مجتمع < الرئيسية

مشروعات المياه في الصين القديمة

: مشاركة
2025-09-15 11:46:00 الصين اليوم:Source قوه هوان ياو:Author

يبدأ تاريخ الحضارات الإنسانية غالبا بأساطير الطوفان؛ من الطوفان المدمر الذي وصفته ملحمة ((جلجامش)) إلى أسطورة ترويض "يوي" للفيضانات في الصين القديمة، وكلاهما يعكسان الصراع الأزلي بين الإنسان وقوى الطبيعة.

الصين شاسعة المساحة وكثيرة الأنهار. وقد احتل ترويض الفيضانات ومكافحتها وبناء السدود وشق القنوات مكانة مرموقة منذ فجر تاريخ الحضارة الصينية وعبر آلاف السنين، حيث أثرت مشروعات المياه على رفاه الشعب وكان لها دور مهم في صعود الأسرات الحاكمة وسقوطها. مع مرور الأجيال، واصل الصينيون استكشاف الطبيعة وتطويرها، وتحولوا من مجرد الهروب بعد وقوع الكوارث إلى الوقاية منها والحد من مخاطرها، وبذلك ابتكروا علوما وتقنيات متقدمة في مشروعات المياه.

ترويض الفيضانات ومكافحتها

ترويض الفيضانات ومكافحتها ممارسة قديمة أنتجت مشروعات المياه. وقد تراكمت لدى الأمة الصينية، خلال تاريخها الطويل من الصراع مع الفيضانات، خبرة واسعة في ترويض الفيضانات، وكذلك بنت مشروعات ضخمة وابتكرت أنظمة متكاملة.

في العصور القديمة، كانت الحواجز المائية وسيلة أساسية لمكافحة الفيضانات. لذلك، تمددت وتوسعت منذ نشأتها في الصين فشملت أحواض الأنهار الرئيسية في الصين، بما في ذلك النهر الأصفر ونهر اليانغتسي ونهر هوايخه ونهر تشوجيانغ. يعد الحاجز الكبير على ضفتي النهر الأصفر من أقدم وأضخم مشروعات الحواجز المائية في الصين القديمة، إذ يعود تاريخه إلى نحو أربعة آلاف سنة. تروي الأسطورة أن "قون"، والد "يوي"، شيد الحواجز على ضفتي النهر الأصفر. وفي عصر الممالك المتحاربة (475- 221 ق.م)، قامت الممالك التي تقع في منطقة الحوض الأدنى للنهر الأصفر مثل "تشي" و"تشاو" و"وي"، بإنشاء حواجز مائية على ضفتي النهر. غير أن كل مملكة كانت تعمل منفردة، فاختلفت مواصفات هذه المشروعات من مكان إلى آخر. بعد أن وحد الإمبراطور تشين شي هوانغ الصين، تم تعديل الحواجز غير المعقولة وإعادة بنائها، ثم تمت تقويتها وتوسيعها في فترة أسرة هان (206 ق.م- 220م).

تتسم الأنهار في شمالي الصين، وفي مقدمتها النهر الأصفر، بتراكم الطمي وكثرة الكوارث وتكرار تغير المجرى. وتشير المصادر التاريخية إلى أن النهر الأصفر قد فاض وانكسرت حواجزه نحو ألف وخمسمائة مرة، كما غير النهر مجراه ستا وعشرين مرة، منها ست مرات كانت ذات أثر بالغ. كلما غير النهر مجراه، اضطر الناس إلى بناء حواجز جديدة على ضفتيه.

يعد حوض النهر الأصفر مهد الحضارة الصينية، وقد بذل الصينيون القدماء جهودا جبارة وموارد ضخمة من أجل مكافحة فيضانات النهر الأصفر. يمكن القول إن حجم الحاجز الكبير على ضفتي النهر الأصفر يضاهي سور الصين العظيم.

