على مقهى في الشارع الصيني < الرئيسية

الحضارة والثقافة الصينية في معهد البحوث والدراسات العربية

: مشاركة
2024-09-11 16:17:00 الصين اليوم:Source حسين إسماعيل:Author

في الثالث والعشرين من يوليو 2024، دُعيت لإلقاء محاضرة حول ثقافة وحضارة الصينيين في معهد البحوث والدراسات التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وهي إحدى منظمات جامعة الدول العربية. في مقر المعهد بمنطقة غاردن سيتي في القاهرة، كانت فرصة للحديث عن واحدة من أقدم حضارات العالم وأكثرها تأثيرا في تاريخ البشرية.

حضارة أي أمة هي إنجازاتها المتراكمة في المجالات المادية وغير المادية، بينما الثقافة هي الأشكال والنظم المختلفة التي تميز مجموعة بشرية عن أخرى. وتحدد جملة واسعة من العوامل الطبيعية والبشرية تشكيل الحضارة أو الثقافة.

ولفهم حضارة وثقافة الصينيين، قد يكون من المفيد العودة إلى الأصول، فالصينيون يعتقدون أنهم من دم واحد، حيث يُرجع الصينيون أصلهم إلى هوانغ دي ويان دي، وهما أخوان كانا زعيمي قبيلتين من أعظم قبائل الصين في منطقة حوض النهر الأصفر. وتقول الأسطورة إن نزاعا نشب بين الزعيمين من أجل السيطرة على الأرض والشعب، وانتهى الأمر بانتصار هوانغ دي (كلمة هوانغ تعني الأصفر في اللغة الصينية) على قبيلة يان دي وضمها إلى مُلكه. وواصل هوانغ دي على مدى سنوات طويلة بناء دولته حتى أسس أمة هوا شيا، أي أبناء الصين من قومية هان. ولذا يقول الصينيون إنهم أبناء "يان وهوانغ". ولا شك أن هذا الانتساب إلى "رابطة دم" أكثر من الانتساب إلى بقعة أرض أو نهر أو أي معلم طبيعي، كان له دوره في نسج لُحمة العلاقة بين الصينيين، وله أثره في متانة الشعور بالانتماء الجماعي والجمعي للأمة. ولعل هذا الشعور بالانتماء ولحمة العلاقة بين الصينيين يفسر أيضا ظاهرة "تشينا تاون"، أي الحي الصيني الذي يظهر في أي مدينة بالعالم يتجمع فيها الصينيون، فهناك دائما عامل جذب يشدهم إلى بعضهم بعضا.

