ثقافة وفن < الرئيسية

الحوار الحضاري بين الصين والدول العربية

بمناسبة الذكرى السنوية العشرين لتأسيس منتدى التعاون الصيني- العربي

: مشاركة
2024-05-31 14:02:00 الصين اليوم:Source د. فـؤاد الغـزيزر:Author

تتشابه الصين مع العالم العربي بانتماء كل منهما إلى أمة ذات حضارة تاريخية موغلة في القدم، وهي حضارات نهرية قامت على الاقتصاد الزراعي بالدرجة الأولى. فقد بنيت الحضارة العربية، على ضفاف نهر النيل ونهري دجلة والفرات، وبنيت الحضارة الصينية على ضفاف نهر اليانغتسي والنهر الأصفر. كذلك تضم الصين والعالم العربي مساحات واسعة من الصحاري وما يرتبط بها من واحات، واقتصاد رعوي. والإسلام الذي دخل الصين في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، جذب عددا من الصينيين إلى اعتناقه، بفضل العرب والفرس الذين قدموا إلى الصين للعمل في المجال التجاري. ورغم أن الحضارتين الصينية والعربية لكل منهما منظومة وخصائص مميزة، تشمل كلتاهما المفاهيم والتطلعات المشتركة التي تتراكم في عملية تقدم البشرية، وتهتمان بالقيم مثل الوسطية والاعتدال والإخلاص والتسامح والانضباط الذاتي، وتسعيان إلى الحوار بين الحضارات، وتدعوان إلى التسامح والاستفادة المتبادلة. كانت الحضارتان الصينية والعربية تتفاعلان وتتبادلان في التاريخ، مما خلق قصة رائعة حول تحقيق الإنجازات المشتركة والشمول والاستفادة المتبادلة.

الحوار الحضاري والثقافي بين الصين والدول العربية يعد في الظروف التي يشهدها العالم اليوم، ضرورة عصرية وحاجة بشرية إنسانية، ووسيلة لتحقيق المنفعة المشتركة، بعيدا عن سياسة الربح والسيطرة والهيمنة والأفضلية والأحقية والأطماع الخاصة على حساب العامة.

أولا: أهمية منتدى التعاون العربي- الصيني في تعزيز الحوار بين الحضارتين

يعد منتدى التعاون العربي- الصيني الذي تم تأسيسه سنة 2004 من أهم المحطات في التاريخ المعاصر للعلاقات العربية- الصينية. وهو إطار فعال لتعزيز الحوار بين الجانبين والتعاون في مختلف المجالات والانتقال بهذا التعاون إلى مرحلة الشراكة الجديدة المبنية على المساواة والمنفعة المتبادلة، بما يخدم المصلحة المشتركة للشعبين الصيني والعربي. وشهدت العلاقات الثنائية تطورا سلميا خلال الأعوام العشرين الماضية، حيث شهدت العلاقات تقدما وتطورا من خلال العديد من الآليات المقامة في مجالات السياسة، والاقتصاد والتجارة، والثقافة، وذلك بفضل اهتمام الصين والدول العربية البالغ بالتعاون بينهما.

لقد أسهم المنتدى منذ تأسيسه في الحوار بين الحضارتين الصينية والعربية، في تكريس روح المساواة والتسامح والاحترام المتبادل عند التعامل مع خصوصيات مختلف الحضارات وتدعيم التفاهم والتلاقي بين الحضارات المختلفة، لتحقيق التنمية المشتركة للعلاقات الصينية- العربية والحوار بين الحضارتين. ويُمثّل المنتدى متطلبا جديدا جاء نتيجة طبيعية للتطور المستقر للثقة السياسية المتبادلة والنضوج المتزايد للتعاون العملي بين الجانبين، كما يُعدُ خطوة جديدة اتخذت من قِبل الجانبين، لمواكبة تيارات العولمة والالتحاق بمسيرة التعاون الإقليمي.

لقد مرت عشرون سنة على تأسيس المنتدى وهي مليئة بالجهود والمنجزات، فتم في إطار المنتدى إقامة آليات تعاون ساهمت في الحوار بين الحضارتين الصينية والعربية، على أساس المنفعة المتبادلة، وبالتالي جعل المنتدى علامة مهمة ترشّد العلاقات الصينية- العربية. فأصبح المنتدى جسرا للتواصل والاتصال بين المجتمعين العربي والصيني تعبر عليه الثقافات ويتم من خلاله تبادل الحوار لتحقيق المصالح المشتركة.