ابتكر الصينيون القدماء نظام الترميم السنوي لمشروعات الحاجز المائي، وكان يتضمن الفحص الشامل للحواجز المائية كل عام لتحديد الأجزاء المتضررة وإصلاحها؛ واتخاذ إجراءات دقيقة لصيانة الأجزاء التي تنطوي على مخاطر خفية؛ وزيادة ارتفاع الحواجز بشكل منتظم وفق القواعد، حيث نصت لوائح أسرتي مينغ وتشينغ (1368- 1911م) على رفعها بمقدار 5 تسون (تسون وحدة قياس طول صينية) كل عام لتعويض التآكل الناتج عن الرياح والأمطار وحركة الناس والمواشي؛ وغرس الأشجار والأعشاب على ضفتي النهر لحماية الحواجز.

منذ أكثر من ألفي عام، أدرك الناس الأهمية البالغة للرصد الهيدرولوجي في الوقاية من الفيضانات ومكافحتها. تعد الأنصاب الحجرية الثلاثة، التي تم بناؤها عند منطلق مشروع دوجيانغيان خلال فترة عصر الممالك المتحاربة، أقدم مقياس لمراقبة مستوى الماء ورد ذكره في الكتب التاريخية، وهناك مقاييس مماثلة أقيمت في أنهار أخرى لاحقا. ابتداء من فترة أسرة تانغ (618- 907م)، تم تعيين مسؤولين في حوض بحيرة تايهو لمتابعة حالة المياه وإبلاغ السلطات بالفيضانات. كما أصدرت الحكومة المركزية لأسرة سونغ الشمالية (960- 1127م) قرارا يقضي بضرورة إقامة "نصب مستوى المياه" في جميع البحيرات والأنهار والقنوات وغيرها من الأماكن المخصصة لتخزين المياه أو الري أو النقل النهري في حوض بحيرة تايهو.

في العصور القديمة، استخدمت أنواع مختلفة من مقياس مستوى الماء، بما في ذلك أعمدة خشبية وأنصاب حجرية تحمل إشارة مراقبة مستوى المياه. كان لهذه المنشآت ونتائج الرصد دور بارز في توجيه الأنشطة الإنتاجية آنذاك، كما صارت سجلات الرصد هذه مراجع مهمة اليوم لدراسة فيضانات تاريخية وإجراء تنبؤات هيدرولوجية في الأمدين المتوسط والطويل.

إلى جانب الخبرات الهندسية المكتسبة من الممارسة، طور الصينيون تدريجيا مفاهيم منهجية للسيطرة على الفيضانات، بدءا من الهروب بعيدا عنها، مرورا بالحواجز وأحواض الاحتجاز، وصولا إلى التعامل مع الأسباب الجذرية. كما خلص خبراء صينيون في قطاع المياه في فترة أسرة تشينغ (1644- 1911م) إلى أن الحل الجذري للسيطرة على فيضانات النهر الأصفر يتمثل في حل مشكلة الرواسب والطمي في الحوضين الأعلى والأوسط له من خلال حفظ المياه والتربة في منطقة هضبة هوانغتو، وهي رؤية تكاد تتطابق مع سياسة الإدارة المتكاملة للأحواض الصغيرة في عصرنا الحالي.

مشروعات الري

كان لمشروعات الرى تأثير كبير فى المجتمعات الزراعية مثل الصين القديمة. وتوجد في الصين أشكال متنوعة من منشآت الري بسبب تنوع التضاريس والمناخ والتفاوت في التوزيع الجغرافي للمياه.

في فترة ما قبل عصر الربيع والخريف (قبل عام 770 ق.م)، اعتمد الناس في ري الحقول على الأمطار والجريان السطحي الطبيعي بشكل رئيسي.

مع تغير النظم الاجتماعية وتقدم القوى الإنتاجية في الفترة ما بين عصر الربيع والخريف (770- 476 ق.م) وفترة أسرة هان الغربية (206 ق.م- 24م)، حلت مشروعات جر المياه محل أساليب الري القديمة. شيد في هذه الفترة عدد كبير من المشروعات، مثل قناة تشيبوه على نهر جينشوي في مقاطعة شانشي، وقناة ينتشانغشيأر على نهر تشانغشوي في مقاطعة خبي، ومشروع دوجيانغيان على نهر مينجيانغ في مقاطعة سيتشوان، وقناة تشنغقوه على نهر جينغخه في مقاطعة شنشي. تطلبت إقامة هذه المشروعات الكبرى تخطيطا دقيقا لمآخذ المياه ومسارات القنوات، إلى جانب المهارات المتقدمة في حفر التربة والصخور والأدوات المناسبة. لذا، كانت هذه المشروعات تجسد التطور العلمي والتقني في فترة الممالك المتحاربة (475- 221 ق.م) وانتشار استخدام الأدوات الحديدية.

