الذكاء الاصطناعي هو تقنية إستراتيجية ناشئة تقود المستقبل، وهو قوة دافعة للثورة العلمية والتكنولوجية الجديدة والتحول الصناعي. وتدرك الصناعات الرئيسية في العالم الإمكانيات الكبيرة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في الجولة الجديدة من التحول الصناعي، وتسرع خطى التحول، وتبني بنشاط أنظمة بيئية مبتكرة للذكاء الاصطناعي.
في هذا السياق، تطورت تقنيات الذكاء الاصطناعي في الصين بسرعة، وتتسارع عملية التصنيع والتسويق بشكل مستمر، ليس فقط من خلال تطوير منتجات جديدة مثل القيادة الذاتية والنماذج الكبيرة والروبوتات البشرية، وإنما أيضا من خلال تنفيذ عمليات "الذكاء الاصطناعي+" على نطاق واسع لتحويل الصناعات التقليدية، مثل الصناعة والزراعة والتعدين والتعليم والطب بشكل ذكي، مما أدى إلى إنشاء أنماط جديدة وإعادة إحياء الصناعات التقليدية. تعتبر الصين واحدة من أسرع الدول تطويرا للذكاء الاصطناعي وأوسعها تطبيقا وأكثرها إنجازات في هذا المجال.
تاريخ تطوير الذكاء الاصطناعي في الصين
الذكاء الاصطناعي مجال دراسي يركز على استخدام الحواسيب لمحاكاة بعض العمليات الفكرية والسلوك الذكي للبشر. في مارس 1986، أطلقت الصين "البرنامج الوطني للبحث والتطوير في مجال التكنولوجيا الفائقة"، الذي يتجلى في تطوير الكمبيوتر الذكي في مجال المعلومات، وحققت الصين مجموعة من الإنجازات البحثية المهمة في مجالات مثل الكمبيوتر العالي الأداء، الواجهات الذكية، والتطبيقات الذكية.
في أوائل القرن الحادي والعشرين، حققت خوارزميات التعلم العميق اختراقات كبيرة في التعرف على الصوت والتصوير البصري. وفي ظل الدعم المستمر بالتمويل والاستثمارات والمساندة الحكومية القوية، شهد الذكاء الاصطناعي في الصين تطورا سريعا. بعد عام 2011، ظهرت الكثير من الشركات الابتكارية الصينية في مجال الذكاء الاصطناعي مثل "كوانغشي (Megvii)"، و"شانغتانغ (SenseTime)"، و"هانووجي (Cambricon)"، فكان ذلك مؤشرا على دخول صناعة الذكاء الاصطناعي في الصين مرحلة النمو السريع. في ديسمبر 2017، تم اختيار "الذكاء الاصطناعي" كواحد من "العشرة مصطلحات الشائعة في وسائل الإعلام الصينية لعام 2017"، مما دل على أن الذكاء الاصطناعي أصبح معروفا على نطاق واسع من قبل المجتمع، ودخول تطوير الذكاء الاصطناعي في الصين إلى مرحلة جديدة.
خصائص تطور الذكاء الاصطناعي في الصين
على الرغم من أن تطوير الذكاء الاصطناعي بدأ متأخرا في الصين، فإنه بفضل توجيهات وسياسات الحكومة الصينية، يتسم تطوير الذكاء الاصطناعي في الصين بالتوسع المستمر في الحجم، وزيادة قدرات الابتكار التكنولوجي، وسرعة التقدم في بناء البنية التحتية.
أولا: سوق كبيرة وتنمية سريعة
أثناء معرض الذكاء العالمي 2024 الذي استضافته مدينة تيانجين الصينية، تم إصدار تقرير ((تطور صناعة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي للجيل الجديد في الصين (عام 2024)))، الذي يشير إلى أن الصين قد أنشأت نظاما تكنولوجيا للذكاء الاصطناعي يعتمد على الابتكار الذاتي، وأن بيئة الابتكار في الصناعة تقترب من الاكتمال. حتى يونيو 2023، بلغ حجم صناعة الذكاء الاصطناعي الأساسية في الصين 4ر578 مليار يوان (الدولار الأمريكي يساوي 7 يوانات تقريبا حاليا)، حتى الربع الثالث من عام 2023، بلغ عدد شركات الذكاء الاصطناعي في العالم 29542، منها 9914 شركة في الولايات المتحدة الأمريكية و4469 في الصين
وفقا لتقرير ((مؤشر الذكاء الاصطناعي لعام 2022)) الذي أصدرته جامعة ستانفورد الأمريكية، بلغ إجمالي الاستثمار الخاص في مجال الذكاء الاصطناعي في الصين 9ر61 مليار دولار أمريكي في الفترة من عام 2013 إلى عام 2021، ووصل حجم الاستثمارات الجديدة في عام 2021 إلى 21ر17 مليار دولار أمريكي، وبذلك تحتل الصين المرتبة الثانية عالميا في هذا الصدد.
