لا أعرف أحدا من الصينيين أو الأجانب الذين حققوا إنجازا، حتى وإن كان بسيطا، أو قدموا مساهمة من أي نوع للصين لم يحصل على "تقدير" من جهة ما داخل الصين أو حتى من الدولة الصينية. لقد لاحظت ذلك منذ الأيام الأولى لي في الصين، عندما بدأت أنطق بعض الكلمات الصينية البسيطة، فكانت تعليقات زملائي في العمل وحتى في الشارع: "جيد"، "رائع"، "عظيم"، وغيرها من تعبيرات الإشادة والتقدير، لأنني تعلمت شيئا من لغتهم. يعبر الصينيون عن "الامتنان" لكل من يحقق إنجازا، ذلك أن "الامتنان" فضيلة تقليدية للأمة الصينية منذ العصور القديمة، والعطاء ورد الجميل من القيم المحورية في الثقافة الصينية، على مستوى الفرد والأسرة والدولة. ومن العبارات الصينية المأثورة في هذا الشأن: "قطرة ماء عند الحاجة، يجب أن تُرد نبعا"؛ "نعمة المعرفة تُكافأ، والكرم عظيم"؛ "تنحني الأغنام عندما ترضع من أمها، والغراب يعرف كيف يرد جميل رعاية والديه"؛ "معروف الأب أعلى من السماء، ومعروف الأم أعمق من البحر". وقد قال الفيلسوف الصيني الكونفوشي منشيوس: "أهم شيء في بر الوالدين هو احترامهما." وقال المؤرخ والسياسي في فترة أسرة سونغ (960- 1279م) سيما قوانغ، إن الشعور بالامتنان لتلقي المساعدة والتشجيع من شخص ما يسمى "ولاء"، و"إن الإخلاص للآخرين هو الولاء"، وإن شكر الأصدقاء على المساعدة يسمى "استقامة". وقد جاء في ((كتاب الأغاني)): "تُقدم لي الخوخ، أعطيك البرقوق في المقابل".
لقد تراءت أمامي مشاهد كثيرة وأنا أتابع حفل تقديم الأوسمة الوطنية والألقاب الفخرية لجمهورية الصين الشعبية الذي أقيم في قاعة الشعب الكبرى بساحة تيانآنمن في العاصمة بكين يوم التاسع والعشرين من سبتمبر 2024. ولعل الصورة التي نشرتها وكالة أنباء ((شينخوا)) في ذلك اليوم تختصر كل معاني "ثقافة الامتنان" عند الصينيين. في الصورة، كان رئيس جمهورية الصين الشعبية، شي جين بينغ، وهو أيضا الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، يدخل إلى مكان الحفل وعن يمينه رئيسة البرازيل السابقة، رئيسة بنك التنمية الجديد حاليا، السيدة ديلما روسيف، وعن يساره ومن خلفه آخرون من المكرمين في هذا الحفل، من بينهم اثنان على كرسيين متحركين، أحدهما يرتدي بزة عسكرية.
استحضرتُ حينئذ مشهدا مهيبا كنت جزءا منه، في ذات المكان- قاعة الشعب الكبرى، في ذات الشهر- سبتمبر عام 1999، حيث أقيمت مراسم منح "جائزة الصداقة لجمهورية الصين الشعبية" وكنت أحد الفائزين بها. كان من بين قادة الصين الذين حضروا تلك المراسم، رئيس مجلس الدولة الصيني الأسبق تشو رونغ جي، ونائب رئيس الوزراء وزير العلاقات الاقتصادية والتجارة لي لان تشينغ، وغيرهما. صادف ذاك العام الذكرى السنوية الخمسين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. وفي عام 2023، تكرر مشهد مشابه عندما منحتني الصين "جائزة المساهمة الخاصة للكتاب"، حيث أقيمت مراسم منح الجائزة في دار ضيافة الدولة (دياويويتاي)، التي تقع بالقرب من مقر عملي في ((الصين اليوم)). وما بين هاتين الجائزتين، وهما الأكبر في الصين في مجالهما، حصلتُ على جوائز وأوسمة وتكريمات من جهات صينية عديدة، ومنها المجموعة الصينية للإعلام الدولي والجمعية الصينية للمترجمين ومنطقة نينغشيا الذاتية الحكم، وغيرها.