العوامل التي شكلت ثقافة الصينيين وحضارتهم فكرية وتاريخية وجغرافية وبيئية. والحضارة الصينية هي الوحيدة من بين حضارات العالم القديمة التي حافظت على تواصلها دون انقطاع، ومن ثم فإن الثقافة الصينية في القرن الحادي والعشرين تمتد جذورها دون شائبة تشوبها إلى أصولها الأولى، فالحضارة الصينية من أكثر الحضارات نقاء، بمعنى أن أنها لم تختلط مع ثقافات أخرى، حتى عندما تأثرت بحضارات أخرى فإنها صينت كل دخيل، ولهذا فإن العقائد الدينية عندما دخلت الصين تأثرت بالفكر الصيني المتمثل رئيسيا في الفكر الكونفوشي، وينطبق ذلك على البوذية والإسلام والمسيحية. هذا التصيين للفكر القادم من الخارج استمر ومستمر إلى الآن، فعندما اختارت الصين النهج الشيوعي أخذته من منبته الأوروبي وغرسته في التربة الصينية وألبسته رداء صينيا ريفيا فلاحا من القرية وليس عاملا في المصنع، وعندما تبنت اقتصاد السوق جعلته اقتصاد السوق الاشتراكي ذا الخصائص الصينية. فكريا، الصينيون متأثرون إلى حد بعيد بتعاليم كونفوشيوس وهي في مجملها تعاليم أخلاقية تربوية تحث على الطاعة واحترام وتوقير الكبير والعطف والحنو على الصغير، والأهم أنها تدعو إلى التعلم، التعلم اللانهائي حيث يقول كونفوشيوس: لو أن ثلاثة يسيرون في طريق معا فحتما واحد منهم معلم لي." تاريخيا، الصينيون عاشوا حتى عام 1911 في ظل حكم أسر إقطاعية وكان الإمبراطور في الصين بمثابة إله فهو "ابن السماء"، ولهذا فقد جُبل الإنسان الصيني على الطاعة والنظام. بعد تغير النظام الإقطاعي بقيام الثورة الديمقراطية عام 1911 ثم تأسيس الصين الجديدة عام 1949، ظلت هذه الطاعة مقرونة بالولاء للوطن وللسلطة، تلك السلطة التي هي الحزام الذي يربط بحر السكان الصيني. الطاعة مكون مهم في الثقافة الصينية. جغرافيا، الصين هي مركز العالم، أو هكذا تراها في خرائط الصينيين، فالخريطة الصينية تضع الصين في القلب وإلى الغرب منها الجزء الغربي من قارة آسيا وقارتا أفريقيا وأوروبا، وصولا إلى المحيط الأطلسي الذي هو أقصى الغرب بالنسبة للصين، بينما إلى الشرق، يوجد الجزء الشرقي من آسيا والمحيط الهادئ والعالم الجديد، الأمريكتان. بل إن معنى الصين باللغة الصينية هو "تشونغقوه" أي الدولة الوسطى أو المركز، ومن هنا جاء اسم "المملكة الوسطى" الشائع في الكتابات الغربية عن الصين. وقبل آلاف السنين مما قال عالم الجغرافيا السياسية الإنجليزي السير هالفور جون ماكيندر (1887- 1905)، صاحب نظرية "مركز الأرض" القائلة بأن من يسيطر على المركز يسيطر على العالم، وعى الصينيون ذلك، برغم اختلاف مركز العالم بالنسبة للصينيين وبالنسبة لماكيندر.

هذه الوسطية أعطت الثقافة الصينية الاعتدال والتسامح، وهو تسامح يعبر عن نفسه في سلوك الرجل العادي في الشارع والبائع، بل وفي سياسة الصين الخارجية. والثقافة الصينية لا تعترف بمقولة "إن لم تكن معي فأنت ضدي"، فمن الممكن بل ومن المقبول للصيني أن تكون صديقه وصديق عدوه في نفس الوقت وأن يكون هو صديقك وصديق عدوك في نفس الوقت.

بيئيا، الصين فيها كل الظواهر الطبيعية، من تضاريس وطبوغرافيا ومناخ، فالصين ليست شديدة البرودة طوال السنة وليست شديدة الحرارة أيضا، والصين أرض واسعة تسافر من دفء وحرارة جنوبها في ذات اليوم إلى برودة شمالها. وتتقلب الفصول الأربعة في الصين واضحة مميزة. هذا المزيج البيئي أفرز ثقافة معتدلة.

تلك هي العوامل التي، تقف وراء تكوين ثقافة الصينيين وحضارتهم، وبالطبع ثمة عوامل أخرى كثيرة. وتنبغي الإشارة إلى أن الثقافة الصينية المعاصرة، تتعرض في ظل الانفتاح الذي تتبناه الصين وفي ظل العولمة التي تجتاح العالم لتيارات عارمة. في بداية انتهاج الصين سياسة الانفتاح، قال الزعيم الصيني الراحل دنغ شياو بينغ، الذي صمم ونفذ سياسة الإصلاح والانفتاح في الصين ووضعها على جادة التقدم: "إنك عندما تفتح النافذة يدخل الهواء المنعش ولكن الذباب يدخل أيضا." بيد أن الثقافة الصينية، في رأيي، تمتلك المقومات التي تجعلها قادرة على أن تتعولم ولكن دون أن تفقد معالمها وشخصيتها وهويتها.

