أيضا الفوارق التعليمية الناشئة عن التوزيع غير المتكافئ للموارد. وقد أدخلت مخططات تفضيلية لدعم المزيد من الطلاب من المناطق الريفية والمتخلفة في الوصول إلى مؤسسات التعليم العالي، وقد استفاد من ذلك ما يقرب من مليون طالب في الفترة من عام 2012 إلى عام 2022، وفقا لوزارة التعليم الصينية.

مبدأ ممارسة المنافسة العادلة في "قاوكاو" هو ضمان مؤسسي للقدرة التنافسية في الصين. منذ تطبيق نظام "قاوكاو"، مر بالعديد من الإصلاحات، لكن الغرض الذي لم يتغير أبدا هو المنافسة العادلة، والقواعد المحسنة باستمرار هي من أجل منافسة أكثر عقلانية ونزيهة. المنافسة العادلة منارة تضيء حلم النجاح لعدد لا يحصى من الطلاب، ومسطرة مقنعة "تقيس" الأكفاء المتميزين لتنمية الوطن. تثبت الزيادة في عدد المتقديمن لاختبار "قاوكاو" وتوسيع "موارد" "قاوكاو" الاعتراف الواسع النطاق بهذا النظام في المجتمع الصيني ودوره الإيجابي في تحسين نوعية الأمة. لا يضمن "قاوكاو" بشكل فعال عدالة اختيار الأكفاء من المنظور المؤسسي فحسب، وإنما أيضا أصبح أحد أحجار الزاوية للمصداقية في المجتمع الصيني وأساسا مهما للقدرة التنافسية للصين. يتيح "قاوكاو" للعالم أن يرى أن الأساس المتين للحلم الصيني يأتي من إمكانية تحقيق أهداف عدد لا يحصى من الشباب الصينيين العاديين؛ وأصبحت دوافع الصين لتحقيق تنمية عالية الجودة أكثر وفرة، وهي متجذرة في راحة البال والثقة، وكذلك الزخم المستمر للتنمية الصحية للمجتمع التي يحققها نظام فعال يضمن العدالة.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4