يعرف كثيرون في أنحاء العالم أسماء شخصيات دولية قدمت مساهمات للصين، واحتفت بهم جمهورية الصين الشعبية وعبرت عن "الامتنان" لهم. إنها قائمة طويلة من الأسماء التي يضيق المقام لذكرها، ولكن أشير هنا بشكل خاص إلى جورج شفيق حاتم (ما هاي ده)، الطبيب اللبناني الذي جاء إلى الصين في عام 1933، وعمل مستشارا لدائرة الصحة العامة للجنة العسكرية التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني. وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية، عمل مستشارا لوزارة الصحة الصينية، بوصفه أول أجنبي يحصل على جنسية جمهورية الصين الشعبية. في نوفمبر عام 1983، أقيم في قاعة الشعب الكبرى ببكين حفل استقبال بمناسبة مرور خمسين على عمل جورج حاتم في الصين، تقديرا لإسهاماته العظيمة في الثورة والبناء بالصين لمدة نصف قرن. كان تشو يو ما، نجل جورج حاتم، زميلا لنا في ((الصين اليوم))، وقد استمرت عناية الصين بعائلة جورج حاتم حتى بعد وفاته.
أعود إلى مشهد التاسع والعشرين من سبتمبر 2024، حيث ألقى الرئيس شي جين بينغ كلمة دعا فيها الشعب الصيني إلى التعلم من الأبطال والقدوة، لتشكيل قوة عظيمة لبناء الصين القوية. وقال إن الصين تمر بفترة حاسمة لبناء دولة اشتراكية حديثة عظيمة في جميع النواحي وتحقيق النهضة العظيمة من خلال التحديث الصيني النمط. وأضاف: "إن الحزب الشيوعي الصيني قاد الشعب الصيني من كافة القوميات على مدى السنوات الخمس والسبعين المنصرمة إلى خلق المعجزة المزدوجة، المتمثلة في النمو الاقتصادي السريع والاستقرار الاجتماعي الطويل الأجل." وأشاد الرئيس شي بالتغيرات الهائلة التي حدثت في الصين، مؤكدا أن النهضة العظيمة للصين تسير الآن على مسار تاريخي لا رجعة فيه. وقال إن كوكبة الأبطال الذين يبزغون جيلا بعد جيل تضمن الرخاء الدائم للحزب وقضية الشعب. وأكد على ضرورة أن يضع الناس في اعتبارهم تطلعاتهم، وأن يصقلوا مهاراتهم، وأن يقدموا مساهمات لبناء الصين القوية. كما شجع الرئيس الشعب الصيني على السعي لتحقيق إنجازات غير عادية في الوظائف العادية وحث الجميع على تقديم مساهمات لحل تحديات التنمية والإصلاح، وحماية التناغم الاجتماعي والاستقرار.
