على مقهى في الشارع الصيني < الرئيسية

الصين والدرس الياباني

: مشاركة
2025-04-14 17:39:00 الصين اليوم:Source حسين إسماعيل:Author

في سبعينيات وثمانينيات وحتى تسعينيات القرن العشرين، كان كل شيء يأتي من اليابان مثيرا للإعجاب. كانت اليابان حالة مبهرة، وصفت بالمعجزة والمدهشة والعظيمة، إلى آخر كلمات التقريظ. أتذكر أنه في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، عندما كنت أدرس في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، كانت اليابان تحتل حيزا مرموقا في محاضرات مادة "العلاقات الدولية"، وكان يشار إليها بأنها عملاق اقتصادي وقزم سياسي، بالنظر إلى تعاظم دورها ومكانتها في الاقتصاد العالمي مع محدودية تأثيرها في السياسة الدولية. كنت مفتونا بـ"الحالة اليابانية"، وأصف اليابان بأنها "النجم الصاعد الواعد". كانت كل المؤشرات تقودك إلى اليقين بأن اليابان ماضية بهدوء وطمأنينة في رحلة صعودها وسط عالم شديد الانقسام تسوده النزاعات. في ذلك الوقت، تقريبا لم يكن ثمة بيت عربي يخلو من شيء ياباني.

كانت المؤشرات الاقتصادية لليابان معجزة حقيقية، خاصة وأننا نتحدث عن بلد يكاد يفتقر إلى أي مورد طبيعي مهم وقد خرج مدمرا من الحرب العالمية الثانية. في عام 1990، وصل حجم الناتج المحلي لليابان إلى ثلاثة تريليونات ومائة مليار دولار أمريكي، بينما كان في عام 1960 سبعة وأربعين مليارا فقط. خلال ثلاثين عاما، استطاع هذا البلد الذي لا تتجاوز مساحة يابسته 378 ألف كيلومتر مربع، مضاعفة حجم اقتصاده أكثر من ستين مرة. ثم في عام 1995، قفز الرقم إلى 55ر5 تريليونات دولار أمريكي، أي أنه زاد بنسبة 45% في خمس سنوات فقط. في العام نفسه، كان الناتج المحلي الإجمالي للصين حوالي 5ر743 مليار دولار أمريكي، وللولايات المتحدة الأمريكية 64ر7 تريليونات دولار أمريكي. في تلك الفترة، ظهرت توقعات بتجاوز الاقتصاد الياباني نظيره الأمريكي في غضون سنوات قليلة، وهذا ما لم يتحقق، بل على العكس تراجع حجم الاقتصاد الياباني إلى أربعة تريليونات ومائتي مليار دولار أمريكي في عام 2023، في حين بلغ حجم نظيره الأمريكي سبعة وعشرين تريليونا وأربعمائة مليار دولار أمريكي. توسعت الفجوة بين الاقتصادين من تريليونين وتسعمائة مليون دولار أمريكي في عام 1995، إلى أكثر من ثلاثة وعشرين تريليونا. وفي عام 2010، أزيحت اليابان عن مكانها كثاني أكبر اقتصاد في العالم وحلت الصين محلها بناتج محلي إجمالي بلغ 087ر6 مليارات دولار أمريكي، ثم تراجعت اليابان إلى المرتبة الرابعة في عام 2023 لصالح ألمانيا.