بني مشروع دوجيانغيان، وهو أحد أشهر مشروعات الري في الصين القديمة، في أواخر عهد الملك تشاو شيانغ، ملك مملكة تشين (325- 251 ق.م). أدى هذا المشروع إلى الحد من مخاطر الكوارث الناتجة عن الفيضانات والجفاف في حوض سيتشوان، وتوسيع مساحة الأراضي الزراعية، فأصبح حوض سيتشوان فيما بعد "أرض الخيرات". كما جسد المشروع التقنيات المتقدمة في مجالات حل مشكلة الطمي والرصد الهيدرولوجي والمواد الهندسية وبناء المنشآت المائية.

كان شمالي الصين يعاني من الحروب المتكررة من أواخر فترة أسرة هان الشرقية (25- 220م) حتى بداية فترة أسرة تانغ، بينما كان الجنوب مستقرا وآمنا نسبيا. نزحت أعداد كبيرة من السكان من الشمال إلى الجنوب، حاملين معهم تقنيات متقدمة في مشروعات المياه، مما أرسى الأساس لازدهار مشروعات مياه البحيرات في جنوبي الصين.

ظهرت في منطقة جيانغنان الواقعة بجنوب نهر اليانغتسي سلسلة من مشروعات تخزين المياه، من أبرزها مشروعات جيانهو وتشنقونغتانغ وليانهو ودونغتشيانهو. تختلف هذه المشروعات عن مشروعات جر المياه وتتطلب تقنيات أكثر تعقيدا، فهي مزودة ببوابات ومرافق تصريف الفيضانات لتنظيم تدفق المياه وضمان السلامة. تدل هذه المشروعات على تعاظم قدرة الصينيين القدماء على تنظيم الجريان الطبيعي واستغلال الموارد المائية.

منذ فترة أسرة يوان (1271- 1368م) إلى فترة أسرتي مينغ وتشينغ، وعلى مدى أكثر من ستة قرون من الزمن، شهدت المناطق النائية تطورا سريعا في مشروعات الري. ومن أبرز المشروعات في هذه الفترة، مشروع بحيرة ديانتشي في مقاطعة يوننان وقنوات "كاريز" في ولاية إيلي ومدينة توربان بمنطقة شينجيانغ ومشروع الري في دلتا نهر اللؤلؤ ومشروع نهر لياوخه في شمال شرقي الصين.

قنوات "كاريز" هي نظام الري تحت الأرض في منطقة شينجيانغ، وتعد مشروعا ضخما ومتقنا تم تصميمه ليناسب بيئة شينجيانغ الحارة والجافة، فتقلل إلى حد كبير من تبخر مياه القنوات بسبب التعرض لأشعة الشمس وتسهم بشكل كبير في معالجة مشكلات التهوية وتراكم الطمي.

في أواخر فترة أسرة تشينغ، بلغت تقنيات الري في الصين مرحلة النضج، حيث أنشئت مشروعات مياه مختلفة الأنواع في معظم المقاطعات الصينية وفي أحواض الأنهار.

مشروعات القنوات الاصطناعية

بدأ ظهور القنوات المائية الاصطناعية في الصين في فترة أسرة تشو الغربية (القرن 11- 771 ق.م)، وذلك نتيجة لتوسع حركة التجارة وتطور النقل النهري، كما شهدت تقنيات القنوات تقدما ملحوظا خلال فترة الممالك المتحاربة. بعد ذلك، عندما توحدت الصين وأصبحت تحت حكم أسرة تشين، تمددت وتوسعت القنوات المائية لتربط بين أحواض أنهار مختلفة، من أجل تلبية الاحتياجات السياسية والاقتصادية للدولة.