وكان الرئيس شي جين بينغ قد وقع في الثالث عشر من سبتمبر على مرسوم رئاسي، لمنح ميداليات وطنية وألقاب فخرية وطنية لخمسة عشر فردا، بمناسبة الذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. وفي المراسم المهيبة التي أقيمت في التاسع والعشرين من سبتمبر، تم منح "ميدالية الجمهورية"، وهي أعلى وسام فخري لجمهورية الصين الشعبية، لأربعة أشخاص، هم: بطل الحرب المخضرم هوانغ تسونغ ده، وعالم الطب المعروف باختراقاته في علاج سرطان الدم وانغ تشن يي، وخبير تربية القمح لي تشن شنغ، إضافة إلى اسم خبير الصواريخ ورائد برنامج الفضاء المأهول الصيني الراحل وانغ يونغ تشي. كما حصلت ديلما روسيف، رئيسة بنك التنمية الجديد ورئيسة البرازيل السابقة، على "وسام الصداقة". إضافة إلى ذلك، تم منح عشرة أفراد ألقاب فخرية وطنية، على النحو التالي: لقب "عالم الشعب" لاسم وانغ شياو موه، خبير الرادارات ورائد تطوير طائرات الإنذار المبكر في الصين الراحل؛ وتشاو تشونغ شيان، العالم المعروف في مجال أبحاث الموصلية الفائقة في درجات الحرارة العالية؛ وحصل على لقب "حارس الشعب" بايكا كاليديبيك، وهو أحد ضباط دورية الحدود المخضرمين من قومية الطاجيك في منطقة شينجيانغ الويغورية الذاتية الحكم؛ ومُنحت الممثلة تيان هوا لقب "فنانة الشعب"، التي ترك تجسيدها للشخصيات النسائية الأيقونية في السينما الصينية المبكرة تأثيرا دائما على الصناعة؛ وكان لقب "حرفي الشعب" من نصيب شيوي تشن تشاو، الفني الماهر المعترف به والذي حقق تقدما في تكنولوجيا مناولة الحاويات؛ ومُنح لقب "معلم الشعب" لكل من تشانغ جين فان، وهو فقيه ومعلم قانوني بارز في التاريخ القانوني للصين، وهوانغ دا نيان، وهو عالم إستراتيجي وجيوفيزيائي بارز؛ وكان لقب "عامل صحة الشعب" من نصيب لو شنغ مي، وهي طبيبة ملتزمة منذ فترة طويلة بتحسين الرعاية الصحية في المناطق الأقل نموا، وخاصة في تعزيز ممارسات الولادة الآمنة والحد من وفيات الرضع؛ وحصل على لقب "المساهم المتميز في الأبحاث الاقتصادية" تشانغ تشوه يوان، وهو اقتصادي مؤثر قدم مساهمات كبيرة في أبحاث اقتصاد السوق؛ ومنحت تشانغ شيه لين، لاعبة تنس الطاولة والمدربة المشهورة، لقب "المساهم المتميز في الرياضة".
وفي أثناء منح السيدة روسيف "وسام الصداقة"، أشاد الرئيس شي بها باعتبارها ممثلة بارزة لأصدقاء الصين القدامى، والأصدقاء الطيبين الذين تقاسموا نفس الطموحات ووقفوا مع الشعب الصيني على مدى السنوات الخمس والسبعين الماضية. وقال إن الشعب الصيني لن ينسى أبدا الأصدقاء الدوليين الذين قدموا مساهمات بارزة في تنمية الصين والصداقة بين الشعب الصيني والشعوب الأجنبية. وأضاف أن الشعب الصيني مستعد للعمل مع شعوب مختلف البلدان، لحماية السلام العالمي وتعزيز التنمية المشتركة. كما دعا إلى بذل جهود مشتركة، لبناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية وخلق مستقبل أكثر إشراقا للبشرية.
وفي كلمتها، قالت السيدة روسيف، إن ميدالية "وسام الصداقة" تغمرها بشرف هائل، وتعهدت بمواصلة الجهود للمساعدة في تعزيز التعاون المتبادل المنفعة بين البرازيل والصين. وفي مقابلة مع وكالة أنباء ((شينخوا))، قالت روسيف إن إنجازات الصين في التحديث الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي على مدى السنوات الخمس والسبعين الماضية غير مسبوقة في التاريخ. وأضافت أن "الإصلاح والانفتاح في الصين لا ينتهيان أبدا"، وأن الصين تقدم نموذجا للجنوب العالمي فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
أما البطل هوانغ تسونغ ده، البالغ من العمر ثلاثة وتسعين عاما، فقال في كلمته بالحفل، إن هذا التكريم يعود إلى كل فرد من أفراد جيش التحرير الشعبي، وجميع الأبطال الذين ضحوا بأرواحهم من أجل الاستقلال الوطني للصين وتحرير الشعب، والسعي لجعل الصين مزدهرة وقوية.
