في هذا الشهر، مايو 2025، تكون عشر سنوات قد مرت على إطلاق خطة "صنع في الصين 2025"، التي أطلقتها الحكومة الصينية في التاسع عشر من مايو عام 2015، وحددت فترتها الزمنية بعشر سنوات، ولخصت أهدافها فيما يلي: تحويل الصين من دولة كبيرة في قطاع التصنيع إلى دولة صناعية قوية؛ دفع الاقتصاد للمحافظة على معدل نمو بين متوسط وعال؛ ورفع مكانة الصين ودورها في سلسلة القيمة العالمية. عام 2025 ليس العام الأخير لتلك الخطة فحسب، وإنما أيضا هو العام الذي شهد الصعود المذهل للذكاء الاصطناعي في الصين المتمثل في "ديب سيك".
السؤال الذي يشغل مراكز الفكر والبحث هو: كيف استطاعت الصين مواصلة صعودها المذهل خلال السنوات العشر المنصرمة، في عالم يعج بعدم اليقين والحروب والمنافسة العالمية والحروب التجارية، مع التعريفات الجمركية والتدابير الانتقامية من بعض البلدان؟
في تحليل بعنوان "2025.. هل يكون عام الصعود الصيني والتعاون العالمي الأكبر؟" نشره الموقع الإلكتروني لمنتدى التمويل الدولي في السابع عشر من فبراير 2025، جاء في هذا التحليل: "بدءا من عام 1980 تقريبا، طورت الصين نفسها لتصبح قوة تصنيعية. وبفضل العمالة الرخيصة، بنت العديد من الشركات المتعددة الجنسيات نماذج أعمالها على القدرة التصنيعية القوية للبلاد وسلاسل التوريد، وكانت شركة نايكي الأمريكية من أكثر الأمثلة رمزية للشركات التي استفادت من موارد الصين. ومع ذلك، فإن الجانب السلبي الرئيسي، هو أن هذا ينطوي أيضا على تلوث شديد من الصناعة الثقيلة، فضلا على عدم الكفاءة وأحيانا التقنيات القديمة. ومع ذلك، فقد وفر هذا فرص عمل لسكان الصين وساعدها على النمو والثراء مع الصعود في سلسلة القيمة."
لمعالجة العديد من التحديات التي تواجه الصين، وضعت الحكومة الصينية إستراتيجية تخطيطية تتمثل في "الخطط الخمسية"، والتي وجهت تنمية الصين على مدى السنوات الخمس والأربعين الماضية وما زالت تفعل ذلك. كما حددت الحكومة مناطق تنمية متخصصة في البلاد، اعتمادا على قدراتها التصنيعية ومجالات الخبرة المختلفة. على سبيل المثال، تهيمن الصناعات الثقيلة على المقاطعات الشمالية، مثل خبي ولياونينغ وشانشي، في حين أصبحت المدن الكبرى مثل بكين في الشمال، وشانغهاي في الشرق وشنتشن في الجنوب أنظمة إيكولوجية عالمية المستوى للابتكار، تجمع بين الشركات الناشئة الرائدة ومصادر التمويل مثل أصحاب رؤوس الأموال الاستثمارية، وأسواق الأوراق المالية، وغير ذلك.
وكجزء من انتقالها إلى اقتصاد "4.0"، تعتمد الصين على شركات التكنولوجيا العملاقة الجديدة والشركات المبتكرة، مثل "بايدو" و"علي بابا" و"تنسنت" و"بايت دانس" و"بي واي دي" و"دي جي آي" و"هواوي"، والآن "ديب سيك"، حيث تستخدم البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي لجعل اقتصادها أكثر اعتمادا على الذات وتنوعا وتطورا. ولا يمكن مقارنة الصين إلا بالولايات المتحدة الأمريكية من حيث حجم هذا التحول الذي تقوده التكنولوجيا.
