ثقافة وفن < الرئيسية

العلاقات الثقافية السعودية- الصينية

: مشاركة
2022-12-07 16:00:00 الصين اليوم:Source صالح بن حمد الصقري:Author

شهدت العلاقات السعودية- الصينية، التي بدأت في عام 1990، تطورا كبيرا من حيث النوع والمستوى، كما وكيفا. حيث مضت المملكة في علاقاتها بالصين إلى أبعد مدى وبأسرع وتيرة شاملة في جميع المجالات، معوضة عن التأخر الحاصل في العلاقات في الفترة السابقة. إن الاختبار الحقيقي لصدق العلاقة ومتانتها ظهرت بوضوح في الصين بعد حدوث الزلزال الضخم، وكانت المملكة العربية السعودية من أولى الدول التي أعلنت تضامنها المعنوي والمادي مع الصين. كان وقوف المملكة مقدرا من الجانب الصيني، ليس على المستوى الحكومي فحسب وإنما أيضا على المستوى الشعبي، مما اختصر سنين طويلة من العلاقات، وكما قيل الصديق وقت الضيق. وكان لجهود سعادة سفير المملكة آنذاك المهندس يحيى بن عبد الكريم الزيد رحمه الله ولجهود سفير الصين في المملكة آنذاك السيد يانغ هونغ لين دور كبير في هذا المجال.

لقد كانت المملكة العربية السعودية تهدف من وراء تقوية علاقتها مع جمهورية الصين الشعبية تحقيق ما يلي :

أولا: إعادة التوازن في مبدأ العلاقات الدولية، فبينما كانت البوصلة في هذا المجال متجهة غربا، أدارت المملكة البوصلة شرقا بدون الإضرار بالعلاقات في جميع الاتجاهات.

ثانيا: تقوية الشراكة الإستراتيجية للمملكة مع أقطاب القوى الكبرى العالمية وخاصة جمهورية الصين الشعبية.

ثالثا: التأكيد على دور المملكة العربية السعودية الوسطي والمتكافئ والعادل في حل النزاعات العالمية، والمساهمة بما تملكه المملكة من إرث ديني وسياسي وحضاري واقتصادي في نشر السلام، والدفع بحوار الحضارات بدلا من صراع الحضارات. وقد استمرت المملكة في تقوية هذا المجال بزيارة خادم الحرمين الملك سلمان إلى الصين، وكذلك توجت هذه العلاقات بزيارة ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان مؤسس "رؤية السعودية 2030" والتي أعلنت عن قرار تاريخي ولأول مرة وهو إدخال مادة اللغة الصينية في التعليم في المملكة، وكان ذلك تتويجا للعلاقات العلمية والحضارية والثقافية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية.

لقد شهدت هذه العلاقات الثقافية والعلمية والحضارية أول ظهور لها بشكل رسمي، حينما تم الإعلان عن إنشاء أول ملحقية ثقافية سعودية في بكين في منتصف عام 2008، وقد تم تعييني كأول ملحق ثقافي سعودي في الصين وقد باشرت عملي في 8 أغسطس 2008 وقد كانت مهامها تتلخص في أمرين هامين هما :

أولا: الإشراف على أول دفعة إلى الصين من الطلبة والطالبات المبتعثين على برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله للابتعاث الخارجي، آنذاك وكان العدد لا يتعدى 80 طالبا معظمهم في تخصص الطب. وبعد ذلك تواصلت زيادة عدد الطلبة في الصين حتى وصل خلال أربع سنوات إلى 1200 طالب وطالبة، وهي فترة عملي في الملحقية. وكانت الدراسة في جميع التخصصات الطبية والعلمية والإدارية والاقتصادية وفي جميع الدرجات العلمية، وقد تشرفت في يوليو 2012 بحضور حفل تخرج أول دفعة تخرجت في الصين تحت رعاية سعادة السفير يحيى الزيد رحمه الله، وكانت من أعظم المناسبات العلمية بالنسبة لي وقد بلغ عددهم 35 طالبا وطالبة في منطقة ووهان، ثم توالت الدفعات الأخرى في الجامعات والمقاطعات الصينية. ويمكننا أن نقف بعض الوقفات حول هذا البرنامج على النحو التالي: 

- أنه لأول مرة في تاريخ المملكة والصين يحدث هذا التبادل العلمي بهذا العدد الضخم، وتحققت ولله الحمد ولأول مرة في التاريخ المقولة التي اشتهرت منذ أكثر من 15 قرنا (اطلبوا العلم ولو في الصين). وقد كان هذا الأمر مفاجئا للجامعات الصينية التي كانت تستقبل طلبة أجانب ولكن من غير المملكة. ونظرا لحداثة التجربة، فقد كنا نقوم في السنة الأولى بدفع الرسوم الدراسية لبعض الجامعات نقدا حتى لا يفوت الطلاب التسجيل.