شهد التعاون الصيني- العربي تطورا سريعا خلال السنوات الأخيرة في ظل الأوضاع الدولية المتغيرة، ويظل عقد ندوة الحوار بين الحضارتين العربية والصينية معلما بارزا في مسيرة منتدى التعاون العربي- الصيني وقد تمت إقامة تسع دورات إلى الآن، حيث يتم تبادل الآراء بصورة معمقة حول تطوير العلاقات الثقافية الصينية- العربية، وتفعيل دور الحضارتين الصينية والعربية في مواجهة تحديات العولمة وتعزيز التفاهم بينهما، وتقديم مقترحات حول سبل تعزيز التعاون الصيني- العربي في مجالات الثقافة والتعليم والإعلام والترجمة والنشر.

بالإضافة إلى التوصل إلى أهمية تعزيز الحوار والتبادل الحضاري بين الجانبين وتكريس روح الشمول والتفاهم والوئام والتعايش بين مختلف الحضارات بالموازاة مع تعميق الصداقة الصينية- العربية وإثراء مقومات علاقات التعاون الإستراتيجي الصينية- العربية على خلفية التعقيدات والتقلبات الدولية والإقليمية.

إن مواصلة تعميق مفاهيم السلام والتسامح والتفاهم والحوار بين الحضارات المختلفة في المرحلة الجديدة تساهم في تعزيز التواصل والاستفادة المتبادلة بين الصين والدول العربية وبين شعوب الجانبين، كما تساعد الجانبين على التكاتف للمحافظة على التعددية الثقافية في العالم، وتساهم في تعزيز وتعميق علاقات التعاون الإستراتيجي الصينية- العربية القائمة على التعاون الشامل والتنمية المشتركة من خلال احترام الخصوصيات الثقافية والحضارية للشعوب المختلفة، والعمل على حماية تعددية الحضارات الإنسانية، والدعوة إلى الحوار والتواصل بين الحضارات من أجل خلق بيئة دولية يسودها التعاون والوئام بما يساهم في تحقيق السلام والتنمية للبشرية بأسرها.

استمر التواصل بين الصين والمنطقة العربية منذ آلاف السنين، عبر طريق الحرير القديم الذي يجسد فكرة طموحة لربط الحاضر والمستقبل بالماضي، والذي عزز التواصل بين الحضارتين العربية والصينية وفق مبادئ العيش المشترك والتعاون المثمر واحترام الخصوصيات الثقافية للشعوب والأمم. لذلك، تؤكد الصين على أن تعزيز الحوار والتعاون بين الجانبين والارتقاء بالمستوى العام للعلاقات الصينية- العربية في ظل الأوضاع الجديدة، أمر يتفق مع المصالح المشتركة للشعبين الصيني والعربي، ويخدم السلام والتنمية في العالم. لذلك، يجب مواصلة الجهود لتعميق الحوار الحضاري، والالتزام بالتواصل على قدم المساواة، وتعزيز الفهم المتبادل بين الثقافتين العربية والصينية.

ثانيا: أهمية اللغة في التواصل الحضاري بين الشعبين

يرجع تاريخ التبادل والاتصال بين الأمة الصينية والأمة العربية إلى زمن بعيد. وتلعب اللغة أهمية بالغة في مد جسور التواصل بين الناس في مختلف بقاع العالم، وتحقيق التفاهم الإنساني. وخلال عشرين سنة مضت شهد التواصل الإنساني والثقافي الصيني- العربي تنوعا وتعددا، في ظل الاهتمام بالعولمة والتنوع الثقافي. حيث أصبحت اللغة جسرا تعبر من خلاله الثقافات إلى المجتمعات الأخرى دون جواز سفر، حيث تلعب دورا كبيرا في خلق الحوار وتضييق الفجوة بين مختلف الحضارات والثقافات. لذلك، يحرص الجانبان على تعزيز تعليم اللغة العربية في الصين وتعليم اللغة الصينية في الدول العربية.

