ثقافة وفن < الرئيسية

السعي المتواصل لتحسين الذات

: مشاركة
2024-08-13 16:50:00 :Source لو تشينغ لان:Author

مقولة "السعي المتواصل لتحسين الذات" مأخوذة من ((كتاب التغييرات))، والنص الأصلي هو "مثلما لا تتوقف السماء عن التقدم بقوة، ينبغي للرجل الفاضل السعي المتواصل لتحسين الذات." يعمل "الداو" السماوي بقوة ونشاط، ويتجلى ذلك بشكل أساسي في تعاقب الفصول الأربعة وتعاقب النهار والليل. اعتقد الصينيون القدماء أن الرجل الفاضل يجب أن يتبع الداو السماوي، وأن يفسح المجال كاملا لمبادرته، وأن يخوض النضال الشاق لتقوية نفسه بلا توقف. مقولة "السعي المتواصل لتحسين الذات" لها ثلاثة معان: "الذات" تمثل المبادرة، و"التحسين" يظهر قوة الإرادة، و"السعي المتواصل" يؤكد على الديمومة.

"الذات" تمثل المبادرة. لقد ظلت الأمة الصينية تقدر دائما الطابع الروحي للاستقلال والإرادة المستقلة. على سبيل المثال، عندما نواجه صعوبات، لا ينبغي أن يكون أول ما يتبادر إلى الذهن هو طلب المساعدة من الآخرين، بل الاعتماد على قوتنا لحل المشكلات قدر الإمكان. حتى لو كنا بحاجة إلى مساعدة الآخرين في بعض الأحيان، يجب أن نفسح المجال كاملا لمبادرتنا الشخصية، والشخص الآخر هو مساعد فقط، وذاتنا هي بطل الرواية. وكما جاء في الفصل الثالث والثلاثين من كتاب ((داوديجينغ)): "الرجل الذي يقهر الآخرين قوي، والرجل الذي يتغلب على نفسه أقوى." بمعنى آخر، فإن أعلى معيار لنجاح الشخص لا يقاس من خلال المقارنة مع الآخرين، وإنما من خلال المقارنة مع نفسه. يمكن لأي شخص أن يقهر الآخرين، غير أن هذا يدل على أنه أقوى منهم فقط؛ لكن القوي الحقيقي هو من يتمكن من تحقيق السمو الذاتي.

"التحسين" يظهر قوة الإرادة. لا يمكن لأي شخص تغيير طموحاته بسهولة، ولكن يجب أن تكون لديه مثابرة. في فصل الشتاء البارد، تذبل الأعشاب كلها، لكن أشجار الصنوبر والسرو تظل منتصبة، وتتفتح أزهار البرقوق في موعدها. غالبا ما تظهر هذه النباتات في نصوص الشعر والنثر الصينية القديمة، إذ قدّر الصينيون القدماء هذا النوع من المثابرة التي لا تخشى البرد القاسي وتتمسك بالنزاهة والعدالة. فعلينا نحن على طريق الحياة، أن نكون مثل الصنوبر والسرو فنواجه الصعوبات، ونُثبت المعتقدات، ولا ننثني، بل نحول الضغط إلى دافع. كما قال منشيوس: إذا أرادت السماء أن تكلف شخصا بمهمة ثقيلة، تغرس أولا البأس في قلبه، وترهق عضلاته وعظامه، وتضنيه بالجوع والفقر، وتؤلمه بضروب الشقاء، لصقل إرادته وشحذ قدرته في كل جانب. لذلك، لن يكون الشخص قويا إلا إذا كان عزمه عظيما، وقلبه متينا يرفض الإغراء بالثراء والشهرة، وإرادته ثابتة وإن عانى الفقر والعوز، ونزاهته راسخة لا تخضع للقوة والعنف.

"السعي المتواصل" يؤكد على الديمومة. الداو السماوي يدور ليلا ونهارا دون توقف، فعلى الرجل الفاضل أن يتعلم روح المثابرة. قد لا يكون من الصعب المداومة على ذلك يوما أو يومين. لكن التحسين الذاتي الحقيقي يتطلب مثابرة دائمة. قال منشيوس: "إن تحقيق شيء ما يشبه حفر بئر، فإذا أردت حفر بئر، وأنهيت 60- 70 قدما، ولم تجد ماء، فهي حفرة لا بئر." وقال شيون تسي: "إذا أردت نحت شيء بسكين، لكنك لم تواصل العمل وتوقفت، فلن تنجز العمل حتى وإن كان النحت على خشب لين. لكن إذا واصلت العمل، فستكمل وتنحت على المواد الصلبة مثل المعدن أو الحجر. يقال: قطرات الماء قد تحفر الصخر، والنصر النهائي لا يتحقق إلا بجهود متواصلة متتالية، وإذا تترك العمل في منتصف الطريق، فلن تنجح في النهاية."

