في مجرى تاريخ حضارة البشرية الطويل، يحمل التراث الثقافي غير المادي، باعتباره حاملا مهما للذاكرة الوطنية والهوية الثقافية، ثقل التاريخ وتنوع الثقافة. ومع تسارع العولمة وتقدم التحديث، يواجه العديد من التراث الثقافي غير المادي تحديات شديدة في الحماية والتوارث. ومن حسن الحظ أن التطور السريع للتكنولوجيا الرقمية يوفر فرصا غير مسبوقة للتراث الثقافي غير المادي في الحماية والتسجيل والنشر والترويج والابتكار والتطور.
التكنولوجيا الرقمية تساعد في حماية وتسجيل التراث الثقافي غير المادي
تعد الرقمنة الثقافية وسيلة مهمة لإحياء الثقافة التقليدية الصينية الممتازة. وفي السنوات الأخيرة، عززت الصين بقوة تطبيق وانتشار التكنولوجيا الرقمية في مجال التراث الثقافي غير المادي. منذ عام 2015، وبترتيب من وزارة الثقافة والسياحة الصينية، تم تسجيل الوارثين الممثلين للتراث الثقافي غير المادي على المستوى الوطني من خلال الوسائط المتعددة الرقمية، ويتم دفع البحث والاستخدام والتقاسم الاجتماعي لنتائج التسجيل الممتازة تدريجيا.
فتحت التكنولوجيا الرقمية طريقا جديدا للتسجيل الدقيق والحفظ الدائم للتراث الثقافي غير المادي. من خلال التصوير العالي الوضوح والمسح الضوئي الثلاثي الأبعاد والواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR) وغيرها من التقنيات، يمكن توثيق أدق تفاصيل عرض مهارات وأداء وإنتاج التراث الثقافي غير المادي وما إلى ذلك، وتحويلها إلى شكل رقمي.
منذ بداية عام 2023، وبدعم الصندوق الخاص لحماية التراث الثقافي الوطني غير المادي، استطاع لانغ جيا تسي يوي، وهو وريث من الجيل الثالث للتراث الثقافي الوطني غير المادي "تمثال العجين" في بكين، قيادة فريقه لبدء الاستكشاف الرقمي لـ"تمثال العجين". نجح في صنع نموذج ثلاثي الأبعاد لعمل العجين ((سيما قوانغ يحطم الجرة)) -وهي "قصة صينية قديمة"- الذي صنعه جده في عام 1930، حيث يبلغ طول الشخصيات في العمل 3 سنتيمترات فقط، ولكن ملامحها تكاد تكون حية، ويرتدي الطفل الذي يركض ملابس حمراء ذات خطوط واضحة، وضفيرته مرفوعة عاليا، ووجهه مذعور. قال لانغ جيا تسي يوي، إن الخصائص الفيزيائية للمواد تجعل من الصعب حفظ أعمال العجين لفترة طويلة، كما أن بعض التقنيات التقليدية مهددة بالانقراض. وأضاف: "الآن أستخدم النمذجة الثلاثية الأبعاد لحفظ الأعمال رقميا. وطالما أن البيانات موجودة، يمكن المحافظة على أعمال الفنانين القدامى إلى الأبد، ويمكن أيضا مشاركتها مع المزيد من الأشخاص."
المنصات الرقمية.. ساحة واسعة لنشر وترويج التراث الثقافي غير المادي
في عصر عولمة نشر المعلومات، أصبحت المنصات الرقمية جسرا مهما للتراث الثقافي غير المادي، لتجاوز حدود الزمان والمكان والوصول إلى جمهور أوسع. وقد ساهمت وسائل الإعلام الجديدة، مثل وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات مقاطع الفيديو القصيرة والبث المباشر عبر الإنترنت، في تعزيز نشر التراث الثقافي غير المادي بشكل كبير بفضل عتبتها المنخفضة وتفاعليتها العالية. وفي الوقت نفسه، تتيح المعارض الرقمية والتجارب التفاعلية عبر الإنترنت وغيرها من الأشكال المبتكرة للجمهور، تجربة سحر التراث الثقافي غير المادي بشكل غامر، مما يعزز جاذبية الثقافة. من خلال المنصات الرقمية، لم يعد التراث الثقافي غير المادي يقتصر على مناطق أو مجموعات محددة، بل أصبح ثروة ثقافية يتقاسمها البشر جميعا.
تشتهر لي تسي تشي، وهي منشئة مقاطع فيديو قصيرة، بأعمالها التي تشبه "القصائد الريفية الصينية"، وحظيت باهتمام كبير للغاية وإعجابات على المنصات الرئيسية داخل الصين وخارجها. إن الحرف التقليدية التي تعرضها أمام الكاميرات، مثل تطريز شو وزهرة الحرير وصنع معجون فول الصويا وما إلى ذلك، لا تعرض المهارات التقليدية فحسب، وإنما أيضا تعبر عن فهمها واحترامها العميقين للتراث الثقافي الصيني غير المادي، ونجحت في جذب اهتمام عدد كبير من الشباب بالتراث الثقافي غير المادي.