على الشاطئ الغربي لبحر الصين الشرقي، شهد العالم "معجزة" أخرى بدأت إرهاصاتها في نهاية سبعينيات القرن العشرين، مع تبني الصين سياسة الإصلاح والانفتاح التي دشنها الزعيم الراحل دنغ شياو بينغ والتي قادت الصين إلى ما قال عنه ديفيد مان، كبير الاقتصاديين الدوليين في بنك ستاندارد تشارترد: "من نهاية سبعينيات القرن العشرين إلى الآن، رأينا أكبر المعجزات الاقتصادية في التاريخ". بالفعل، أدهش الصينيون العالم، كما فعل من قبل جيرانهم على الشاطئ الآخر لبحر الصين الشرقي. لأعوام عديدة ظل معدل نمو الاقتصاد الصيني يدور حول 10% وأكثر سنويا، وفي الفترة من عام 2013 حتى عام 2021، تضاعف حجم الاقتصاد الصيني، بمعدل نمو سنوي 6ر6% في المتوسط، بينما كان معدل نمو الاقتصاد العالمي 6ر2%. وفي عام 2022، تجاوز متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الصين عشرة آلاف دولار أمريكي. وتجاوزت مساهمة الصين في النمو الاقتصادي العالمي 30% في المتوسط خلال الفترة من عام 2013 إلى عام 2021، واحتلت المرتبة الأولى في العالم في هذا الصدد. في عام 2024، بلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي للصين حوالي 77ر18 تريليون دولار أمريكي بينما بلغ نظيره الياباني 31ر6 تريليونات دولار أمريكي.

اقتحمت الصين مجالات تقنية ظلت حكرا على الدول الغربية لسنوات طويلة، وحققت تقدما فيها، بل تجاوزت منافسيها في بعض المؤشرات. لقد كانت الأصداء التي رافقت إطلاق "ديب سيك" في يناير 2025 إعلانا آخر عن مكانة الصين المتصاعدة في التقنيات الفائقة. في عام 2017، وضعت الصين خطة محددة لمسيرتها حتى منتصف القرن الحادي والعشرين، فقد دعا الحزب الشيوعي الصيني إلى إنجاز بناء مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل بحلول الذكرى السنوية المئوية لتأسيس الحزب، أي في عام 2021؛ وإلى تحقيق التحديثات من حيث الأساس وإنجاز بناء الصين كدولة اشتراكية حديثة بحلول الذكرى السنوية المئوية لتأسيس الصين الجديدة، أي في عام 2049.

النهج الذي تسير عليه بكين، وإن تشابه في بعض جوانبه أو نتائجه مع ما سارت عليه طوكيو، فإن ثمة اختلافا بين الصين واليابان في الظروف والأسس الاقتصادية والاجتماعية والمرحلة التاريخية. ولعل أبرز ما يميز "الصعود الصيني" عن "الصعود الياباني" السابق، أن الأخير كان ينظر إليه على أنه طفرة اقتصادية من دون طموحات سياسية. بعبارة أخرى، فإن القوى الكبرى وإن رأت في اليابان تحديا اقتصاديا فإنها لم تنظر إليها كمنافس إستراتيجي، وهو ما يختلف مع الصين. وقد ذهب البعض إلى مقارنة الاقتصاد الصيني في السنوات الأخيرة مع الاقتصاد الياباني في التسعينيات، وهي الفترة التي بدأ فيها تراجع معدلات نمو الاقتصاد الياباني وحجم الناتج المحلي الإجمالي وانخفاض إنتاجية العمل، إلى غير ذلك من المعضلات التي عانى منها الاقتصاد الياباني. في منتصف عام 2021، ومع الأزمة العقارية التي شهدتها الصين، بدت مخاوف من أن الاقتصاد الصيني قد ينتهي به المطاف كاقتصاد اليابان في التسعينيات. في الخامس والعشرين من فبراير 2025، نشر مركز بروغل للأبحاث في بروكسل، تحليلا للأسبانية أليسيا غارسيا هيريرو، كبيرة الاقتصاديين لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في بنك الاستثمار الفرنسي "ناتيكسيس"، والصيني شو جيان وي، الأستاذ بجامعة المعلمين في بكين، جاء فيه: "تتشابه بعض الأنماط الهيكلية (للاقتصادين الصيني والياباني) بشكل لافت للنظر: انخفاض الاستهلاك الخاص على مدى فترة طويلة، لا سيما بالمقارنة مع بقية العالم، وارتفاع مفرط في نسبة الادخار." وقال الباحثان، إن الاقتصاد الصيني منذ بلوغه ذروته بمعدل نمو ملحوظ بلغ 14% في عام 2007، شهد تباطؤا تدريجيا إلى 6% في عام 2019، ثم إلى 5% في عام 2024. إن هذا التباطؤ الاقتصادي وعوامل أخرى، مثل أزمة قطاع العقارات، هي السبب وراء المقارنة المتكررة بشكل متزايد مع تجربة اليابان في تسعينيات القرن العشرين، والتي يشار إليها غالبا باسم "العقد الضائع".

