مجتمع < الرئيسية

كيف تغير مصير فتيات قرية جبلية؟

: مشاركة
2024-07-10 17:25:00 الصين اليوم:Source مي عاشور:Author

يمكنك أن تتعلم شيئا عبر المشاهدة أو الملاحظة. ولكن في هذا العصر الذي سيطرت عليه التكنولوجيا وغزاه الذكاء الاصطناعي، أصبح من الممكن أن تُعَلم نفسك بنفسك، بل وبدون معلم في كثير من الأحيان؛ فكل ما تتطلع إلى تعلمه متاح تفصيليا على شبكة الإنترنت. لكن ما لا يعوضه شيء، هو وجود معلم جيد، لا ينحصر دوره في التدريس، بل ليرشدك إلى درب لم تنتبه لوجوده، ويراهن عليك، ويكتشف فيك مهارات لم تعرف أنك تمتلكها.

منذ أشهر، وتحديدا في عيد المعلم في الصين، قرأت رسالة وجهتها مُعلمة اسمها تشانغ قوي مي إلى المعلمين الصينيين الشباب. لم تكن رسالة نصائح وتوجيهات، بل رسالة تشجيع ودعم ومحبة، فكلماتها النابعة من القلب، أبرزت تواضعها رغم مكانتها المرموقة: "إذا كنت شابا وصادفتك بعض العثرات، فمن فضلك لا تدع القلق يتملكك. فبمجرد أن تبدأ في التفكير واتخاذ خطوات عملية، ستكون قد انطلقت في طريق مفعم بالأمل. التعليم هو هندسة النظم، وقد يكون الهدف الكبير المراد الوصول إليه أشبه بجبل شاهق. ولكنك لو أنجزت- ذات يوم- أهدافا صغيرة بعينها، وتقدمت بخطى واثقة صوب الأمام، فسوف تستقبل لحظة يشرق فيها الربيع، وتصل فيها السفينة إلى بر الأمان." وأكدت تشانغ قوي مي على أهمية التعليم: "سبق وزرت سيدة مُعدمة، في عائلة لواحدة من طالباتي، لا تملك سوى جدران بيتها، ولكنني وجدتها تبسط على الأرض شهادات التقدير التي حصلت عليها ابنتها. وحينها أدركت أن التعليم بمثابة خيوط أمل نورانية. لم أطق رؤية الفتيات يتزوجن في سن مبكرة، ويكررن هذه الحياة الفقيرة والمجردة من الاختيارات. قطعا كان على أن ألجأ إلى التعليم لانتشالهن من هوة الفقر، وقد عثرت على عزاء معنوي في هذه الفكرة التي استحوذت علي."

قرأت عن المُعلمة تشانغ قوي مي، وشاهدت لقاءات كثيرة معها، بل وفهمت دورها المهم، وكيف كانت بمثابة نقطة تحول في حياة الفتيات الصينيات القرويات، وما فعلته لتغيير مصير الآلاف منهن، وذلك بعدما شاهدت فيلم ((أنا جبل شاهق))، والذي يحكي قصتها ومسيرتها في تعليم الفتيات.

من هي تشانغ قوي مي؟

هي معلمة صينية لها مكانة مميزة في الصين، ولدت في عام 1957 بمقاطعة هيلونغجيانغ. أتت مع شقيقتها إلى مقاطعة يوننان، وبدأت العمل في عام 1975، وانضمت إلى الحزب الشيوعي الصيني في عام 1998. وبعد وفاة زوجها الذي عاشت معه لفترة قصيرة، قررت الانتقال إلى قرية هوابينغ. وهناك، في ذلك المكان المحاط بالجبال، رأت العديد من الفتيات يتطلعن إلى الدراسة، ولكنهن يعجزن عن ذلك، بسبب الظروف المادية الصعبة لهن أو لعدم سماح عائلاتهن لهن بالذهاب إلى المدرسة بسبب رغبتهم في تزويجهن. حلمت المعلمة تشانغ بتغيير حياة هؤلاء الفتيات. قالت في برنامج "وجها لوجه"، والذي عُرض على محطة التلفزيون الصينية المركزية (CCTV): "حينما لاحظت تغيب الفتيات عن الصف، تساءلت: "هل كان تغيب الفتيات بسببي أم لسبب آخر؟ كان ينبغي على التحقق من السبب، فدخلت إلى الجبل، وبسبب كبر مساحة المنطقة الجبلية، قلما كنت أتوغل فيها أو أراها. ولكنني عندما ذهبت إلى هناك، رأيت فتاة في عمر المراهقة، تمكث في البيت، ولا تفعل أي شيء، ثم علمت أن أهلها قد زوجوها."

أنشأت تشانغ قوي مي، بدعم من الحكومة الصينية، مدرسة هوابينغ الثانوية للبنات في قرية تحتضنها الجبال. وبذلك، منحت المعلمة تشانغ الفتيات فرصة للدراسة، لأنها تؤمن بأن التعليم هو طوق النجاة. تخرجت العديد من فتيات تلك المنطقة الجبلية في المدرسة والتحقن بجامعات مختلفة، حتى صار للعديد منهن شأن ومكانة في المجتمع.