بالإضافة إلى لي تسي تشي، يوجد مزيد من المبدعين ينشرون ويروجون إلى التراث الثقافي غير المادي. وفقا لـ((تقرير البيانات بشأن التراث الثقافي غير المادي في الصين عام 2024)) الصادر عن منصة دوين (تيك توك) للفترة من يونيو 2023 إلى مايو 2024، زادت الحصة التراكمية لمقاطع الفيديو المتعلقة بالتراث الثقافي غير المادي على المستوى الوطني على منصة دوين بنسبة 36% على أساس سنوي، كما زاد عدد مقاطع الفيديو المتعلقة بالتراث الثقافي غير المادي المهدد بالانقراض على المستوى الوطني بنسبة 33% على أساس سنوي، ويحب جيل ما بعد القرن الحادي والعشرين وما بعد ستينات القرن العشرين مشاهدة المحتوى المتعلق بالتراث الثقافي غير المادي على المستوى الوطني أكثر. وفي عام 2023، شارك 79ر13 مليون مستخدم إنترنت تجاربهم في مجال التراث الثقافي غير المادي على منصة دوين، ومن بين قائمة العشرة الأوائل للتراث الثقافي غير المادي الأعلى نموا في عدد مقاطع الفيديو المقَدمة على أساس سنوي، احتلت مروحة الطلاء المرتبة الأولى، حيث بلغ معدل زيادة عدد أعمال مقاطع الفيديو المقَدمة أكثر من 318 مرة، واحتل تزيين الشعر بالزهور المرتبة الثانية وجاءت التنورة على شكل وجه الحصان في المرتبة الثالثة. في السنوات الأخيرة، ظهر عدد كبير من الأعمال المتعلقة بالتراث الثقافي غير المادي على منصات التواصل الاجتماعي، بفضل تعبيراتها المباشرة والممتعة، وقد تلقت ملايين من المشاهدات أو الإعجابات، وأثارت نقاشات ومحاكيات واسعة النطاق بين مستخدمي الإنترنت، مما دفع التراث الثقافي غير المادي إلى الجمهور. من خلال نشره، يكتسب التراث الثقافي التقليدي غير المادي حيوية جديدة.
الرقمنة تعزز ابتكار وتطور التراث الثقافي غير المادي
لا توفر الرقمنة أدوات جديدة لحماية ونشر التراث الثقافي غير المادي فحسب، وإنما أيضا تضخ حيوية جديدة في تطويره المبتكر. توفر التكنولوجيا الرقمية إمكانية دمج التراث الثقافي غير المادي مع التصميمات الحديثة والتكنولوجيا الجديدة، إن هذا النوع من الابتكار لا يحافظ على الجوهر الثقافي للتراث الثقافي غير المادي فحسب، وإنما أيضا يمنحه خصائص العصر الجديدة، مما يعزز التنمية المستدامة لصناعة التراث الثقافي غير المادي.
إن عرض التراث الثقافي غير المادي ونشره من خلال التكنولوجيا الرقمية، يمنح الفن التقليدي نشاطا جديدا. تعتبر لعبة "الأسطورة السوداء.. وو كونغ" نموذجا ناجحا؛ وقبل ذلك، تعاونت ياو جيان بينغ، وريثة تطريز سو، مع لعبتي "ملك المجد" (King of Glory) و"هونكاي إمباكت 3" (Honkai Impact 3) على التوالي، مستخدمة تطريز سو لصنع أزياء شخصيات اللعبتين، وحصدت ملايين المشاهدات. في المنتدى الرقمي الثالث للتراث الثقافي غير المادي، قال يه جينغ، رئيس جمعية حماية التراث الثقافي غير المادي بمقاطعة تشجيانغ، إن "التراث الثقافي غير المادي+ الرسوم المتحركة" لا يحتفظ بالجوهر الثقافي للتراث الثقافي غير المادي فقط، وإنما أيضا يلبي الاحتياجات الجمالية والترفيهية للأشخاص المعاصرين بشكل أفضل، ويعزز تكامل التراث الثقافي غير المادي والصناعات الثقافية الحديثة، ويجلب منظورا جديدا ونموذج القيمة للتراث الثقافي غير المادي.
وقال سونغ يانغ يانغ، نائب مدير معهد أبحاث تكنولوجيا الصناعة الإبداعية بجامعة رنمين الصينية، إن التراث الثقافي غير المادي لا ينبغي أن يكون جزءا من التراث فحسب، وإنما أيضا أن يكون جزءا من الحياة. ولا بد من دمج التنمية المستدامة للتراث الثقافي غير المادي في الحياة الحديثة. لقد انتقلت المرحلة الحالية من التطور الثقافي من الدائرة الثقافية إلى الدائرة الاجتماعية التي تخدم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فكيفية رفع سقف التراث الثقافي غير المادي وكيفية الجمع بين التراث الثقافي غير المادي وسيناريوهات التطبيق المعنية، هي كلها متطلبات العصر المهمة للتراث الثقافي غير المادي.
بفضل التكامل العميق للتكنولوجيا الرقمية، لا يمكن تسجيل التراث الثقافي غير المادي والمحافظة عليه بشكل أفضل فحسب، وإنما أيضا يمكن أن يظهر تحولات جديدة على مسرح أوسع، ويربط الماضي بالمستقبل والتقاليد بالحداثة. وفي هذه العملية، يجب الاستكشاف والممارسة بشجاعة على أساس الاعتزاز بالقيمة الثقافية للتراث الثقافي غير المادي، حتى يتمكن التراث الثقافي غير المادي من ركوب الموجة الرقمية ومواصلة كتابة فصل جديد من الحضارة الإنسانية.