مجتمع < الرئيسية

الصين كانت "بلدا آخر" قبل 40 سنة

: مشاركة
2018-09-03 12:34:00 الصين اليوم:Source بابلو روفيتا دوبينسكي:Author

صادف هذا العام، 2018، الذكرى السنوية الأربعين لأحد أهم الأحداث في تاريخ الصين المعاصرة، وهو الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي الصيني التي عقدت في الفترة من 18 إلى 22 ديسمبر عام 1978 في بكين، وما تمخض عنها من نتائج كان لها، وما يزال، الأثر الكبير على الصين والعالم. يعتبر ذلك الحدث نقطة الانطلاق لسياسة الإصلاح والانفتاح في الصين.

لعل تواجدي في الصين منذ قدومي إلى بكين في منتصف عام 1975 يسمح لي بأن أعتبر نفسي شاهدا على هذه العملية. أصبح من المعروف لدى الجميع أن إنجازات لا حصر لها قد تحققت في الصين خلال العقود الأربعة الماضية. وفقا للمؤرخين، لم يشهد تاريخ البشرية قيام بلد بهذا الحجم السكاني الضخم بمثل هذه التغييرات والتحسينات العميقة في مثل هذه الفترة الزمنية القصيرة.

خلال العقود الأربعة الماضية، تطورت الصين لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتظهر التوقعات بأنها ستحتل المركز الأول في المستقبل القريب. فالصين حاليا متفوقة على مستوى العالم في مجالات التجارة الخارجية، والحد من الفقر، والبنية التحتية، والقدرات الصناعية، والإنفاق على البحث والتطوير، وتطوير التقنيات المتقدمة، والتأثير في الساحة الدولية. تبدو الصين اليوم، من نواح كثيرة، وكأنها "بلد آخر" بالمقارنة مع الصين التي عرفتها قبل 43 سنة.

وحيث أني قد عايشت الكثير من مجريات الأحداث منذ عام 1978، أود أن أشارككم بعضا مما شهدته وبعضا من أفكاري ضمن ثلاثة جوانب.

أولا، لقد تغلبت الصين على العديد من الصعوبات، وأحبطت جميع التوقعات السلبية بخصوصها. خلال الأربعين سنة الماضية، سمعت وقرأت الكثير من التقارير الصادرة عن الغرب تظهر توقعات متشائمة حول الصعوبات والأخطار التي تتهدد الصين، كالأزمة المالية الآسيوية عام 1997 عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، وانهيار ما يسمى بالمعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقية، أو لدى حدوث أزمة إنفلونزا الطيور، أو انتشار فيروس سارس في عام 2002. وكثيرا ما كان يصاحب تلك التوقعات المتشائمة صخب كبير. ولقد وصلت هذه التوقعات إلى حد أن البعض توقع تفكك الصين كأمة، أو اندلاع حرب أهلية فيها.

صحيح أن الطريق الذي سلكته الصين في العقود الأربعة الماضية لم يكن سهلا، وكان عليها أن تواجه العديد من الصعوبات في الداخل والخارج، إلا أن الصين تمكنت من التغلب على تلك الصعوبات عاما بعد عام، ولم تثبت صحة أي مما تنبأ به منتقدوها. وبالرغم من ذلك، لا تزال العديد من الدول الغربية تتحدث عن الجوانب السلبية فقط، بدلا من الاعتراف بالتأثير الإيجابي للتنمية الصينية.

قبل وبعد الإصلاح والانفتاح

ثانيا، أود أن أقيم مقارنة بين ما كانت عليه الصين وشعبها عندما بدأ الإصلاح والانفتاح، وما هي عليه الأوضاع حاليا. في عام 1978، كانت معظم المواد الغذائية (الحبوب واللحوم وزيت الطعام، إلخ)، والأقمشة لصنع الملابس، والمنتجات الصناعية الرئيسية (مثل الدراجات) خاضعة لنظام الحصص. حتى الأجانب كانوا أيضا بحاجة إلى بطاقات تموينية لشراء المواد الغذائية والأقمشة. كان معدل عدد ساعات العمل للموظفين الصينيين العاديين ثماني ساعات يوميا من يوم الاثنين إلى يوم السبت من كل أسبوع، مع استراحة يوم الأحد، وكانت العطلات الرسمية سبعة أيام فقط في الأول من يناير، والأول من مايو، والأول من أكتوبر، وأيام عطلة عيد الربيع.