تحتل تقنيات الذكاء الاصطناعي الصينية مواقع متقدمة عالميا، في مجالات مثل الطب والتعليم والتمويل والتصنيع الذكي والنقل. حاليا، تنافس تقنيات التعرف على الوجه التي تقدمها شركة شانغتانغ (SenseTime) الصينية تقنيات شركة Clearview AI الأمريكية، وأصبحت منصة أبولو غو روبوتاكسي التابعة لمحرك البحث الصيني بايدو واحدة من أكثر منصات القيادة الذاتية تنافسية على مستوى العالم، مما يوفر إمكانيات سوقية ضخمة لمزيد من تطوير صناعة الذكاء الاصطناعي في الصين.
ثانيا: تعاظم قدرات الابتكار التكنولوجي
في المنتدى الرئيسي للجهة العلمية في مؤتمر الذكاء الاصطناعي العالمي لعام 2024، أصدر معهد المعلومات العلمية والتقنية الصيني بالتعاون مع جامعة بكين، تقرير ((مؤشر الابتكار في الذكاء الاصطناعي العالمي لعام 2023)). يركز التقرير على خمسة أبعاد: الدعم الأساسي، الموارد والبيئة، البحث العلمي، الصناعة والتطبيق، والتعاون الدولي، ويصنف الدول إلى أربع فئات. حافظت الولايات المتحدة الأمريكية والصين على موقعيهما في الفئة الأولى. وحسب التقرير، زاد عدد الأبحاث العلمية العالية الجودة في الصين بشكل ملحوظ، حيث تجاوز عدد الأوراق البحثية في المؤتمرات والمجلات المرموقة نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية، واحتل المرتبة الأولى عالميا، واحتلت مشروعات الصين للذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر ذات التأثير الكبير المرتبة الثالثة عالميا، بعد الولايات المتحدة الأمريكية والهند.
ثالثا: تقدم سريع في إنشاء البنى التحتية مثل الحوسبة والرقائق
حتى نهاية عام 2022، بلغ إجمالي حجم الحوسبة في الصين 180 فلوب (180 EFLOPS)، واحتل المرتبة الثانية عالميا. من هذا الحجم، بلغ حجم الحوسبة العامة 137 فلوب (137 EFLOPS)، والحوسبة الذكية 41 فلوب (41 EFLOPS)، وحوسبة الحواسيب الفائقة 2 فلوب (2EFLOPS). تشهد الحوسبة الذكية في الصين نموا سريعا، حيث زاد حجم الحوسبة الذكية بنسبة 4ر41% في سنة 2022 مقارنة بالعام السابق، ما يمثل 8ر22% من إجمالي حجم الحوسبة الذكية عالميا، متجاوزا بذلك معدل النمو العالمي للحوسبة الذكية 7ر25%.
في مجال الرقائق، أتقنت الصين التقنيات الرئيسية لتطوير الرقائق الذكية (AI) ورقائق وحدة معالجة الرسوم (GPU) بشكل ذاتي. أصبحت تقنيات المعالجة من شركة لونغشين (Longxin) لمعدات الليزر الذكية، ومعالج الذكاء الاصطناعي أسيند (Ascend)، وسلسلة رقائق كيرين (Kirin) لشركة هواوي، وكذلك تقنيات تنسنت (Tencent) المتقدمة مثل رقائق تسيشياو (Zixiao)، وتسانغهاي (Canghai)، وشيوانلينغ (Xuanling)، تُستخدم على نطاق واسع في مراكز البيانات، والحوسبة السحابية، والهواتف الذكية، والقيادة الذاتية.
نقاط الضعف في الذكاء الاصطناعي في الصين
تعتبر الحاسوبية جوهر المنافسة في الذكاء الاصطناعي وتعتمد على الرقائق. في تصنيع رقائق الحوسبة، تواجه الصين تحديات كبيرة. رغم أن الصين تملك تقنيات تصنيع مستقلة بشكل كامل للرقائق بتقنية 90 نانومتر وما فوق، لا يزال تصنيع الرقائق بتقنية أقل من 28 نانومتر يعتمد على معدات الطباعة الحجرية المستوردة. في السنوات الأخيرة، حظرت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها بيع الرقائق العالية الأداء مثل A100 وH100 وB200 ومعدات الطباعة الحجرية المتقدمة إلى الصين، مما أعاق إلى حد ما التطور السريع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في الصين.