- أن طلابنا سريعا ما تجاوزوا عقبة اللغة الصينية، ولذلك تأثير كبير جدا في مشاركة الطلاب في المشروعات الثقافية والاجتماعية. واستطاع طلابنا ولله الحمد وبكل فخر واعتزاز الحصول على المراكز الأولى في عدد من أعرق الجامعات الصينية في بكين وشانغهاي وووهان وشاندونغ، وتيانجين وشيآن، سواء على المستوى الأكاديمي أو على المستوى الثقافي فيما يتعلق بحوار الحضارات والشعوب. وقد حصل جناح الطلاب السعوديين على المراكز الأولى في أربع جامعات أقيمت فيها الاحتفالات الطلابية وقد ساعدتهم الملحقية الثقافية بتزويدهم بما يحتاجونه من آثار وصور وغيرها وقد أبهروا الصينيين والطلاب الأجانب .

- أن الدراسة كانت باللغة الصينية، وليس هناك اختيار آخر، فأصبح الطلاب يشاركون في الترجمة من خلال وفود الزيارات العلمية أو التجارية وبعضهم أصبح رجال أعمال يستفيدون من التبادل التجاري بين البلدين الصديقين. والآن يسهم هؤلاء الطلاب الذين تخرجوا بالصين في النهضة العلمية والحضارية التي تشهدها المملكة وتحقيق رؤية 2030، وسيساهمون في بناء العلاقات السعودية- الصينية مستقبلا.

 ما كان للطلاب أن يحققوا هذه النجاحات لولا الرعاية التي وجدوها من حكومة المملكة، كما أنهم وجدوا بلدا وشعبا كريما فتح لهم ذراعيه مما جعلهم يندمجون بسرعة ويتأقلمون مع مجتمع علمي شرقي عائلي يحتضن الأجانب، وليس لديه أي ذهنية تاريخية سيئة عن العرب.

وقد كان للبروفيسور خليل لوه لين، الأستاذ في جامعة بكين للغات والثقافة، وهو أول صديق تعرفت عليه، دور مهم في هذه العلاقات العلمية بين الجامعات السعودية والصينية والتي توجت بتوقيع أكثر من 32 اتفاقية علمية، اشتملت على الطب والهندسة وتقنية النانو واللغة الصينية. وتعتبر هذه الاتفاقيات العلمية من أهم المناسبات التاريخية في العلاقات الثقافية والعلمية بين البلدين الصديقين. ولا شك أن هذا الشرف العلمي ما كان ليتم لولا توفيق من الله سبحانه وتعالى، ثم الدعم المادي والمعنوي من قبل حكومة المملكة العربية السعودية ممثلة بوزارة التعليم العالي وعلى رأسها معالي الوزير أ. د. خالد العنقري آنذاك، والتجاوب اللامحدود من قبل الجانب الصيني على المستوى الحكومي والشعبي.

وسأقوم بكتابة بحث مفصل عن هذه الزيارة العلمية الأولى إلى الصين فيما بعد، وعن النتائج التي تحققت وعن الذين ساهموا في نجاح هذه الزيارة وعن دور الجامعات والمؤسسات الثقافية السعودية في بناء العلاقات العلمية والثقافية بين البلدين الصديقين.

- إقامة معرض التعليم العالي في المملكة، وقد كلفت بترشيح في السنة الأولى 15 جامعة صينية ليحضروا في معرض التعليم العالي في المملكة ثم وصل العدد فيما بعد إلى أكثر من 35 جامعة. وتم وضع برنامج لهم للاطلاع على ما تعيشه المملكة من تطور حضاري وعلمي غير مسبوق.

- المشاركة في عدد من المؤتمرات الخاصة حول طريق الحرير وحوار الحضارات الآسيوية وغيرها من المؤتمرات العلمية في جمع أنحاء الصين.