أنشئت قناة لينغتشيوي بمقاطعة قوانغشي في عام 214 قبل الميلاد، وتعد أقدم قناة مائية عبر الجبال في الصين. تربط القناة بين نظامي نهر اليانغتسي ونهر اللؤلؤ، ويبلغ طولها نحو 37 كيلومترا، بينما يصل عرضها إلى حوالي 10 أمتار، وتجمع بين وظائف النقل النهري والري والتحكم في الفيضانات. تم إنشاؤها في البداية من أجل النقل العسكري، فكانت ممرا عسكريا مهما في زمن الحرب وأصبحت ممرا مائيا تجاريا في أوقات السلم. رغم ما شهدته قناة لينغتشيوي من توسعات وإصلاحات عبر العصور، ما زالت منشآتها الرئيسية تحتفظ بنمطها القديم. وتمثل القناة إنجازا فريدا، حيث استخدمت فيها تقنيات مبتكرة لمعالجة مشكلة الانحدار الشديد في بعض أجزاء القناة.

ساهمت قناة لينغتشيوي مساهمة كبيرة في فتح ممر إلى منطقة لينغنان (يقصد بها مقاطعة قوانغدونغ ومقاطعة هاينان ومنطقة قوانغشي الذاتية الحكم لقومية تشوانغ) في جنوبي الصين، وفي تعزيز الحدود الجنوبية وحماية الوحدة الوطنية، كما عززت التنمية الاقتصادية المحلية والتبادل بين هذه المنطقة والسلطة المركزية.

تعد قناة بكين- هانغتشو الكبرى من أعظم مشروعات المياه في الصين القديمة، وهي أطول قناة مائية اصطناعية في تاريخ الصين وفي العالم، وتظهر التقنيات المتقدمة للصينيين القدماء في مجال شق القنوات والملاحة النهرية.

تعد القناة التي أنشئت في عصر الربيع والخريف لربط منطقتي جيانغهواي وهوانغهواي، النموذج الأولي لقناة بكين- هانغتشو الكبرى. افتتح الخط الكامل للقناة الكبرى في فترة أسرة يوان، كما أصبحت الشريان الرئيسي لإمداد العاصمة في فترة أسرتي مينغ وتشينغ. تمتد القناة من بكين شمالا إلى هانغتشو جنوبا بطول أكثر من 1700 كيلومتر، وقد أقيم على طولها عدد هائل من الأقفال المائية والسدود ومنشآت تخزين المياه والجسور. وتمثل القناة ذروة مشروعات المجاري المائية في الصين القديمة، إذ حققت إنجازات بارزة في تصميم الأقفال وبناء السدود وتنظيم الملاحة، وإدارة الموارد المائية وتوزيعها.

لعبت القناة الكبرى منذ نشأتها دورا مهما في الربط بين شمالي وجنوبي الصين. على مدى قرون من الزمن، منذ فترة أسرة يوان إلى فترة أسرة تشينغ، كانت القناة الكبرى ممرا مهما للإمدادات العسكرية والمعيشية للعاصمة بكين، وكذلك سيطرة الحكومة المركزية على الجنوب. بالإضافة إلى ذلك، أسهمت القناة الكبرى في ازدهار الاقتصاد على ضفافها، ومن هنا نشأت ثقافة "القناة الكبرى" الفريدة، التي تركت بصمات في ثقافة الطعام والعادات الاجتماعية الآداب والفنون. ترك المؤرخون والكتاب عبر العصور عددا ضخما من المؤلفات التي تناولت شؤون حفرها وإدارتها وثقافتها. واليوم، ما زالت معظم أجزاء القناة في حالة جيدة وتؤدي دورا في النقل والسياحة والإيكولوجيا.

تعد الأنهار مهد الحضارة وتحديا لها في الوقت نفسه. إن مشروعات المياه هذه، التي صمدت رغم تقلب الحضارات، ليست تراثا ماديا فحسب وإنما أيضا رموز روحية أرست أساسا متينا لازدهار الحضارة، وتجسد حيوية الأمة الصينية وإبداعها.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4