لعل كثيرين ينظرون بإعجاب ودهشة للاستقرار الذي يعم بلدا مساحته تسعة ملايين وستمائة ألف كيلومتر مربع، ويسكنه أكثر من مليار وأربعمائة مليون نسمة، في وقت تعم فيه الاضطرابات وعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي العديد من دول العالم.

"الاستقرار" هو جوهر الثقافة الصينية، هو "عقيدة" صاغت فكرا ضاربا بجذوره في أعماق الصينيين منذ أن صاروا أمة موحدة وحتى يومنا هذا. وباستعراض الثقافة الصينية، منذ البداية وحتى الصين المعاصرة، يمكن أن نرصد عددا من الملاحظات التي ميزت هذه الثقافة التي تعزز عقيدة الاستقرار. أولى تلك الملاحظات هي سعى الثقافة الصينية إلى تكريس الاستقرار، فالصيني يضع الاستقرار والأمن في مرتبة أعلى من أي شيء آخر، فإذا خُير الإنسان الصيني بين الاستقرار والحرية، بمعنى الحرية ومدلولها الغربي، فإنه يختار الاستقرار من دون تردد. ولهذا فإن الصين ظلت طوال تاريخها الطويل تحت الحكم الإمبراطوري، حتى سنة 1911م، ولم يتم التفكير في أنظمة سياسية بديلة، وبعد انتهاء الحكم الإمبراطوري خضعت الصين لحكم حزب واحد، هو حزب الكومينتانغ في بداية القرن العشرين ثم الحزب الشيوعي الصيني منذ سنة 1949. الفكرة المسيطرة في الثقافة الصينية هي أنه من أجل فرض النظام يجب وجود سلطة أحادية مركزية قوية تفرض هيبتها على أنحاء البلاد، ليس من خلال القمع أو الاستبداد وإنما عن طريق العدل والتنمية. يعزز من هذا، مفهوم "الولاء" المحوري في الثقافة الصينية والذي احتل قسما عظيما في الفكر الكونفوشي؛ ولاء الصغير للكبير والزوجة للزوج والأبناء للآباء، ثم والأهم ولاء المحكومين للحاكم. غير أن هذا التمسك بالاستقرار والتأكيد على الولاء يقترن بتأكيد آخر يضمن ألا يشط من له الولاء، وذلك من خلال تكريس فكرة صلاح الحاكم وعدله. وقد أكد الفكر الصيني على أهمية الدولة قبل مئات السنين من مقولة مكيافيللي "الغاية تبرر الوسيلة"، والغاية عند مكيافيللي هي الدولة، وقبل قرون عديدة من ظهور أوتو فون بسمارك، الألماني الذي آمن بأن الدولة هي الغاية الأسمى. ثقافة الاستقرار هي التي جعلت الصينيين شديدي الحساسية تجاه التدخل الأجنبي، لإيمانهم بأن أي تدخل من الخارج يؤدي إلى زعزعة الاستقرار وإشاعة الفوضى وضياع الأمان، ولهذا فإن موقف الصينيين هو الحذر من التدخل الأجنبي.

الملاحظة الثانية، هي محورية فكرة "التحول" أو التغير والتكيف في ثقافة الصينيين، فهناك تأكيد على المرونة والتحول، فحسب الفكر الصيني كل شيء في حالة تحول وتغير وكل شيء يتحول من الضد إلى الضد، فوفقا للفلاسفة الصينيين، تتكون كافة الظواهر الطبيعية من تجليات متعارضة ولكن متكاملة، وموجودة في حالة من التغير المستمر للتوازن الحركي. هذه النظرية، التي تسمى بنظرية "ين ويانغ"، تُستخدم لوصف الوجهين المتقابلين للشيء الواحد. "ين" و"يانغ" متصلان أساسيا، ولا يمكن أن يوجد أحدهما بدون الآخر، فكل منهما يوفر للآخر شرط وجوده ولا يستثنيه ولا يقصيه. معنى هذا في التطبيق العملي أن العلاقة مع "الآخر" في الثقافة الصينية لا تكون دائما عند مستوى واحد ونصيب كل طرف من الربح من تلك العلاقة يتغير، وهذا هو الطبيعي، أما أن يحقق طرف صعودا دائما أو ربحا متواصلا فهذا ينافي طبيعة الأشياء، وانفراد طرف واحد بالسيطرة مخالف لقوانين الحياة، وفقا لثقافة وفلسفة الصينيين، ولعل هذا يجعلك تتفهم موقف الصين من "القطبية الأحادية" في العالم، ودعوتها إلى "التعددية القطبية"، باعتبار أن ذلك يضمن التوازن الحركي والتغير والتبدل الذي يضمن السيرورة الطبيعية للأشياء. فكرة التغير "المحورية" هذه في الثقافة الصينية جعلت الصين دائما بعيدة عن الجمود، بيد أنه يجب أن نشير إلى أن دلالة التغيير وآلياته تختلف تماما عن دلالته وآلياته في الثقافة الغربية، فهو في حالة الصين تغير طبيعي، ذاتي، يحدث بدون تدخل خارجي، على العكس من الرؤية الغربية للتغيير والتي تقف خلف فكرة الثورة بدلالاتها الغربية.

