يرتبط الصهر بتطور حضارات البشرية وتقدم المجتمع البشري ارتباطا وثيقا. من العصر الحجري إلى العصر البرونزي ثم إلى العصر الحديدي، يعتبر صهر المواد المعدنية أحد رموز العصر البارزة. الأدوات المعدنية لا غنى عنها في الحياة اليومية والتنمية، الأمر الذي يؤكد العلاقة الوثيقة بين العلوم والتكنولوجيا وحياة البشر، حيث ظهرت معظم الأدوات المعدنية نتيجة لاحتياجات البشر، وتطورت وتحسنت لتلبية احتياجاتهم المستمرة. إن تطور تقنيات الصهر لجعله قوى منتجة اجتماعية ساعد على دفع تقدم المجتمع، فيمكن القول إن تقنيات الصهر في عصور الصين القديمة حققت إنجازات باهرة للحضارة الصينية.
تقنيات صهر البرونز
البرونز خليط معدني يتكون من النحاس وكمية صغيرة من القصدير والرصاص. عملية صهر البرونز معقدة نسبيا؛ حيث يوضع المعدن الخام مع مادة منشطة للصهر في فرن الصهر أولا، ثم يُحرق الفحم النباتي، وبعد وقت معين، يؤخذ سائل النحاس المكرر، ويتم تخليصه من شوائب الصهر للحصول على النحاس الأولي، ومن ثم تكرير النحاس الأولي للحصول على النحاس النقي، وأخيرا يضاف القصدير والرصاص إلى النحاس النقي لتكوين خليط معدني، وهو البرونز.
أقدم منتج برونزي معروف حتى الآن هو السكين البرونزي الذي تم اكتشافه في موقع ماجياياو الأثري بمحافظة دونغشيانغ في مقاطعة قانسو، ويعود تاريخه إلى حوالي خمسة آلاف عام. بدأ العصر البرونزي في الصين في عام 2000 قبل الميلاد، وتطور خلال فترات شيا (القرن 21- 16 ق.م) وشانغ (القرن 16- 11 ق.م) وتشو الغربية (القرن 11- 771 ق.م) والربيع والخريف (770- 476 ق.م) وأوائل فترة الممالك المتحاربة (475- 221 ق.م)، واستمر لمدة خمسة عشر قرنا. والجدير بالذكر أن أوعية الطقوس البرونزية لأسرتي شانغ وتشو تتمتع بقيمة ثقافية وفنية عالية للغاية، وتعتبر نماذج بارزة للأواني البرونزية.
وصلت تقنيات صنع الأواني البرونزية في الصين القديمة إلى مستوى متقدم. اُكتشف السيف الخاص بملك مملكة يويه، المعروف باسم "ملك الأسلحة الصينية القديمة"، والمصنوع في أواخر فترة الربيع والخريف، في مقبرة تشو رقم 1 في قرية وانغشان بمقاطعة هوبي في ديسمبر 1965. وعند استخراجه، كان لامعا وبراقا وحادا رغم دفنه في المقبرة لمدة أكثر من 2500 عام. المكونات الرئيسية للسيف البرونزي الخاص بملك مملكة يويه، هي النحاس والقصدير وكمية صغيرة من الألومنيوم والحديد والنيكل والكبريت. تختلف نسبة النحاس والقصدير في السيف باختلاف الوظائف المختلفة للأجزاء المختلفة للسيف؛ إن نسبة النحاس في خط السيف البرونزي عالية، مما يجعله يتمتع بصلابة جيدة وصعب الكسر؛ بينما نسبة القصدير في نصل السيف عالية نسبيا، مما يجعله أكثر صلابة وحدة.
أثناء التنقيب في مقبرة التماثيل الحربية الجنائزية لأسرة تشين (221- 207 ق.م)، تم اكتشاف العديد من السيوف البرونزية التي يمكن مقارنة مستوى سبكها بالأسلحة الحديدية. من بينها سيف برونزي مثني بزاوية 45 درجة، بسبب سقوط تمثال محارب عند اكتشافه، ومن المدهش أنه عندما تم تحريك تمثال المحارب بعيدا عنه، عاد السيف البرونزي الذي ظل منحنيا لمدة ألفي عام، على الفور إلى حالته المستقيمة. وجد بعض الخبراء أن نسبة النحاس والقصدير في السيف معقولة للغاية؛ حيث وصلت نسبة القصدير على السيف من الخارج إلى 30%، بينما نسبة القصدير في داخله 20% فقط، وهذا التصميم يجعل السيف صلبا من الخارج وناعما من الداخل، مما يجعله قويا للغاية أثناء القتال، ولا ينكسر مهما تعرض للثني. لماذا لا تزال هذه السيوف حادة رغم تقلبات الزمن؟ السر هو مادة الكروم في السيوف. يعد الطلاء بالكروم تقنية حديثة جدا مضادة للتآكل، ولم يكن الأمر كذلك حتى القرن العشرين الذي ابتكرت فيه تقنية "أكسدة ملح الكروم" في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
تقنيات صهر الحديد
يرجع تاريخ صهر وسبك الحديد في الصين إلى فترة الربيع والخريف، عندما صنع سيف قانجيانغ وسيف مويه اللذان أخذا اسميهما من اسمي صانعيهما؛ قان جيانغ وزوجته موه يه. وهذان السيفان من أشهر عشرة سيوف صينية خلال تلك الفترة. وتطورت صناعة صهر الحديد بسرعة لتصل إلى مستويات عالية في فترة الممالك المتحاربة وفترة أسرتي تشين وهان.