وقد دخلت اللغة العربية إلى الصين مع وصول المسلمين العرب إليها وانتشرت مع انتشار الإسلام فيها، حيث تم تعليم اللغة العربية في المساجد بداية ثم المدارس لاحقا. وفي العصر الحالي، تم فتح التخصصات المتعلقة باللغة العربية في أكثر من عشرين جامعة صينية. فاللغة العربية أفضل وسيلة للتقريب بين الشعبين، ولعبت دورا مهما في مد جسور التواصل الهادف والبناء والفعال الذي يراعي خصوصيات كل طرف ويحقق المصلحة العامة للحضارتين. وتهتم جمهورية الصين الشعبية منذ تأسيسها في عام 1949، بالعلاقات الصينية- العربية، حيث تم إنشاء أقسام للغة العربية في العديد من الجامعات، وإيفاد عدد من الطلبة لدراسة اللغة العربية والثقافة العربية، ولذا فتح تعليم اللغة العربية في الصين صفحة جديدة بين الحضارتين. من هنا تبرز الأهمية البالغة لمشروع التواصل الحضاري والثقافي. وبعد تنفيذ سياسة الإصلاح والانفتاح في الصين، حققت الجامعات الصينية طفرة جديدة في تعليم اللغة العربية، بمساعدة الدول العربية التي ترسل عددا كبيرا من الخبراء والعلماء والمدرسين لإلقاء المحاضرات والدورات التدريبية لإعداد الأكفاء في اللغة العربية. وإلى جانب ذلك توفد حكومة الصين باستمرار الطلبة الصينيين إلى الدول العربية، بالإضافة إلى توقيع اتفاقيات الشراكة والتبادل الثقافي والأكاديمي مع عدد كبير من الجامعات العربية، وعلى أساسها يتم تبادل الزيارات وإلقاء المحاضرات، مما ساهم في التعرف على التاريخ والأدب العربي والثقافة والدين والسياسة والاقتصاد والتجارة العربية.

من جانب آخر، وتثمينا لمكانة الفيلسوف والحكيم الصيني كونفوشيوس (551- 479 ق.م)، قامت جمهورية الصين الشعبية بتأسيس معاهد كونفوشيوس في العديد من دول العالم لغرض تعليم اللغة والثقافة الصينية، وهي عبارة عن مؤسسات تعليمية غير ربحية تتأسس بتعاون صيني- أجنبي، وتتركز مهامها في التأقلم مع احتياجات شعوب كافة دول العالم في تعلم اللغة الصينية والثقافة الصينية، وتوطيد علاقات التعاون والتبادل الثقافي والتعليمي، وتنمية علاقات الصداقة بين الصين والدول الأجنبية، وبناء عالم يسوده الحب والوئام.

انتشرت فروع هذه المؤسسة التعليمية للغة الصينية في القارات الخمس في العالم، منها في الدول العربية مثل مصر ولبنان والأردن والمغرب وغيرها. وتزامنا مع تكثيف التبادل الثقافي والحضاري بين الجانبين، أصبح تعلم اللغة الصينية يحظى باهتمام عربي متزايد، حيث نجد إقبالا كبيرا من قبل الطلاب العرب على تعلم هذه اللغة، مما يفتح آفاقا من فرص التجارة والمال والنجاح باعتبارها لغة المستقبل، ونظرا لاتساع نفوذ الصين وصعودها خلال السنوات الماضية بوصفها قوة اقتصادية بارزة على الساحة الدولية.

لقد سجل التاريخ صفحات ناصعة في سجلات العلاقات الصينية- العربية توحي بمستقبل واعد للتعاون في مختلف المجالات بفضل الحوار الحضاري بين الأمتين العربية والصينية، والذي مازالت أبعاده تشع حتى عصرنا الحالي، وشاهدة على عمق الترابط والتواصل الذي جمع بين الجانبين.

ينبغي مواصلة بذل الجهود لتعزيز بناء آليات منتدى التعاون الصيني- العربي، وتقديم الدعم وإيلاء اهتمام للدور الريادي الذي يلعبه المنتدى في تعزيز الحوار بين الحضارتين الصينية والعربية وتعميق التعاون الجماعي بين الجانبين.

--

د. فـؤاد الغـزيزر، أستاذ محاضر بكلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية، جامعة الحسن الأول- سطات- المملكة المغربية.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4