في الحادي عشر من ديسمبر 2024، بعث الرئيس الصيني شي جين بينغ رسالة تهنئة إلى حفل عشاء مجلس الأعمال الأمريكي- الصيني لعام 2024، أشار فيها إلى أن العلاقات الصينية- الأمريكية من أهم العلاقات في العالم، فهي لا تتعلق بالمصالح المباشرة للشعبين الصيني والأمريكي فحسب، وإنما أيضا تتعلق بمستقبل ومصير البشرية جمعاء. وقال الرئيس شي إن كلا البلدين سيستفيدان من التعاون ويخسران من المواجهة. وأضاف: "يجب علينا اختيار الحوار بدلا من المواجهة، والتعاون المربح للجانبين بدلا من اللعبة الصفرية. الصين مستعدة للمحافظة على التواصل مع الولايات المتحدة الأمريكية لتوسيع التعاون وإدارة الخلافات، ومواصلة استكشاف الطريق الصحيح للبلدين للتوافق في العصر الجديد، وتحقيق التعايش السلمي الطويل الأمد على هذا الكوكب لصالح البلدين والعالم بأسره."
لأسباب كثيرة، العلاقات الصينية- الأمريكية هي أكثر العلاقات الدولية تعقدا وتشابكا وأهمية في القرن الحادي والعشرين. واشنطن ترى أن بكين هي المنافس الإستراتيجي الأول لها على الصعيد الجيوستراتيجي والاقتصادي والعسكري والتكنولوجي، والأهم على صعيد ما يسمى بالقيم والمعايير الدولية. لقد شهدت السنوات العشر الأخيرة مساعي صينية حثيثة لإعادة صياغة ما يسمى بالمعايير الدولية التي وضعها الغرب في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ليس فقط من خلال طرح معايير وقيم جديدة تتعلق بالديمقراطية والحوكمة، وإنما أيضا من خلال إنشاء مؤسسات إقليمية ودولية توازي وتنافس المؤسسات التي أنشئت في إطار "بريتون وودز".
تدرك بكين وواشنطن جيدا ملامح التنافس القائم والقادم بينهما، وتسعى كل منهما إلى تحقيق مصالحها، فبكين ترغب في مواصلة صعودها السريع والوصول إلى "مركز المسرح الدولي" وفقا للتعبير الصيني، وواشنطن تعمل على احتواء هذا الصعود بكل السبل الممكنة. وقد عملت بكين وواشنطن في السنوات الأخيرة- في فترة حكم الرئيس جو بايدن- للمحافظة على الاستقرار والقدرة على التنبؤ في علاقتهما. فمن خلال استخدام العديد من قنوات الاتصال، بما في ذلك الاتصالات المنتظمة بين وزير خارجية الصين وانغ يي ومستشار الأمن القومي الأمريكي لإدارة بايدن، جيك سوليفان، نجح البلدان في تجاوز العديد من المعضلات في علاقتهما، وتجنبا في الغالب الحروب التجارية وحروب مراقبة الصادرات، وخفضتا درجة الحرارة في النقاط الساخنة المحتملة للمواجهة العسكرية، بما في ذلك مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي. ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فإن العلاقة بين أكبر اقتصاد وثاني أكبر اقتصاد في العالم تثير اهتماما وقلقا، ليس فقط على المستوى الثنائي وإنما أيضا على مستوى العالم.
من الواضح أن اختيارات الرئيس ترامب للفريق الذي سيعمل معه تتسق تماما مع أفكاره وتوجهاته. لم يعط ترامب المحللين كثيرا من الوقت لمحاولة استشراف، وبالأحرى تخمين، ما ستكون عليه سياساته في ولايته الثانية. لقد ذهب البعض إلى أن ترامب في ولايته الثانية سيختلف عن ترامب في ولايته الأولى. ثمة من قال إنه قد أمضى أربع سنوات رئيسيا ومثلها معارضا للرئيس، ولا بد أنه اكتسب خبرة وخاصة في السياسة الخارجية، تجعله يدير العلاقات الدولية لبلاده بشكل مختلف عن ولايته الأولى. غير أن التدقيق في الأسماء التي اختارها ترامب تبين بشكل واضح أنهم صورة مصغرة منه.