وبالنسبة لتاريخ صهر الحديد العالمي، اُكتشفت أقدم الأدوات الحديدية في منطقة الرافدين وسواحل البحر الأبيض المتوسط ومصر القديمة، وقد تأخر تاريخ صهر الحديد في الصين عن المناطق المذكورة أعلاه، ولكن بمجرد ظهور الأدوات الحديدية في الصين، تطورت بسرعة ووصلت إلى مستوى متقدم، وحافظت على مكانتها الرائدة في العالم لفترة تاريخية طويلة. ذلك لأن تاريخ تطور صهر الحديد في المناطق الأخرى بدأ من تقنية صهر الحديد المطاوع، ومرت بأكثر من ألفي عام حتى وصلت إلى تقنية صهر الحديد الخام، بينما تزامن تقريبا ظهور الحديد المطاوع في الصين مع ظهور الحديد الخام.
إن اكتشاف الحديد الخام كانت له أهمية كبيرة في التاريخ. ففي الصين القديمة، تم تطوير أربعة أنواع من الحديد الخام على التوالي، وهي: الحديد الأبيض والحديد الخام الرمادي والحديد الزهر والحديد الزهر القابل للطرق. خلال فترة الممالك المتحاربة وفترة أسرتي تشين وهان، استُخدم الحديد الأبيض في المحاريث التي تتطلب صلابة ومقاومة للتآكل، واستُخدم الحديد الزهر القابل للطرق في المعاول والمجارف التي تتطلب قوة وصلابة، واستُخدم الحديد الزهر الرمادي في المحامل التي تتطلب القدرة على التحمل والتشحيم ومقاومة التآكل، الأمر الذي يجسد معرفة الصينيين القدماء بخواص الحديد الخام. استُخدم الحديد الخام بشكل واسع في صنع الأدوات الزراعية وقطع الغيار والأسلحة الثقيلة والمعمار وغيرها، مما طور القوى المنتجة الاجتماعية في العصور القديمة، فيمكن مقارنة اكتشاف الحديد الخام بالاختراعات الصينية الأربعة الرئيسية.
تقنيات صهر الفولاذ
أصبح الفولاذ مادة هندسية مهمة نظرا لخواصه الممتازة، ويحتل مكانة مهمة في الاقتصاد الوطني، ويعتبر حجم إنتاجه وجودته من المؤشرات الرئيسية لمستوى التنمية الصناعية في أي دولة. تعد الصين من أكثر دول العالم إنتاجا للفولاذ، وقد اخترع الصينيون في المجتمع الإقطاعي تقنيات مختلفة لصهر الفولاذ.
الطريقة الأصلية لصهر الفولاذ هي اتخاذ الحديد المطاوع كمادة خام ووضعه على نار الفحم لتسخينه وجعل الكربون يتناضح إليه لتشكيل الفولاذ، وتظهر الآثار الثقافية المكتشفة أن الصين أتقنت هذه التقنية المبكرة في أواخر فترة الممالك المتحاربة. وفي وقت لاحق، تم تطويرها إلى طريقة "صقل الفولاذ لمائة مرة"، أي تشكيل الفولاذ عن طريق حرق وطي وطرق الفولاذ الأصلي مرارا وتكرارا، حتى مئات المرات. في منتصف وأواخر فترة أسرة هان الغربية، ظهرت طريقة جديدة لصهر الفولاذ وهي "قلي الفولاذ"، والطريقة الأساسية هي تسخين الحديد الخام حتى يصير في حالة شبه سائلة، ثم إضافة مسحوق خام الحديد مع التحريك المستمر، لتقليل نسبة الكربون في الحديد الخام عن طريق استخدام الأكسجين، وبالتالي الحصول على الفولاذ. كان اختراع هذه الطريقة طفرة كبيرة في تقنيات صهر الفولاذ، مما زود المجتمع بكمية كبيرة من الحديد المطاوع والفولاذ الرخيص والعالي الجودة لتلبية الاحتياجات الإنتاجية والحربية، كما عزز تطوير طريقة "صقل الفولاذ لمائة مرة". أما طريقة "سقي الفولاذ" فهي تقنية متقدمة وأحد أبرز الإنجازات في تقنيات صهر الفولاذ في الصين القديمة، وقد اخترعها تشي وو هواي ون، عالم المعادن الشهير في الأسرات الجنوبية والشمالية (420- 589 م). قبل القرن السابع عشر، اعتمدت الدول الغربية طريقة صهر الحديد المطاوع بدرجة حرارة منخفضة، وبهذه الطريقة لم يكن الفولاذ ينصهر، ولم يكن من السهل فصل الحديد والشوائب، ولم يكن الكربون يتناضح بسرعة. وبعد تطوير تقنيات صهر الفولاذ أعلاه، اخترعت الصين طريقة "سقي الفولاذ"، التي نجحت في حل هذه المشكلات وقدمت مساهمة تاريخية في تطوير تقنيات الصهر العالمية.