الملاحظة الثالثة، هي وسطية فكر وثقافة الصينيين، وهو ما جعل الصينيين يرون بلادهم "مركز" العالم. هذه الوسطية ترجع أصولها إلى تعاليم كونفوشيوس الذي دعا إلى تحقيق التوازن والانسجام عند حل أي نزاع أو خلاف، وهي الفلسفة الصينية المعروفة باسم مبدأ "الوسطية". والمتابع للسلوك التفاوضي الصيني في كافة القضايا التي تكون الصين طرفا فيها يدرك مدى توظيف الصينيين لمبدأ الوسطية في التفاوض والمساومة لتحقيق التوافق بين متناقضين. وهذا بالضبط ما فعله الوسيط الصيني بين إيران والسعودية وأسفر عن استعادة العلاقات بين البلدين.

إن هذه الثقافة الحاضرة في عقل وفكر وقلب كل صيني تعبر عن نفسها في كافة مناحي حياة الصينيين، الذين يحرصون دائما على أن تبقى بينهم وبين الآخرين وشيجة وأن يكونوا منفتحين على الآخر، فسر نجاح الصين هو قدرتها على التكيف وعلى استخدام الموارد التي تتاح لها من "الآخر" مع استثمار ما نسجته من حكمة خلال آلاف السنين.

وتؤكد الثقافة الصينية التقليدية على الأسرة، باعتبارها مكونا مهما في بنية المجتمع، بل إن هذه الثقافة تُرجِع القيمة الفردية للشخص إلى قيمته الاجتماعية وتؤكد على واجباته والتزاماته تجاه أسرته، بالمعنى الضيق الذي يشمل الوالدين والأجداد، وبالمعنى الأكثر شمولا الذي يضم المجتمع كله.

أيضا، لا يمكن الحديث عن الثقافة الصينية من دون إطلالة على "الروح الصينية"، فأي مهتم بالشأن الصيني لابد أن يلاحظ "الروح الصينية" في كل ما ما يتعلق بالصينيين وما يخرج عنهم قولا أو فعلا. فأنت تشعر بروح الصينيين في عماراتهم وشوارعهم وحدائقهم وسلوكياتهم ومواقفهم وكل تفاصيل حياتهم. وفي أشياء كثيرة تتجلى فيها الروح الصينية قد يكون من الصعب أن تقول أو تحدد ماهية "الروح الصينية" ومع ذلك لا يكون في وسعك إلا أن تشعر بها وتلمسها وتحلق في أجوائها.

الاقتراب من الروح الصينية قد يساعدك كثيرا في حل ما قد تراه ألغازا بشأن الصينيين، وقد يقدم لك بعض الإجابات في سؤالك عن "أسرار المعجزة الصينية" وعن "أسباب تفوق الصينيين"

في النهاية، أقول إن فهم حضارة الصينيين وثقافتهم مسيرة صعبة معقدة، ولكن من دون ذلك يظل فهمنا وتحليلنا واستيعابنا لما يحدث في الصين اليوم وما يصدر عنها فهما قاصرا.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4