في أواخر أسرة مينغ (1368- 1644م) وأوائل أسرة تشينغ (1644- 1911م)، كتب الباحث الصيني المعروف قو يان وو (1613- 1682م) في مؤلفه الذي يحمل عنوان "ريتشيلو (سجلات الدراسة اليومية)": "صعود وسقوط الأمة يقع على عاتق كل فرد من مواطنيها." وفي القرون التالية، انتشرت تلك الفكرة وأصبحت جزءا لا يتجزأ من الثقافة الصينية، فقد لخصت الروح الوطنية الصينية، وبينت الرسوخ الأخلاقي للشعب الصيني في مقاومة أي غزو أجنبي. واليوم، ما زالت هذه الفكرة تلهم الشعب الصيني للعمل من أجل تعزيز قوة بلاده والمساهمة في ازدهارها.
هذه الفكرة لها تاريخ طويل وعميق الجذور في الأدب الصيني القديم. فقد جاء في بيت شعر في ((كتاب الأغاني))، وهو أقدم مجموعة شعرية صينية ويعود تاريخها إلى القرن الحادي عشر والسادس قبل الميلاد: "لا تخف من الحاجة إلى درع، لأن درعي هو أيضًا ملك لك لترتديه." وعلى مر التاريخ، ظلت فكرة أن "صعود وسقوط الأمة يقع على عاتق كل فرد من مواطنيها" تتجسد في الممارسات السياسية، ويطرحها المفكرون من جيل لآخر، وتكتسب عمقا أكبر بمرور الزمن.
يعتز الصينيون بكل من الأسرة والأمة، وكلاهما كل لا ينفصم. وعلى مدى آلاف السنين الماضية، تركت العديد من الأسرات الصينية حكما وأمثالا مفيدة للأجيال اللاحقة، فتشكلت فلسفة تحكم الحياة الأسرية. عندما يقوم جميع الأفراد بواجباتهم، ويحبون ويحترمون ويدعمون بعضهم البعض، تعيش الأسرة في سلام ووئام. الأسرة هي خلية الوطن، الذي يتكون من ملايين الأسر التي تتشاطر جميعها السراء والضراء. ولهذا السبب، فإن الكلمة الصينية التي تعني الدولة (قوهجيا) مكونة من رمزي الكتابة "قوه )البلد)" و"جيا (الأسرة)".
قال الحكيم الصيني منشيوس: "الدول هي أساس العالم؛ الأسرة هي أساس الدولة. والأفراد هم أساس عائلاتهم". مصير جميع الأفراد متشابك مع مصير وطنهم. ولهذا السبب، فإنه خلال العصر الحديث، غالبا ما يضع الصينيون أوجه تشابه بين الوطن والأمومة.
في الصين القديمة، كان من المبادئ الأساسية للحكم أن يقوم الحاكم ورعاياه، بمسؤولياتهم الأخلاقية. وقد أكد الحكيم الصيني كونفوشيوس على ضرورة أن يحترم الحاكم شعبه، وأن يكون الشعب مخلصا للحاكم. العلاقة الصحية بين الحاكم والشعب هي وحدها التي تؤدي إلى السلام والازدهار في البلاد. في أوقات الأزمات، كان الناس من جميع مناحي الحياة، بما في ذلك التجار، الذين كانوا يعتبرون في العصور القديمة من أدنى الفئات الاجتماعية، يتقدمون للمساهمة في إنقاذ بلادهم. جاء في كتاب بعنوان ((تسوه تشوان)) للمؤرخ العظيم تسو تشيو مينغ (502- 422 ق.م)، أنه في عام 637 قبل الميلاد، انطلق جيش من مملكة تشين بقيادة الجنرال منغ مينغ، نحو مملكة تشنغ، لشن هجوم مباغت بمساعدة جواسيس متمركزين هناك. وعند دخول مملكة هوا المجاورة لمملكة تشنغ، جاء شيان قاو، وهو تاجر ماشية من مملكة تشنغ، واعترض الجيش. ولكسب الوقت من أجل إرسال رسالة تحذير إلى مملكته الأم، تنكر شيان قاو في هيئة مبعوث من ملك مملكة تشنغ، وتوجه إلى قائد جيش مملكة تشين، وقدم أربعة جلود بقر و12 ثورا كهدايا. وقال للجنرال: "عند سمع ملك مملكتنا أنك ستمر بمملكتنا، أرسلني لأقدم لك هذه الهدايا ورسالة. على الرغم من أننا مملكة صغيرة ذات إمكانيات متواضعة، فإننا سنزود جيشك بالطعام والإمدادات الأخرى طوال فترة إقامتك عندنا. إذا ستمضي ليلة واحدة فقط هنا، فسنوفر لك الأمن أثناء الليل." هذا الكلام جعل منغ مينغ يظن أن مملكة تشنغ على أتمّ الاستعداد، ومن ثم أصدر أوامره بإلغاء الهجوم، فعاد الجيش إلى مملكة تشين، بعد أن ضم مملكة هوا.