 إن ثمة أسبابا عديدة تجعل الصين تنظر بإمعان في "الدرس الياباني". فحتى تسعينيات القرن العشرين، كان الاقتصاد الياباني قويا ويتميز بالعدالة الاجتماعية، في ظل وجود طبقة متوسطة كبيرة ومستقرة وقوية. ولكن منذ النصف الثاني للعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت ملامح "الفقر" تظهر في اليابان، وخاصة بين الأطفال، إذ تشير التقارير إلى أن طفلا من كل سبعة أطفال يابانيين يعيش في فقر. معدل الفقر في اليابان، حسب الأرقام اليابانية الرسمية لعام 2022 حول المعيشة الوطنية التي أصدرتها وزارة الصحة والعمل والرفاه في اليابان، بلغ 4ر15%.

ويرى محللون أن ارتباط الاقتصاد الياباني بالاقتصاد الأمريكي من أهم أسباب تعثر اليابان في مسيرتها الاقتصادية، فقد اعتمدت طوكيو بشكل شبه تام على واشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث ارتبط أمن اليابان وتعافيها الاقتصادي ارتباطا وثيقا بالسياسات الأمريكية وديناميكيات السوق. صحيح أن هذه العلاقة الوثيقة وفرت بعض المزايا الأمنية لليابان والقدرة على دخول السوق الاستهلاكية الأمريكية الضخمة، ولكن طوكيو تعرضت لضغوط اقتصادية ومالية من الدول الغربية لفتح أسواقها أمام الشركات الغربية ووضع قيود على صادراتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل ما يسمى باتفاق "بلازا" الذي وقعته اليابان مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا الغربية وفرنسا وبريطانيا في عام 1985، والذي رفعت بموجبه طوكيو قيمة الين الياباني مقابل الدولار الأمريكي، كان منعطفا نتج عنه تراجع القدرة التنافسية للمنتجات اليابانية بسبب ارتفاع سعرها مقارنة مع مثيلاتها بعد أن ارتفعت قيمة الين من 240 لكل دولار أمريكي في 1985 إلى 120 فقط بحلول عام 1988. وقد أعقب اتفاق "بلازا" قيام واشنطن في عام 1987 بفرض تعريفات جمركية بنسبة 100% على الواردات اليابانية.

في هذه الناحية المالية، تنتهج الصين سياسة مختلفة، فقد تجنبت أي ضغط من وزارة الخزانة الأمريكية لرفع قيمة عملتها (الرنمينبي)، وحافظت عموما على قيمتها من دون تقلبات كبيرة، للإبقاء على القدرة التنافسية لمنتجاتها في الخارج. ولا تزال ضوابط رأس المال أدوات مهمة للصين لتحقيق هذا الهدف، بينما تخلت عنها اليابان منذ زمن طويل. يكمن فرق كبير آخر بين طوكيو وبكين في تأثير أزمة العقارات على القطاعين المصرفيين في البلدين. فقد كانت البنوك اليابانية أكثر انكشافا على مطوري العقارات مقارنة بنظيراتها الصينية، حيث حدت اللوائح في الصين من قدرة البنوك على تمويل المشروعات العقارية. وبينما تتمتع البنوك الصينية بانكشاف أقل على المطورين، فإنها معرضة بشدة للأدوات المالية الحكومية المحلية، التي لعبت دورا أساسيا في تمويل مشروعات العقارات والبنية التحتية.