في مجال الخوارزميات الخاصة، حققت شركات الصين بعض الاختراقات مثل iFlytek وBaidu وTmall Genie، التي تمتلك قدرات بحث في الخوارزميات الجوهرية. ولكن بشكل عام، تعتمد معظم شركات الذكاء الاصطناعي الصينية على الخوارزميات والبرمجيات المفتوحة المصدر الأجنبية. وفقا لتقرير ((مؤشر الذكاء الاصطناعي لعام 2021)) الصادر عن جامعة ستانفورد الأمريكية، فإن البرمجيات المفتوحة المصدر الأكثر شعبية في العالم في مجال الذكاء الاصطناعي مثل TensorFlow و Kerasو PyTorchو YOLOتم تطويرها في الولايات المتحدة الأمريكية، بينما يبلغ عدد الشركات المطورة لإطار العمل في الصين، مثل"Baidu PaddlePaddle" واحدا على عشرة فقط من الشركات الأجنبية المطورة لإطار العمل.
في مجال الأوراق الأكاديمية في المؤتمرات المرموقة، تحتل الولايات المتحدة الأمريكية الصدارة بنسبة 1ر40%، بينما تبلغ نسبة الصين 8ر11%. وفيما يخص تأثير البراءات، هناك فجوة كبيرة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية. وفقا للتقارير، فإن معظم البراءات الصينية تُنشر داخل الصين فقط، بينما ينشر 19% منها في دول أخرى، مقابل 53% للولايات المتحدة الأمريكية و88% للمملكة المتحدة.
تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الصين
إن الصين معروفة ببراعتها في تبني التكنولوجيا الجديدة، حيث تقوم بحل التحديات الأكثر إلحاحا من خلال نمط التسويق السريع. يشهد تطبيق الذكاء الاصطناعي في مختلف الصناعات بالصين تعمقا مستمرا، وتزداد سيناريوهات التطبيق تنوعا واتساعا. ويظل قطاع الإنترنت هو الصناعة الأكثر تحقيقا للاختراقات والأعلى استثمارا في تطبيقات الذكاء الاصطناعي. حاليا، تتضمن سيناريوهات تطبيق الذكاء الاصطناعي الأكثر شيوعا ما يلي:
أولا: السيارات الذاتية القيادة
يعد مجال السيارات الذاتية القيادة من أكثر المجالات سخونة في الذكاء الاصطناعي. خلال السنوات الأربع الماضية، أصدرت عدة حكومات محلية في الصين سياسات لدعم السيارات الذاتية القيادة. على سبيل المثال، فتحت شانغهاي مناطق تجريبية لاختبار السيارات الذاتية القيادة، وأكملت بكين في سبتمبر 2020 بناء أول منطقة تجريبية عالية المستوى للقيادة الذاتية في الصين. حاليا، دخلت العديد من المدن الصينية مرحلة التشغيل التجاري للسيارات الذاتية القيادة، مثل منصة أبولو للقيادة الذاتية من شركة بايدو، والتي تقدم خدمات النقل الذاتي للقيادة في ووهان وتشونغتشينغ وبكين وشنتشن، حيث وفرت أكثر من ستة ملايين رحلة حتى التاسع عشر من إبريل 2024.
ثانيا: الذكاء الاصطناعي التوليدي والنماذج الكبيرة العامة
في الثلاثين من نوفمبر 2022، أطلقت شركة أوبن أيه آي (OpenAI) روبوت الدردشة الذكي تشات جي.بي.تي (ChatGPT)، مما أحدث ثورة في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية الكبيرة. في عام 2023، انخرطت شركات تكنولوجيا كبرى مثل بايدو وهواوي وتنسنت وآي فلايتك (iFlytek)، بالإضافة إلى مؤسسات بحثية مثل جامعة تشينغهوا وجامعة فودان والأكاديمية الصينية للعلوم، في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة. حتى السادس عشر من مايو 2024، تم تسجيل حوالي 140 نموذجا كبيرا لتقديم خدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وتم إصدار 79 نموذجا بحجم يزيد عن مليار بارامتر. من بين النماذج البارزة نجد شينغهوه (Xinghuo) من آي فلايتك، فوشي (Fuxi) من نت إيز (NetEase)، ونشين إييان (Wenxin Yiyan) من بايدو. بلغت نسبة تبني الشركات الصينية لتقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي 15%، ويقدر حجم السوق بحوالي 4ر14 تريليون يوان.