الصين من جانبها تراقب عن كثب، وقد هنأ الرئيس الصيني شي جين بينغ الرئيس الأمريكي- المنتخب- دونالد ترامب، في حينه، وحث البلدين على إيجاد "الطريقة الصحيحة للتوافق"، وقال إن العلاقات الصينية- الأمريكية المستقرة والسليمة والمستدامة تخدم مصالح الجانبين، مضيفا أن المجتمع الدولي يتوقع من القوتين "احترام بعضهما البعض والتعايش بسلام". واستنادا إلى تحليل سياسات البلدين خلال السنوات العشر الماضية، يمكن أن نرصد ثلاث مجالات تنافس ستحدد شكل علاقات بكين- واشنطن خلال ولاية ترامب الثانية، وهي: التنافس الإستراتيجي والتنافس الاقتصادي والتجاري والتنافس التكنولوجي.
أولا: التنافس الجيوستراتيجي. في هذا الإطار لا بد أن نستحضر شعار "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى (MAGA)" الذي رفعه ترامب أثناء حملته الانتخابية. في المقابل، تعمل الصين على تحقيق إستراتيجيتها التي حددها الرئيس شي جين بينغ في مقالة له نشرتها مجلة ((تشيوشي))، التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني في يونيو 2024، وجاء فيها: "لبناء الصين لتصبح دولة اشتراكية حديثة على نحو شامل، تم اعتماد خطة إستراتيجية من خطوتين: تحقيق التحديث الاشتراكي بشكل أساسي من عام 2020 حتى عام 2035، وبناء الصين لتصبح دولة اشتراكية حديثة عظيمة ومزدهرة وقوية وديمقراطية ومتقدمة ثقافيا ومتناغمة وجميلة، من عام 2035 حتى منتصف القرن الحالي." وقد تضمنت هذه المقالة، وهي جزء من التقرير الذي قدمه الرئيس شي للمؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر 2022، ما يلي: "اليوم أصبحنا أقرب، وأكثر ثقة، ولدينا قدرة أكبر على تحقيق هدف تحقيق النهضة العظيمة للأمة الصينية. وفي الوقت نفسه، علينا أن نستعد للعمل بجد أكبر لتحقيق هذا الهدف." وبحسب المقالة، على الحزب الشيوعي الصيني كله المضي قدما بثقة وتصميم، والعمل بشكل استباقي على تحديد التغيرات والاستجابة لها وتوجيهها ومنع المخاطر ونزع فتيلها، ومواصلة السعي لضمان تحقيق نجاحات جديدة في بناء الصين لتصبح دولة اشتراكية حديثة على نحو شامل.
نحن هنا أمام هدف واضح لكلا البلدين، فواشنطن تسعى لتكون عظيمة مرة أخرى، وبكين قد قطعت أشواطا عديدة لتحقيق النهضة العظيمة للأمة الصينية متجهة نحو عام 2049، الذي تحل فيه الذكرى المئوية الأولى لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. السؤال هنا هو: ما أدوات وآليات وفرص كل طرف لبلوغ غايته؟
على الجانب الأمريكي، هل يستمر النمط الكلاسيكي لاحتواء الصين من خلال تعزيز تحالفات واشنطن في منطقة آسيا- المحيط الهادئ ومواصلة دعم القوى الانفصالية في تايوان وكبح التأثير الصيني المتزايد في مناطق عديدة من العالم؛ أفريقيا وأمريكا الجنوبية بل وأوروبا؟
على الجانب الصيني، وبالنظر إلى الفريق الجمهوري الذي اختاره ترامب، فإن بكين لديها أسباب للترقب الحذر، سواء بسبب خطاب حملة ترامب الانتخابية أو الشخصيات التي اختارها ترامب لشغل وظائف رئيسية في حكومته. فهل ستواصل بكين العمل على تجنب الدخول في مواجهات مباشرة مع واشنطن؟ الأرجح هو أن البلدين، خلال ولاية ترامب الثانية، سوف يتجنبان المواجهات الإستراتيجية المباشرة. ويعزز هذا الاعتقاد النهج الانعزالي الذي يميل إليه ترامب للتركيز على الداخل الأمريكي، مع حاجة الصين أيضا إلى تعزيز قدراتها الذاتية من دون استنزافها في مواجهات تعرقل مسيرة صعودها. وسوف يكون البلدان قادرين على التفاهم في قضايا التماس الإستراتيجي؛ في تايوان وبحر الصين الجنوبي وشبه الجزيرة الكورية والمناطق الأخرى الساخنة التي يلعب كلاهما فيها دورا فاعلا.