تم تكريم تشانغ قوي مي عدة مرات في الصين، وحصلت على العديد من الجوائز والألقاب؛ فتم اختيارها في عام 2020 لتكون المعلمة المتميزة في الصين، وحازت على لقب العضو المميز للحزب على مستوى الصين، وكذلك أكثر شخصية مؤثرة في الصين لعام 2021.

تطوعت السيدة تشانغ لتدير دار أيتام "بيت الأطفال"، حيث أصبح الأطفال وطالباتها ينادونها بـ"أمي". وهبت هذه السيدة حياتها للتربية والتعليم. تقول المعلمة تشانغ: "لا أخشى أي عواقب أو صعوبات، وبحماسة غامرة أذهب لأتمم رسالة حياتي، وهي خدمة الأطفال وعامة الناس في الجبل، فأنا أهب نفسي للعمل بالتدريس هناك."

أنا جبل شاهق

في سبتمبر عام 2023 عُرِض على شاشات السينما في الصين فيلم ((أنا جبل شاهق))، الذي تم ترويجه بالإنجليزية باسم ((Beyond the Clouds)) أي "وراء الغيوم"، وهو مقتبس من مسيرة تشانغ قوي مي في العمل بالتدريس. يحكي الفيلم كيف غرست المعلمة تشانغ الطموح في الفتيات، ونمت شغفهم بالتعليم. حتى تمكنت في النهاية من تغيير طريقة تفكيرهن، وخلقت مسارا جديدا لهن في الحياة، وذلك رغم كل الصعوبات التي واجهتها، ورفض بعض الفتيات لهذا التغيير في بادىء الأمر.

ولدت لأكون جبلا شاهقا وليس نهيرا،

أطمح إلى القمم المرتفعة والنظر إلى الوديان،

ولدت لأكون إنسانة مميزة لا مهمشة،

أقف بين العظماء، ولا آبه بالمتخاذلين!

هذه كلمات نشيد تردده فتيات مدرسة هوابينغ الثانوية، وقد اقتبس اسم الفيلم من بين سطوره.

تقول المعلمة تشانغ لطالباتها في الفيلم: "درب الدراسة شاق لكل منكن، الجبال من الشمال، والجروف من الجنوب، وعائلاتكن فقيرة، وظروفكن سيئة، وكذلك لا يوجد من يدعم تعليمكن، فلماذا أنا متمسكة بالتحاق كل منكن بالمدرسة؟ لماذا؟ لأن المرأة المتعلمة بمقدورها تغيير مصير ثلاثة أجيال، فبوسعكن تغيير مصير أمهاتكن ومصير أنفسكن، وكذلك أبنائكن...."

يبدأ الفيلم بحفل افتتاح مدرسة هوابينغ الثانوية للبنات، في منطقة نائية ومحاطة بالطبيعة. في البداية، تجد الفتيات صعوبة في الالتزام بالدراسة، والاندماج مع النظام. لكن المعلمة تشانغ لا تتخلى عن هدفها، أو حتى تترك القنوط يغيم على نور قلبها، وذلك رغم ضيق الوقت؛ فقد كان من المفترض أن تؤدي الفتيات امتحانات القبول بالجامعات بعد ثلاث سنوات فقط.

يُظهِر الفيلم الجانب الإنساني الفريد في شخصية هذه المعلمة، ومدى اهتمامها بالأمور الشخصية لطالباتها. فعندما رأت معلمة بالمدرسة تنهر تلميذة وتصفها بالغبية، لعدم معرفتها إجابة سؤال ما، عارضت بشدة هذه الطريقة في التعليم، وحظرت تماما سب المعلمين لأي طالبة أو التطاول عليها. وعندما تدخلت مدرسة أخرى قائلة إنها تشرح عدة مرات، ولا تستجيب الفتيات لشرحها، وقال مُدرس آخر، إن مستوى الفتيات الأساسي ضعيف للغاية، ردت المعلمة تشانغ عليهم قائلة: "تتنصلون من المسؤولية، وتلقون كل شيء على عاتق الطالبات." بل قالت لهم إن سبب ضعف نتائج الطالبات، هو وجود قصور في طريقة التدريس التي ينتهجونها.

حق الاختيار

تتسرب إحدى الفتيات من المدرسة للعمل في موقع بناء، فتلحق بها المعلمة تشانغ، وتتحدث إليها، وتسألها عن المبلغ الذي تحصل عليه من هذا العمل. وبطريقة في منتهى الذكاء، تحكي لها عن طالبة لم تكن في نفس مستوى ذكائها، ولكنها تعلمت جيدا، فكانت النتيجة أنها الآن لديها وظيفة جيدة، وتحصل على راتب كبير، وكذلك قالت لها: "الأهم من ذلك، أنها صار لديها الحق في اختيار وظيفتها."

في نهاية الفيلم تظهر الكلمات التالية: في سنة 2011، تخرجت 94 طالبة في مدرسة هوابينغ، والتحقت 69 منهن بالجامعات بمجموع مرتفع جدا، وحتى عام 2023 التحق أكثر من 2000 من طالبات المدرسة بالجامعات.

ترفع الصين شعار العمل والاجتهاد، ولكنها في نفس الوقت تسلط الضوء عليهما بشكل عملي؛ فتبرز كل الشخصيات المميزة والمؤثرة في المجتمع الصيني، بل وتكرمها، وتدعمها، وتصنع منها نموذجا يحتذى به.

--

مي عاشور، كاتبة ومترجمة من مصر.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4