منذ العصور القديمة، سواء كان الأباطرة أو الجنرالات أو الحكماء القدماء، فإنهم لا ينفصلون عن روح السعي المتواصل لتحسين الذات. فقد كونفوشيوس والده في سن مبكرة وعاش في فقر، وعمل كمسؤول صغير يدير المستودعات والماشية من أجل كسب لقمة العيش. في وقت لاحق، بدأ كونفوشيوس في القيام بجولته بين الممالك، وبشر بأفكاره الخاصة، وواجه خلال تجوله من مكان إلى آخر العقبات والرفض المتكرر له، في محاولاته للتبشير بأفكاره الخاصة، لكنه التزم دائما بمُثل الخير وحبه للعالم، ولم يستسلم أبدا. وحسب كلماته الخاصة: الرجل الفاضل لن يترك ما يعتقد به من العدالة والفضيلة لحظة، ولو تشرد. كان كونفوشيوس محاصرا ذات مرة في البرية بين مملكة تشن ومملكة تساي، ولم يجد طعاما ولا خضارا بريا عدة أيام، ومرض تلاميذه الذين كانوا معه، لكنه استمر بكل حماسة في إعطاء دروسه والعزف والغناء. وكان طوال حياته يمارس روح السعي المتواصل لتحسين الذات، وظل يتعلم ويعلم بلا كلل ولا ملل، حتى نسي أن يتناول الطعام عندما كان منهمكا في العمل، وفرح به تاركا كل الهموم، وترك كل مخاوفه وراءه عندما كان سعيدا، ولم يكن يعرف حتى أنه على وشك أن يكون عجوزا. وفقا لما ورد في الكتب الكلاسيكية مثل ((أقوال عائلة كونفوشيوس))، كان تلميذ كونفوشيوس تسي قونغ قد سئم ذات مرة من التعلم وأخبر كونفوشيوس أنه يأمل في الراحة لفترة من الوقت. فأخبره كونفوشيوس أن لا راحة في حياة الإنسان، وكل الأمور منها مثلا مساعدة الملك في حكم وإدارة البلاد، والعناية بالوالدين، ورعاية الزوجة والأطفال، والتواصل مع الأصحاب، والتعهد بالمزروعات، كل شيء يتطلب التعلم، ولا يفسح لك راحة إلى أن يأتيك الموت. بكلماتنا اليوم، اطلب العلم ما دامت الحياة.

شهدت حياة سو شي، وهو أديب صيني في فترة أسرة سونغ، مرات من الصعود والهبوط في بلاط الحكم، وعُزل من منصبه غير مرة، لكنه لم يتأثر بالشرف أو العار، وغنى باستمرار أغنية الحياة. عندما كان في الأربعين ونيف من عمره، سُجن ثم نُفي إلى هوانغتشو، حيث كان يزرع الأرض لإعالة أسرته. وفي سنواته الأخيرة، نُفي إلى دانتشو النائية، حيث افتقر إلى الغذاء والكساء، ولم يكن لديه دواء لعلاج مرضه، لكنه اعتبر المكان مسقط رأسه الثاني، حيث أنشأ التعليم، وعلم السكان المحليين استصلاح الأراضي القاحلة والاشتغال بالزراعة. وكان يحافظ على موقف إيجابي تجاه الحياة رغم الصعود والهبوط، فلم يكن يفيد الناس فحسب، وإنما أيضا ترك من خلفه قصائد مشهورة وقصصا رائعة أينما ذهب، يتناقلها الناس طوال السنين الطويلة.

لن تكون حياة أي شخص دائما إبحارا سلسا، بل لا بد أن تواجهه صعوبات في العمل أو الحياة. إلا أن بعض الناس يسقط أمام الشدائد، بينما بعضهم الآخر كلما اشتد عليه الأمر يتقوى، والفرق يكمن فيما إذا كانت لديهم روح السعي المتواصل لتحسين الذات. إن من يفهم هذه الروح يشحذ نفسه مستفيدا من الشدائد، ويحرق جسده بنارها، ثم يعود وينبعث من جديد كطائر العنقاء. صحيح أن الطريق طويل، لكنك ستصل ما دمت تسير، وأن الأمر صعب، لكنك ستنجح أخيرا ما دمت تقوم به. لذا، طالما نتمسك بروح السعي المتواصل لتحسين الذات والجهود الدؤوب، فلا طريق أطول من أقدامنا، ولا جبل أعلى من قاماتنا.

قال الرئيس الصيني شي جين بينغ: "لن تتحقق المثل العليا الجميلة للبشرية بسهولة، وهي لا تنفصل عن النضال الشاق والدؤوب لشق طريقنا عبر الأدغال والأشواك. لقد انتقل بلدنا وأمتنا خطوة بخطوة من الفقر والضعف إلى النمو والرخاء اليوم، معتمدين على الكفاح العنيد لجيل بعد جيل وروح الأمة الصينية للسعي المتواصل لتحسين الذات." بعد حرب الأفيون، عانت الأمة الصينية من مأزق التخلف والهزيمة، ونهض الشعب الصيني للمقاومة. قاد الحزب الشيوعي الصيني أبناء الشعب بمختلف قومياتهم في أنحاء البلاد في الاعتماد على النفس وخوض النضال الشاق لتقوية البلاد، واستقبلت الأمة الصينية طفرة عظيمة، حيث وقفت على قدميها ثم حققت الثراء وبدأت تقوى. إن "تحسين الذات" للصين مثل قوة الرجل النبيل. الصين قوية، لكنها لن تنخرط في سياسة القوة. والصين، بصفتها أكبر دولة نامية، لا تطور نفسها بروح السعي المتواصل لتحسين الذات فحسب، وإنما أيضا تحتضن العالم بنشاط وتسهم بقوتها في التنمية العالمية. وعلى الساحة الدولية للقرن الحادي والعشرين، ستواصل الصين السعي للصعود بروح السعي المتواصل لتحسين الذات، وشق المسارات على الجبال وبناء الجسور على الأنهار، وكتابة فصل جديد في قضية التقدم البشري مع التحديث الصيني النمط.

--

لو تشينغ لان، باحثة في قاعدة أبحاث التبادلات والتعلم المتبادل بين الحضارات الصينية والأجنبية بمعهد كونفوشيوس في مدينة تشيويفو بمقاطعة شاندونغ.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4