- المشاركة مع الجامعات السعودية ووزارة الثقافة والإعلام وعدد من المراكز العلمية في المملكة في المؤتمرات والزيارات العلمية من قبل المسؤولين والعلماء والباحثين في البلدين الصديقين، ومن أبرزها مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ومركز البحوث والتواصل المعرفي، وكذلك مكتبة الملك عبد العزيز العامة. وسنتحدث بالتفصيل عن ذلك في مقالتي القادمة إن شاء الله.

لقد كانت هناك هجرة معاكسة من الصين إلى المملكة، فقد أشرفت بالعمل على إيفاد أكثر من 200 طالب وطالبة من الصين للدراسة في المملكة، وفتحت أبواب الجامعات في المملكة لهم للدراسة في جميع التخصصات.  

التعاون بين البلدين في مجال تعليم اللغة العربية في الصين، وتعليم اللغة الصينية في المملكة، حيث يوجد أكثر من خمسين قسما للغة العربية في الجامعات الصينية، أولها بدأ في عام 1945 وعدد الطلاب الصينيين الذين يتعلمون هذه اللغة أكثر من 30 ألف طالب وطالبة، وهناك زيارات متبادلة وبرامج علمية بين الجامعات والمؤسسات التعليمية بالمملكة والصين، من كتب وأساتذة. وقد شاركت في تنظيم أول برنامج زيارة لمركز الملك عبد الله الدولي لنشر اللغة العربية إلى الصين بحضور رئيس المركز أ.د. محمد الهدلق وأمين المركز د. عبد الله الوشمي.

ولكن الحدث الأبرز في هذا المجال، هو إدخال مادة اللغة العربية في المدارس الثانوية الصينية. وقد تشرفت بدعوة من قبل وزارة التعليم الصينية بافتتاح أول فصل دراسي في هذا المجال في التاريخ الصيني في ذلك. لقد قدر الصينيون على المستوى الرسمي والشعبي هذه الجهود من قبل المملكة، وما كانت لهذه العلاقات العلمية والثقافية أن تصل إلى هذا المستوى لولا الترحيب من قبل الجانب الصيني في ذلك، والانفتاح التي تشهده الصين على العالم بشكل عام وعلى المملكة بشكل خاص، بل لقد قابلت المملكة الوفاء بالوفاء بأن أصبحت الصين ضيف شرف في المملكة في مهرجان الجنادرية عام 2013. وقد كان لسفير الصين لدى السعودية السيد يانغ هونغ لين آنذاك، دور كبير في هذا التعاون بين البلدين.

كما أن الصين قابلت الوفاء بأن تكون المملكة ضيف شرف بمعرض الكتاب في بكين، وهذه المواقف الرسمية تعتبر أعظم إنجاز تحقق في آخر أيام عملي في الملحقية ولله الحمد.

لقد شرفني الصينيون بتكريمهم لي بعد انتهاء عملي، بمنحي عضوية مجلس الأمناء لمركز الثقافة العربية بجامعة بكين للغات والثقافة لمدة ثلاث سنوات، كما منحتني جامعة السياسة والقانون العمل لديها كأستاذ غير متفرغ لمدة ثلاث سنوات لتدريس مادة العلاقات الدولية كأول أستاذ عربي وسعودي في الصين، كما تم تعييني في مجلس الأمناء للمنتدى الصيني- العربي لنقل التكنولوجيا.

وختاما يمكننا القول إن عمق وقوة العلاقات الإستراتيجية بين البلدين الصديقين والنظرة المستقبلية لهذه العلاقة ما ذكرناه سابقا، حينما أعلن ولي عهد المملكة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولأول مرة بالتاريخ عن إدخال مادة اللغة الصينية في مدارس التعليم في المملكة.

إن هذه الإنجازات التي تحققت خلال الفترة الماضية، لم تكن لتتم لولا العلاقات الإستراتيجية الضخمة بين البلدين الصديقين، والتي كانت امتدادا للعلاقات الحضارية العربية- الصينية، نظرا لما لها من آثار مستقبلية وإستراتيجية على العلاقات السياسية والاقتصادية والحضارية والعلمية بين المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وجمهورية الصين الشعبية بقيادة الرئيس شي جين بينغ.

 --

الدكتور صالح بن حمد الصقري، أول ملحق ثقافي سعودي في الصين وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة الإمام سابقا.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4