هذا التصرف من شيان قاو منح مملكته، مملكة تشنغ، الوقت الكافي للقضاء على جواسيس تشين، واتخاذ الاستعدادات للدفاع. وعندما عرض عليه ملك مملكته مكافأة، رفض شيان قاو قائلا: "من الطبيعي تماما أن يكون التاجر مخلصا لمملكته. إذا كافأتني سموك على هذا العمل، ألا يعني أنك تعاملني كأجنبي؟"
هذا الشعور بالمسؤولية تجاه الأمة، ظل يسري عميقا في دماء الشعب الصيني. في وقت مبكر من زمن الإمبراطورين الأسطوريين يان وهوانغ، كان سكان "هواشيا"، وهم سكان السهول الوسطى الأوائل الذين تطوروا لاحقا إلى قومية هان، قاتلوا ككيان واحد عندما قامت قبائل أخرى بغزو أراضيهم. وفي أواخر فترة أسرة سونغ (960- 1279م) وأواخر فترة أسرة مينغ (1368- 1644م)، تعرض الحكم الإمبراطوري للسهول الوسطى، لتهديد من جيرانهم البدو. وهناك العديد من الأبطال الوطنيين، مثل يويه فيّ (1103-1142م)، وون تيان شيانغ (1236- 1283م)، وقو يان وو (1613- 1682م)، تقدموا إلى خطوط المواجهة لمقاومة العدو، حتى أن العديد منهم قدم أقصى التضحيات من أجل وطنهم.
وفي العصر الحديث، وقفت الأمة الصينية موحّدة في مواجهة الاعتداءات الأجنبية، وقام كل رجل وامرأة من أبناء الأمة الصينية الأبرار، بواجباتهم، ونفذوا أدوارهم في المقاومة.
في القرن التاسع عشر، عملت الإمبراطورية البريطانية على فتح أبواب الصين بالقوة، من خلال تجارة الأفيون. وقام إمبراطور أسرة تشينغ آنذاك، بإرسال لين تسه شيوي (1785- 1850م) إلى مقاطعة قوانغدونغ الساحلية لمنع تدفق ذلك العقار المخدر المدمر إلى الصين. وهناك، قال للمسؤولين المحليين: "لن أعود قبل القضاء على الأفيون. أقسم أن أواصل مهمتي، ولن أتوقف أبدا في منتصف الطريق."
وفي محاولة لرشوة لين، قام تشارلز إليوت، ممثل تجار الأفيون البريطانيين، بتقديم "هدية صغيرة" كانت عبارة عن طقم لتدخين الأفيون مرصع بالجواهر وغيره من الأشياء الثمينة التي ربما كان ثمنها لا يقل عن مائة ألف جنيه إسترليني. لكن لين رفض ذلك بصورة قاطعة قائلا: "لقد جئت إلى قوانغدونغ للقضاء على آفة الأفيون، بأمر من جلالة الإمبراطور. وطقم الأفيون هذا مهرّب، ويجب مصادرته. ولكن من أجل الصداقة بين بلدينا، يمكنك إعادته إلى بلدك وعرضه في متحفك."