التعبير عن "الامتنان" لشخص، حتى وإن كان إنسانا عاديا، هو رسالة إلى الآخرين مفادها أن "كل عمل تقوم به للصالح العام له قيمة". ربما لم يتوقع شخص مثل بايكا كاليديبيك أن يتم تكريمه على مستوى الدولة، وأن يلتقي مع رئيس الجمهورية ويصافحه ويلتقط له صورة معه. السيد بايكا الذي يعيش في قرية صغيرة بمحافظة تاكسكورقان الذاتية الحكم لقومية الطاجيك بمنطقة شينجيانغ الويغورية الذاتية الحكم، شارك منذ عام 1972 في أكثر من سبعمائة دورية حدودية. إن الاعتراف بعمل بايكا كاليديبيك، الذي جاوز عمره سبعين عاما، ليس مصدر فخر لأهله وأبناء قريته ومحافظته فحسب، وإنما أيضا حافز ودافع لكل إنسان يخدم وطنه. لا يختلف الأمر مع شيوي تشن تشاو، العامل الفني الذي يبلغ من العمر أربعة وسبعين عاما. عندما بدأ شيوي تشن تشاو العمل في ميناء تشينغداو بمقاطعة شاندونغ في عام 1974، كان يُشغّل رافعة حاويات. لم يكن أداء الرافعة جيدا، ويرهق عمال مناولة البضائع. استطاع شيوي تشن تشاو بجده واجتهاده في التعلم والممارسة، تحسين أداء رافعات الحاويات، وصار من الأسماء اللامعة في ميناء شاندونغ.
"ثقافة الامتنان" متجذرة في المجتمع الصيني، وتتجلى في سلوك الفرد والدولة. إن من أهم التقاليد الصينية مراقبة القمر في المساء عندما يكون بدرا. وكان الصينيون القدماء يعتقدون أن الحصاد الجيد هو نتيجة للطقس الملائم وبركات السماء، وبعد الحصاد الوفير، كانوا يقدسون السماء والأرض لإظهار امتنانهم. الصينيون لا يعبرون عن "الامتنان" للبشر فحسب، وإنما للطبيعة أيضا. إن المتأمل في العديد من المفاهيم الصينية، لن يجد عناء في اكتشاف "امتنان" الصينيين للطبيعة. إن مفهوم "التعايش المتناغم بين الإنسان والطبيعة" المتجذر بعمق في جينات الصينيين منذ العصور القديمة، هو أحد تجليات "ثقافة الامتنان". وتلعب الصين دورا فاعلا في الحوكمة البيئية والمناخية العالمية. وبينما تعمل الصين على تعزيز التنمية الخضراء الخاصة بها، فإنها تشارك العالم بخبراتها وتقدم الدعم للتنمية الخضراء العالمية. وقد طرحت الصين "مبادرة التنمية العالمية" وروجت لإنشاء شراكة التعاون العالمي للطاقة النظيفة؛ وكانت من بين أوائل الدول التي أصدرت الخطة الوطنية لتنفيذ أجندة 2030 للتنمية المستدامة؛ وأنشأت صندوق كونمينغ للتنوع البيولوجي؛ وأصبحت أكبر مساهم في الميزانية الأساسية لاتفاقية التنوع البيولوجي وبروتوكولاتها.
إن كل من يحصل على تكريم من الصين، فردا كان أو جماعة أو مؤسسة، هو قوة ناعمة حية ومستدامة للصين، فلا تعجب عندما تصادف شخصا في أعماق أفريقيا أو أمريكا الجنوبية أو جزيرة في المحيط الهادئ يحدثك عن كرم الصينيين ولطفهم، وتقديرهم لكل من يحقق إنجازا وإن كان بسيطا.