ثانيا: التنافس الاقتصادي والتجاري. اقتصاديا، الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر اقتصاد في العالم والصين هي ثاني أكبر اقتصاد. في الشهور العشرة الأولى من عام 2024، بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وهي ثالث أكبر شريك تجاري للصين، 561 مليار دولار أمريكي، بزيادة بلغت نسبتها 4ر4% على أساس سنوي، منها بلغ حجم صادرات الصين نحو 425 مليار دولار أمريكي، بينما بلغ حجم صادرات الولايات المتحدة الأمريكية 135 مليار دولار أمريكي. هذا يعني أن الفائض التجاري لصالح الصين بلغ 390 مليار دولار أمريكي. من الوعود الرئيسية التي أطلقها ترامب خلال حملته الانتخابية فرض رسوم جمركية على جميع الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة أعلى من الرسوم التي فرضتها إدارته السابقة. وقد قال ترامب إن الرسوم الجمركية "هي أعظم شيء تم اختراعه على الإطلاق"، وستحمي التصنيع والشركات الأمريكية. كما وعد بإلغاء وضع الدولة الأولى بالرعاية الذي تتمتع به بكين في علاقتها التجارية مع واشنطن، والذي يوفر مزايا متبادلة، مثل التعريفات الجمركية المنخفضة وغيرها من المزايا التجارية. غير أن فرض رسوم جمركية عالية على الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة الأمريكية ربما لن يكون السبيل الأنجع لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، فسوف تكون لهذا الإجراء انعكاسات قوية على العمالة والتضخم والقدرة الشرائية للمواطن الأمريكي. وتشير الدراسات الاقتصادية التي تناولت تأثير التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب في ولايته الأولى، إلى أن أغلب العبء الاقتصادي تحمله المستهلكون الأمريكيون في نهاية المطاف. في استطلاع أجرته جامعة شيكاغو الأمريكية في سبتمبر 2024 لمجموعة من خبراء الاقتصاد المرموقين، عما إذا كانوا يتفقون مع مقولة إن "فرض التعريفات الجمركية يؤدي إلى تحمل المستهلكين في البلد الذي يسن التعريفات الجمركية لجزء كبير من التعريفات الجمركية، من خلال زيادات الأسعار"، لم يعارض هذا الرأي سوى 2% فقط. هنا ربما يأتي الضغط الأكبر على ترامب من الداخل الأمريكي وليس من بكين.