بسبب ضعف البنية التحتية، كان يستغرق الذهاب من مكان إلى آخر عدة أيام أحيانا. وفي كثير من الأحيان لم يكن يتسنى لبعض العائلات التي يعمل فيها الزوج أو الزوجة في منطقة أخرى الاجتماع مع العائلة إلا خلال عطلة عيد الربيع. أعظم أوجه الرفاهية آنذاك كانت تتمثل في امتلاك دراجة هوائية أو ساعة يد أو مذياع أو ماكينة خياطة. لم يكن من عادة الأصدقاء أو العائلات الذهاب إلى المطاعم لتناول الوجبات إلا في المناسبات الخاصة. كانت السياحة داخل البلاد أشبه بالحلم المستحيل، ناهيك عن السفر إلى خارج البلاد.

في عام 1976 كانت المنافسات مستمرة ضمن دورة الألعاب الأولمبية في مونتريال عندما كنت في بكين. في ذلك الوقت، لم تشارك جمهورية الصين الشعبية، الدولة الأكثر سكانا في العالم، في دورة الألعاب الأولمبية، إذ أنها لم تسترد مقعدها في اللجنة الأولمبية الدولية حتى عام 1979. كما لم تكن حتى ذلك الوقت قد تأسست علاقات دبلوماسية بين جمهورية الصين الشعبية والعديد من الدول مثل دول أمريكا الوسطى بأكملها، وبوليفيا، وكولومبيا، والإكوادور، وأوروغواي في أمريكا الجنوبية. بالإضافة إلى ذلك، كانت هونغ كونغ لا تزال مستعمرة بريطانية وماكاو مستعمرة برتغالية.

إلا أن الصين تبدو حاليا وكأنها بلد "جديد". طالت تغييرات جذرية كلا من المدن والمناطق الريفية. شهد مستوى المعيشة العام تحسنا كبيرا. أصبح نظام الحصص شيئا من الماضي، وتكتظ المطاعم والمحلات التجارية حاليا بالزبائن. في العقود الأربعة الماضية، تحسنت حياة مئات الملايين من الشعب الصيني إلى حد كبير. بطبيعة الحال، لا يزال الفقر يؤرق المناطق الريفية النائية، وقد اعترف الرئيس شي جين بينغ بذلك، وهو يعطي الأولوية للعمل على تخفيف حدة الفقر.

حاليا، يعمل الموظفون لمدة خمسة أيام في الأسبوع، وصارت "عطلة نهاية الأسبوع" ضمن مفردات قاموس الصينيين. مع ازياد عدد أيام العطل، يقضي الصينيون وقتا أطول في السفر بسياراتهم الخاصة أو بوسائل النقل الأخرى السريعة والحديثة والمريحة. يزداد عدد السياح الصينيين إلى خارج البلاد عاما بعد عام، حتى أن بعض الدول والمناطق أدخلت إجراءات وتعديلات لجذب السياح الصينيين. في مجالات الصناعة والتقنية والعلوم، تقف الصين في المقدمة. حظيت الشركات الصينية مثل هواوي بشهرة عالمية واسعة.

هل هذا يعني أن كل ما كان قائما قبل الإصلاح كان سيئا؟ لا أعتقد ذلك. بعد أكثر من قرن من الحرب الأهلية والاجتياحات الأجنبية والذل، أسست صناعتها الخاصة (وهو ما كان شبه غائب قبل عام 1949، باستثناء قطاع النسيج) وتوفير سلسلة من الخدمات وضمان الحقوق الدنيا للعدد الهائل من مواطنيها. إلى جانب ذلك، أقامت مشروعات بنية تحتية واسعة النطاق للسيطرة على الفيضانات التي كانت سببا لحدوث المجاعات وأجبرت الملايين على النزوح كل عام.

فيما يتعلق بالتنمية العلمية والصناعية، تعمل الصين على تطوير صناعتها في مجال الطيران والملاحة الجوية منذ سبعينات القرن العشرين، ونجحت في إطلاق العديد من الأقمار الاصطناعية. في عام 1959، تم اكتشاف حقل داتشينغ النفطي، الذي دفع تطورالصناعة البتروكيماوية للصين بشكل كبير. الأمر الذي ينطبق كذلك على صناعة الحديد والصلب، فمع تشييد مجمعات بناء كبيرة، تطورت صناعة الحديد والصلب بسرعة.