لقد حددت الصين لنفسها منذ فترة طويلة أهدافا وخططا طموحة، بما في ذلك السياسات الصناعية الشاملة التي تهدف إلى تحويل البلاد إلى قوة تصنيع عالمية ومبتكرة بحلول عام 2025، وهو الهدف الذي حققته إلى حد كبير. أحد الأهداف الرئيسية للصين، والذي أصبح أكثر إلحاحا وأهمية بسبب الاضطرابات الجيوسياسية المتزايدة، هو تقليل اعتمادها على التقنيات الأجنبية، وخاصة في القطاعات الحيوية مثل أشباه الموصلات والبرمجيات والآلات المتقدمة والذكاء الاصطناعي.
في السابع والعشرين من يناير 2025، نشرت صحيفة ((لوموند)) الفرنسية تقريرا لمراسلها في بكين هارولد تيبو، قال فيه إن خطة "صنع في الصين 2025" كانت أشبه بسفينة تطفئ جهاز إرسالها عند دخولها مياها حساسة. أطلقت الحكومة الصينية الخطة في ربيع عام ٢٠١٥، بهدف تحويل الصين من عملاق صناعي إلى قوة تصنيع عالمية كبرى، واستهدفت قطاعات رئيسية، من التكنولوجيا الحيوية والمواد الجديدة إلى أشباه الموصلات والمركبات الكهربائية.
لقد كان تحول الصين من مركز تصنيع منخفض التكلفة إلى مركز إنتاج مدفوع بالابتكار، مع التركيز على البحث والتطوير وتنمية الملكية الفكرية، ملحوظا. وفقا لخطة "صنع في الصين 2025" فإنه "بحلول عام 2025، يجب أن يتجاوز الإنفاق على البحث والتطوير كنسبة مئوية من الإيرادات في الصناعات الرئيسية 68ر1%، ويجب أن يزيد عدد براءات الاختراع المقدمة بنسبة 50% مقارنة بمستويات عام 2015". في عام 2017، تجاوزت الصين الولايات المتحدة الأمريكية من حيث عدد طلبات براءات الاختراع المقدمة سنويا، لتصبح الرائدة عالميا في إنشاء الملكية الفكرية. كما تقود الصين الآن سباق البحث والتطوير والبراءات العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، مما يعني أن ظهور "ديب سيك" في عام 2025 لم يكن مفاجئا.
وفقا للهيئة الوطنية للإحصاء الصينية، تجاوز إجمالي إنفاق الصين على البحث والتطوير 6ر3 تريلونات يوان (الدولار الأمريكي يساوي 3ر7 يوانات تقريبا حاليا) في عام 2024، بزيادة بلغت نسبتها 3ر8% على أساس سنوي، أي ما يعادل 68ر3% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ومنذ عام 2022، شكلت الصين ما يقرب من 25% من الإنفاق العالمي على البحث والتطوير، لتحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية. وقد ساعد تنفيذ هذا في أن تصبح الصين أكبر منتج للسيارات الكهربائية في العالم، حيث اكتسبت شركات مثل "بي واي دي" اعترافا عالميا بسرعة.
وفي صناعة الطيران، تصدرت الصين أيضا عناوين الأخبار مع ظهور شركة صينية قادرة على تصنيع الطائرات المصممة للرحلات الدولية بأعداد كبيرة من الركاب، وبالتالي منافسة شركة "إيرباص" الأوروبية وشركة "بوينغ" الأمريكية اللتين هيمنتا لفترة طويلة على الصناعة. كما أظهرت شركة الطائرات التجارية الصينية "كوماك" قدرة كبيرة على التعاون، أثناء الشراكة مع تلك الشركتين القائدتين في الصناعة، بالإضافة إلى شركات دولية أخرى. ويوضح هذا الصعود قطاعا آخر، تظهر فيه الصين قدرة متزايدة على المساهمة في النمو المتبادل والتحالفات التجارية.