ترى جيليان تيت، رئيسة التحرير السابقة لصحيفة ((فاينانشال تايمز)) البريطانية، أن التحديات التي تواجهها الصين تشبه إلى حد ما التحديات التي واجهتها اليابان في تسعينيات القرن العشرين؛ فالنظام المالي الذي يركز على البنوك أصبح أكثر تركيزا على أسواق رأس المال؛ والاقتصاد الناضج يتحول من الاعتماد على الصناعة إلى الاعتماد على الخدمات؛ والتركيبة السكانية تهدد التوسع المستقبلي؛ كما أدت فقاعة الانكماش إلى خلق جبل من القروض المعدومة، بلغ 2ر3 تريليونات يوان (الدولار الأمريكي يساوي 3ر7 يوانات تقريبا حاليا)، وفقا للبيانات الرسمية، وهو ما يقلل على الأرجح من حجم المشكلة. وأضافت تيت في مقالها بصحيفة ((فاينانشال تايمز)) في 1 فبراير 2024: "لحسن الحظ تمتلك الصين احتياطات سياسية تسهّل معالجة هذه المشكلة مقارنة باليابان؛ فالحكومة لديها موارد مالية هائلة، ومراقبة صارمة على الاقتصاد، وقطاع خاص يتمتع بروح ريادية عالية، وبيروقراطيون مفكرون."

لقد نجحت الصين حتى الآن في التخفيف من آثار تباطؤ اقتصادها وتعديلات سوق العقارات على قطاعها المصرفي. وعلى الصعيد الدولي، فإن دور اليابان الأقل تأثيرا في الحوكمة العالمية والناتج عن تراجع مكانتها السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، يتناقض بشكل واضح مع موقف الصين الذي يزداد ظهورا وحزما. فقد انحازت اليابان تاريخيا إلى سياسات الولايات المتحدة الأمريكية دون اتباع مسار بديل، بينما تتخذ الصين نهجا مختلفا. وقد وسعت الصين نفوذها الاقتصادي على الساحة العالمية، بدءا من مبادرة "الحزام والطريق" بالإضافة إلى قوتها الناعمة، وفي بعض مجالات القوة الصلبة. هذه الإستراتيجية تصب في مصلحة الصين، إذ نجحت في حشد الدعم من دول الجنوب العالمي. علاوة على ذلك، يعد نهج اليابان في الاعتماد على الذات أكثر تحفظا من نهج الصين. واستنادا إلى تجارب اليابان، اعتمدت الصين إستراتيجية أكثر استباقية لضمان استقلالها عن النفوذ الغربي، لا سيما في قطاعات حيوية مثل أشباه الموصلات، مع السعي للمحافظة على ميزتها التنافسية. يضاف إلى ذلك، أن المسار التكنولوجي للصين يختلف كثيرا عن المسار الياباني، إذ حققت الصين إنجازات في تقنيات حيوية تشير إلى أنها أقرب إلى الريادة العالمية مما كانت عليه اليابان في مرحلة مماثلة. وقد عزز هذا جهود الصين لضمان الاعتماد على الذات تكنولوجيا، لا سيما مع تكثيف الولايات المتحدة الأمريكية إجراءاتها الاحتوائية.

هناك أيضا اختلافات كبيرة بين اليابان قبل بضعة عقود والصين حاليا. على سبيل المثال، يتميز اقتصاد الصين بحصة أقل من الاستهلاك الخاص نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، وحجم استثمار خارجي صغير نسبيا. كما عزز التقدم الكبير الذي أحرزته الصين في الابتكار، وخاصة في التقنيات الحيوية، من اعتمادها على الذات في مجال التكنولوجيا.

تُجيب تجربة اليابان بشكل قاطع على سؤال ما إذا كان التركيز على التقدم التكنولوجي وحده كفيلا بعكس اتجاه تراجع النمو، خاصة إذا لم تكن الزيادات في الطاقة الصناعية مصحوبة بزيادة في الاستهلاك المحلي. لم تكن السوق الخارجية في نهاية المطاف سوى حل مؤقت لليابان، لأن الإجراءات الحمائية المتزايدة في الغرب حدت من قدرتها على الخروج من الركود الاقتصادي. تواجه الصين تحديا مماثلا يتمثل في فائض العرض مقارنة بالطلب. ولكن حجم السكان الكبير في الصين يمثل لها حتى الآن واقيا من شبح الانكماش الذي أدى إلى عقود من الزمن ضائعة لليابان. الدرس الياباني فيه كثير من العبر للصين وغيرها من الاقتصادات الناهضة.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4