سيتواصل توظيف "التهديد الصيني" في الخطاب السياسي الأمريكي. وقد لوحظ مثلا أن قانون تفويض الدفاع الوطني (NDAA) الذي أقره مجلس النواب الأمريكي للسنة المالية 2025، استشهد بـ"التهديد الصيني" كذريعة لفرض قيود عديدة على الصين، بما في ذلك بند غريب يحظر بيع "الثوم الصيني" في المتاجر العسكرية الأمريكية. ومع ذلك، يستثني ذلك القانون مجالات مثل التجارة الإلكترونية عبر الحدود والمستحضرات الصيدلانية الحيوية والاستثمارات في الصين. تثبت الحقائق أن المصالح الاقتصادية للصين والولايات المتحدة الأمريكية متشابكة بشكل عميق. وقد أكد الرئيس شي جين بينغ، في رسالته إلى حفل عشاء مجلس الأعمال الأمريكي- الصيني لعام 2024، أن العلاقات الاقتصادية والتجارية تشكل جزءا مهما من العلاقات الصينية- الأمريكية، وقال: "إن مصالح بلدينا متشابكة بشكل وثيق، ومساحة التعاون واسعة بلا حدود. ويجب على الجانبين التعامل بشكل صحيح مع الخلافات من خلال التشاور على قدم المساواة، وجعل كعكة التعاون أكبر بناء على مزايانا التكميلية. إن نجاح أحد الجانبين يجب أن يكون فرصة وليس تحديا للجانب الآخر، ويجب أن يساعد إنجاز أحدهما في تنمية الجانب الآخر بدلا من إعاقته."
ثالثا: التنافس التكنولوجي. لعل هذا المجال هو المحدد الأكثر فاعلية في صياغة مشهد النظام الدولي في السنوات القادمة. فالدولة التي تملك زمام المبادرة في التقنيات الرئيسية سوف ترجح ميزان القوة لصالحها. وقد أدركت الصين المزايا المحتملة للاستيلاء على "أرض الابتكار" في هذه المنافسة، وقد صممت ونفذت ومولت برامج للسيطرة على تقنيات المستقبل، لتكون قوية ومكتفية ذاتيا، ومحصنة ضد "الاحتواء" التكنولوجي من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. ركزت الصين على تطوير التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والتقنيات الكمومية والتكنولوجيا الحيوية وأنظمة تخزين طاقة البطاريات. في السابع والعشرين من مارس 2024، قال الرئيس شي جين بينغ: "الشعب الصيني لديه أيضا حقوق تطوير مشروعة ولا يمكن لأي قوة إيقاف وتيرة التقدم العلمي والتكنولوجي الصيني."
على الجانب الآخر، تدرك واشنطن أهمية المنافسة التكنولوجية مع الصين، وهي منخرطة بالفعل في منافسة إستراتيجية طويلة الأمد مع بكين لتشكيل المشهد التكنولوجي العالمي السريع التطور، وقد أدخلت تغييرات كبيرة على بيئة السياسات المتعلقة بالتقنيات الرئيسية، وخاصة أشباه الموصلات والحوسبة المتقدمة والطاقة النظيفة. وعلى الرغم من أن الصين تواجه العديد من التحديات في هذا المجال، بما في ذلك السياسات الأمريكية المناهضة لها، فإن تقدمها التكنولوجي السريع لا يتوقف. وعلى الأرجح فإن "المنافسة التكنولوجية" بين بكين وواشنطن، التي بدأت تتشكل ملامحها في عام 2017، سوف تستمر مشتعلة خلال ولاية ترامب الثانية. ومن المتوقع أن تعمل إدارة ترامب بكل السبل لإبطاء تدفق الرقائق الصينية والسيارات الذكية وغيرها من الواردات إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب وضع المزيد من القيود على أدوات تصنيع الرقائق ورقائق الذكاء الاصطناعي العالية القيمة المتجهة إلى الصين. وسيكون فرض التعريفات الجمركية المتزايدة باستمرار ضد الصين أحد أدوات إدارة ترامب لكبح التقدم التكنولوجي الصيني.
هذه أبرز فضاءات التنافس بين بكين وواشنطن، وبالطبع هناك فضاءات أخرى، ولكن ستظل العلاقات الصينية- الأمريكية هي العلاقات الدولية الأكثر أهمية في العالم، وسيستمر التنافس الإستراتيجي بين البلدين، وسيعتمد البقاء بعيدا عن حافة الانزلاق إلى مواجهة واسعة بين القطبين العالميين رهنا بحكمة قادة بكين وواشنطن في التعاطي مع خلافاتهما وإدارتها من دون السقوط في الهاوية. سيشهد العالم على مدى أربع سنوات اختبارا للمواجهة بين قوة الحكمة وغطرسة القوة.