وتتماشى ابتكارات الصين أيضا مع المخاوف والسياسات العالمية، حيث يتوافق أسطولها الوطني السريع النمو من المركبات الكهربائية مع أهداف الاتحاد الأوروبي لإزالة الكربون في قطاع السيارات وجعله أكثر اخضرارا. في التاسع عشر من إبريل 2023، اعتمد الاتحاد الأوروبي لائحة لتعزيز معايير أداء انبعاثات ثاني أكسيد الكربون للسيارات الجديدة والمركبات التجارية الخفيفة الجديدة بما يتماشى مع طموحات الاتحاد الأوروبي المتزايدة بشأن المناخ. ومع دخول أهداف أكثر صرامة على مستوى الاتحاد الأوروبي حيز التنفيذ اعتبارا من عام 2030 فصاعدا، سيتعين على شركات تصنيع السيارات طرح المزيد من المركبات الخالية من الانبعاثات في سوق الاتحاد الأوروبي. كما تبنت الصين سياسات مماثلة في عام 2024 وكشفت عنها في المنتدى الاقتصادي العالمي الأخير.
في السنوات العشر المنصرمة، حققت الصين تحولا اقتصاديا مثيرا للإعجاب وتحولا من النمو الكثيف العمالة إلى النمو القائم على الابتكار. لقد زادت الصين بالتأكيد من نفوذها في معايير التكنولوجيا العالمية وسلاسل التوريد، على الرغم من أنها لا تزال تواجه نصيبها من التحديات المحلية، بما في ذلك موازنة نموها الاقتصادي مع الاستدامة الإيكولوجية والاجتماعية، فضلا على التعامل مع فائض إنتاجها. وعلى الصعيد العالمي، تواجه الصين أيضا تحديات متزايدة في المنافسة والتجارة العالمية، ووجدت نفسها في منافسة متوترة بشكل متزايد مع الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الاقتصادات المتقدمة في قطاعات التكنولوجيا الفائقة. كانت الصين أيضا في قلب عدد متزايد من الإجراءات القانونية، فقد بدأت شكوى لدى منظمة التجارة العالمية احتجاجا على التعريفات الجمركية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على مركباتها الكهربائية في أواخر عام 2024، وكانت هدفا لإجراءات بدأها الاتحاد الأوروبي بشأن شروط ترخيص براءات الاختراع في أوائل عام 2025.
في محاولة لكبح صعود الصين، فرضت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2022، ضوابط تصدير على معدات أشباه الموصلات المتقدمة، واستمرت القيود في التشديد في السنوات التي تلت ذلك. تهدف تلك التدابير إلى إبطاء تقدم الصين في هذا القطاع وإطالة اعتمادها على التقنيات الأجنبية في الرقائق المتقدمة، مع هيمنة شركات مثل "TSMC" و"ASML" على هذه السوق.
في السنوات العشر الماضية، ارتقت الصين لتصبح رائدة عالمية ومبتكرة في العديد من الصناعات، مثل السيارات الكهربائية والعديد من الصناعات الأخرى، والطائرات بدون طيار الترفيهية، ووسائل التواصل الاجتماعي والتجارة الإلكترونية والهواتف الذكية والألعاب والذكاء الاصطناعي. ومن المتوقع أن تستمر هذه القائمة في النمو. كما سيستمر اللاعبون الصينيون في الظهور في الاقتصاد العالمي، وستلعب التجارة والابتكار في الصين دورا رئيسيا يتجاوز التوترات والحروب التجارية. سيكون التعاون مفتاحا لتوجيه العلاقات مع الصين كدولة ومع صناع السياسات، وكذلك مع الشركات الصينية كجهات فاعلة خاصة في التجارة العالمية.