خصائص الإصلاح والانفتاح

الجانب الثالث الذي أود لفت الاتباه إليه هو أن الإصلاح والانفتاح تم تطبيقهما عبر عملية تدريجية، ولم تكن سياسة متهورة، وما زال الأمر كذلك حتى اليوم. عُقد الاجتماع الذي تم خلاله إقرار التوجه نحو الإصلاح والانفتاح في نهاية عام 1978، ولم تتم متابعته بتدابير ملموسة إلا في العام التالي. في الحقيقة، مصطلحات "الإصلاح" و"الانفتاح " لم تظهر في الوثائق الرسمية التي صدرت بعد الاجتماع، وإنما بدأ استعمالها في الثمانينات من القرن الماضي.

تكمن الأهمية التاريخية للجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي الصيني، في أنها وجهت المهمة الرئيسية للحزب من "الصراع الطبقي" المزعوم الذي كان سائدا حتى ذلك الحين إلى التنمية الاقتصادية، وأعربت عن استعداد الصين لإطلاق التعاون الاقتصادي بفعالية مع جميع البلدان، وكذلك لإدخال تقنيات ومعدات متقدمة من الخارج. تلك كانت من أبرز النقاط في الاجتماع.

فيما يتعلق بموضوع الإصلاح، تم اتخاذ الخطوة الأولى والأكثر أهمية في المناطق الريفية. أما عملية الانفتاح على العالم الخارجي، فكان أهم تدابيرها هو إنشاء المناطق الاقتصادية الخاصة الأربع الأولى في جنوبي البلاد.

بدلا من اتخاذ وتطبيق إجراءات في كافة أرجاء البلاد في العمل، لجأت الحكومة إلى اختبار السياسات الجديدة في مناطق تجريبية محدودة. ففي حال كانت النتائج إيجابية يتم تعميم السياسات لتشمل أجزاء أخرى من البلاد. سمح ذلك للحكومة بتصحيح الأخطاء، ومراكمة الخبرات، وتقويم وضبط الإجراءات الملموسة الواجب اتخاذها في الوقت المناسب، وقد وصفت تلك العملية بالعبارة الصينية المشهورة "عبور النهر بتلمس الحجارة" التي أطلقها دنغ شياو بينغ؛ مهندس سياسة الإصلاح والانفتاح.

وهكذا، كان يتم تبني الإصلاحات في أماكن محددة في بادئ الأمر، ثم يتم تعميمها لتشمل كافة أرجاء الصين. خلال الأربعين سنة الماضية، كانت الصين تتخذ إجراءات الإصلاح بهذا الأسلوب التدريجي، ومازالت اليوم تعمل بهذا الأسلوب.

بالرغم من الصعوبات العديدة التي تواجهها والتوقعات المتشائمة لبعض الدول الغربية تجاهها، تواصل الصين المضي قدما. أصبحت الصين دولة جديدة بفضل سياسة الإصلاح والانفتاح. شملت التغيرات كافة جوانب حياة الناس، وانعكس تأثيرها على صورة البلاد، والتنمية الصناعية والعلمية فيها، وكذلك موقع الصين على الساحة الدولية.

أحد مفاتيح نجاح سياسة الإصلاح والانفتاح الصينية هو أنه يتم تطبيقها بشكل تدريجي، الأمر الذي يجعل من الممكن تدارك وتصحيح المشكلات الغير متوقعة. إلا أن الأمر لا يخلو من الجوانب السلبية التي طرأت كالفساد، وتلوث البيئة، والفجوة بين الأغنياء والفقراء. ولحسن الحظ، فإن الحكومة الصينية لم تحاول أبدا إنكار هذه المشكلات، بل وأكدت بالقول والفعل على تصميمها على إيجاد حلول لهذه المشكلات.

--

بابلو روفيتا دوبينسكي، قدم من الأوروغواي إلى الصين في عام 1975، وهو يدير مدونة "ريفليكشنس أورينتاليس".

 

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4