ثالثا: تسويق الروبوتات البشرية
في عام 2023، دخلت صناعة الروبوتات البشرية في الصين فترة الازدهار، حيث نما حجم الصناعة إلى 91ر3 مليارات يوان، بزيادة بلغت نسبتها 7ر85% عن العام السابق؛ في مارس 2024، تعاونت شركة هواوي كلاود مع شركة لهجيوي لتكنولوجيا الروبوتات (Leju Robotics) في شنتشن لتطوير وتصنيع الروبوت كوافو (Kua Fu). وفي إبريل، أطلق مركز ابتكار الروبوتات البشرية في بكين منصة الروبوتات البشرية العامة تيانقونغ (Tiangong)، والتي يمكنها التنقل بثبات على المنحدرات والسلالم والتعامل بمرونة مع العوائق والمطبات، وحتى الركض بثبات بسرعة 6 كم/ساعة. تزداد سخونة صناعة الروبوتات البشرية، ومن المتوقع أن تصبح سوقا قيمتها تريليون يوان.
الاتجاهات المستقبلية لتطور الذكاء الاصطناعي في الصين
ثمة ثلاثة اتجاهات للتطور المستقبلي لتكنولوجيا وصناعة الذكاء الاصطناعي في الصين:
الأول: تسارع الابتكار في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بفضل الاختراقات في النماذج الكبيرة، مما يزيد من سرعة البحث والتطوير في معالجة اللغة الطبيعية، والنماذج المتعددة الأنماط، والذكاء الاصطناعي للعلوم. شهد عدد النماذج في مجال الذكاء الاصطناعي المتعدد الأنماط زيادة كبيرة، من 9 نماذج في عام 2022 إلى 35 نموذجا في عام 2023. من الجدير بالذكر أن عام 2023 شهد تعمقا متواصلا في مجال الذكاء الاصطناعي للعلوم، حيث ظهرت نماذج التعلم الآلي التي تستهدف مجالات البحث العلمي مثل الأحياء/الطب والصيدلة، علوم الأرض، الرياضيات، وعلوم المواد، مما يضخ طاقة جديدة في تطوير الذكاء الاصطناعي في الصين.
الثاني: سوف تعمل النماذج الكبيرة المتخصصة في الصناعة على تعزيز القوى المنتجة الحديثة النوعية. في عام 2023، أصدرت لجنة العلوم والتكنولوجيا في بكين عشرة نماذج كبيرة متخصصة في مجالات مختلفة مثل الكهرباء، والطب، والمدن الذكية، والبحث العلمي، مما أظهر أداء رائعا وإمكانات تطور كبيرة، وجذب اهتماما كبيرا من مختلف الصناعات. يساهم الدفع بواسطة مجالات التطبيق المختلفة في الابتكار التكنولوجي للنماذج الكبيرة، ومن المتوقع أن يشكل نمطا جديدا للصناعة ونقطة نمو اقتصادي جديدة.
الثالث: التوازن بين تطوير الذكاء الاصطناعي والسلامة. في الثامن عشر من أكتوبر 2023، أصدرت الصين "المبادرة العالمية لحوكمة الذكاء الاصطناعي"، التي تحدد بشكل منهجي مقترحات الصين بشأن حوكمة الذكاء الاصطناعي من ثلاثة جوانب، هي تنمية الذكاء الاصطناعي وأمنه وحوكمته. يجب على الدول تعزيز تبادل المعلومات والتعاون التكنولوجي في حوكمة الذكاء الاصطناعي، من أجل زيادة الأمن والموثوقية وإمكانية التحكم والعدالة في تقنيات الذكاء الاصطناعي. يمكن لحلول الحوكمة الفعالة أن توفر بيئة جيدة للتنمية والابتكار في الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته الصناعية، وكذلك التعامل بشكل مناسب مع المخاطر والمشكلات في عملية التطوير التكنولوجي.
--
هوانغ خه، باحث في معهد خفي للعلوم الفيزيائية التابع للأكاديمية الصينية للعلوم، ومدير مركز أبحاث الزراعة الذكية، وزميل باحث متميز في الأكاديمية الصينية للعلوم.