أحد الاتجاهات المشجعة، هو أن ثمة تقاربا عالميا ملحوظا، عند مقارنة أهداف ومبادرات صناع السياسات العالمية. من حيث السياسات الخضراء ومعالجة الاحتباس الحراري العالمي وتحديات الاستدامة، تعمل معظم البلدان الآن على تطوير الحوافز لتطوير استخدام السيارات الكهربائية والتخلص التدريجي من المركبات التي تعتمد على الوقود الأحفوري. وعلى نفس المنوال، تقوم بلدان عديدة باستثمارات ضخمة في الذكاء الاصطناعي. وعلى سبيل المثال، فقد كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطة طموحة للذكاء الاصطناعي تسمى "ستارغيت"، مع وعد باستثمار خمسمائة مليار دولار أمريكي في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في بلاده. وفي الوقت نفسه، أقر ترامب أيضا بأن إطلاق "DeepSeek AI" من شركة صينية يجب أن يكون بمثابة "دعوة استيقاظ لصناعاتنا بأننا بحاجة إلى التركيز على المنافسة"، وأن هذه التكنولوجيا الصينية يجب أن تكون "تطورا إيجابيا للغاية" للذكاء الاصطناعي بشكل عام، لأنه "بدلا من إنفاق المليارات والمليارات، ستنفق أقل، وستتوصل إلى نفس الحل".
التوافق بين صناع السياسات ممكن، حتى في خضم التوترات الجيوسياسية. وفي حين تواجه الصين تحديا في تطوير علاقات تعاونية ثابتة مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، فإنها تعمل بالفعل على خلق بدائل جديدة للتواصل مع دول أخرى وخلق تعاون عالمي حقيقي.
إن أي تعاون محتمل بين بكين وواشنطن سيستمر في مواجهة التحديات، وخاصة بسبب الرسوم الجمركية الجديدة المفروضة على واردات السلع الصينية. وفي الاتحاد الأوروبي، سيتعين على أي تعاون صيني التغلب على الرسوم الجمركية على واردات المركبات الكهربائية إلى الاتحاد الأوروبي والتي تم فرضها في أواخر عام 2024، بالإضافة إلى شكوى الاتحاد الأوروبي إلى منظمة التجارة العالمية التي تم توزيعها على أعضاء منظمة التجارة العالمية في 22 يناير 2025.
ولكي تكون الصين لاعبا مؤثرا في المشهد العالمي، فإنها تعتمد على دورها كزعيمة بحكم الأمر الواقع لمجموعة "بريكس" التي تضم اقتصادات نامية كبرى ومبادرة "الحزام والطريق". ومن خلال القيام بذلك، تظهر الصين استعدادها للمساهمة في الآليات والمنظمات المتعددة الأطراف مع تحصين نفسها من العزلة من قبل اقتصادات كبرى أخرى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي.
ولهذه الغاية، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ أن بلاده ستواصل إيجاد طرق جديدة لتكييف سلسلة التوريد الخاصة بها، مع مراعاة التعريفات الجمركية التي تواجهها. وكجزء من هذه الجهود، أعلن الرئيس شي أثناء زيارته للمغرب في أواخر عام 2024 عن مصنع مهم لإنتاج البطاريات الكهربائية، مما يدل على أن الصين مستعدة للعب دور أكبر في نمو البلدان الناشئة الأخرى مثل المغرب والبرازيل ومصر مما يؤدي إلى نتائج أكثر فائدة للطرفين.
لا ينبغي لمثل هذه التعديلات أن تمنع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من التعاون مع الصين، لأن مخططات وأطر التعاون تظل مفيدة لكل طرف. بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن إعادة تشغيل أو إحياء اتفاقية الاستثمار الشاملة من شأنه أن يعالج عدم التوافق بين الصين والاتحاد الأوروبي، ويمكن التعامل مع الدعاوى القضائية والإجراءات المعلقة التي تنظر فيها منظمة التجارة العالمية حاليا بطريقة مرضية لجميع الأطراف المعنية. ومن جانبها، يمكن للصين أيضا معالجة مخاوف الاتحاد الأوروبي بشأن الملكية الفكرية بشكل أكثر فعالية، في حين يمكن للاتحاد الأوروبي السماح للاعبين الصينيين بقدر أكبر من الوصول إلى السوق الأوروبية.
في الحادي عشر من إبريل 2025، دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ، خلال لقائه مع رئيس الوزراء الأسباني بيدرو سانشيز، الصين والاتحاد الأوروبي إلى الوفاء بمسؤولياتهما الدولية، والعمل معا لحماية العولمة الاقتصادية وبيئة التجارة الدولية، ومقاومة التنمر الأحادي الجانب بشكل مشترك.