وتحت قيادة لين، تمت مصادرة 1188127 كيلوغراما من الأفيون، وإضرام النار فيها لاحقا في بلدة هومن الواقعة بمدينة دونغقوان اليوم. لقد استغرق التخلص من تلك الكمية الهائلة من الأفيون 23 يوما. مع ذلك، لقي هذا العمل النبيل انتقادات في البلاط الإمبراطوري، وسرعان ما تم نفي لين إلى إيلي في غربي شينجيانغ. وعند مغادرته إلى المنطقة الحدودية، كتب لين تسه شيوي قصيدة، جاء فيها: "لقد هانت عليّ نفسي من أجل مصلحة بلدي؛ فما هو الخطر بالنسبة لي؟". هذا الشعور قد تشاطره الملايين من أبناء الشعب الصيني من الأجيال اللاحقة ممّن التزموا بإخلاص بقضية النهضة العظيمة للأمة.
إن فكرة "صعود وسقوط الأمة يقع على عاتق كل فرد من مواطنيها"، تعكس الإحساس بضرورة بناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية. لقد دعا كونفوشيوس إلى أن حب الأسرة يجب أن يمتد إلى حب الأصدقاء ثم إلى جميع الناس. وقال منشيوس: "إذا لم أعمل من أجل الحكم الرشيد لهذا العالم، فمن سيفعل ذلك؟" هذا الأمر يتطلب جهودا مشتركة لشعوب جميع البلدان من أجل تحقيق السلام العالمي.
وهناك المزيد من الأمثلة في التاريخ الحديث، حيث كرس الشعب الصيني نفسه من أجل رفاه بلاده والإنسانية جمعاء. يوان لونغ بينغ (1930- 2021م)، العالم الذي قام بتربية الأرز الهجين العالي الإنتاجية، أحد هذه الأمثلة. بفضل الإنجاز الفذ لهذا العالم، أضحت الصين قادرة على إطعام 22% من سكان العالم باستخدام 7% فقط من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم. كما تم تطبيق التقنيات التي طورها يوان في عشرات البلدان في جميع أنحاء العالم، مما يدعم الجهود العالمية للقضاء على الجوع والحد من الفقر.
تواجه الحضارة البشرية اليوم تهديدات متعددة؛ من الحروب إلى تغير المناخ. وقد أسهم الشعور بالمسؤولية المشتركة في جمع الناس من كل أنحاء العالم للعمل على إيجاد حلول لتلك المشكلات.
وقد أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ فكرة أن "صعود وسقوط الأمة يقع على عاتق كل فرد من مواطنيها"، في مناسبات عديدة، بما فيها مؤتمر حوار الحضارات الآسيوية في عام 2019، والندوة التي أقيمت لإحياء الذكرى السنوية الخامسة والسبعين لانتصار الشعب الصيني في حرب المقاومة ضد العدوان الياباني، والحرب العالمية ضد الفاشية عام 2020، وندوة حول الموروث الثقافي والتنمية عام 2023. وشدد شي على أهمية تنمية الروح الوطنية وتعزيز التضامن الوطني وتعزيز الشعور القوي بالانتماء للمجتمع لدى الأمة الصينية، واقترح بناء مجتمع عالمي ذي مستقبل مشترك. وبينما يمر العالم بتغيرات غير مسبوقة لم يشهدها منذ أكثر من قرن من الزمان، فإن الحكمة الصينية القديمة بشأن مسؤوليتنا المشتركة، تلهمنا لخلق مستقبل أفضل لبلادنا وللبشرية جمعاء.
--
سونغ تشن تشونغ، باحث مساعد في قاعدة أبحاث التبادل والتعلم بين الحضارات الصينية والأجنبية بمعهد بحوث كونفوشيوس في مدينة تشيويفو بمقاطعة شاندونغ.