في السنوات الأخيرة، أشار الرئيس الصيني شي جين بينغ غير مرة في مناسبات مختلفة إلى أن الصين شرعت في رحلة جديدة لبناء دولة اشتراكية حديثة على نحو شامل. وقال: "نحن على استعداد للعمل مع جميع الأطراف لدعم التعددية الحقيقية، والالتزام بالعهود والسعي للتعايش المتناغم، والتعاون والفوز المشترك، وإحراز تقدم مطرد نحو هدف بناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية." عبارة "الالتزام بالعهود والسعي للتعايش المتناغم" خاصة جدا. إنها مقولة صينية قديمة مأخوذة من المؤلف الكونفوشي ((كتاب الطقوس)). وهي مفهوم طرحته المدرسة الكونفوشية الصينية القديمة بشكل واضح عندما شرحت المُثل الاجتماعية والسياسية، حيث تشير إلى الحاجة إلى الالتزام بالعهود والدعوة إلى التعايش المتناغم داخليا وخارجيا. هذا مفهوم قيمي مهم للغاية في المنظومة الأيديولوجية الصينية القديمة. وباعتبارها واحدة من الجينات الثقافية الأكثر فطرية في الحضارة الصينية، فإنها تجسد السعي الروحي الفريد للأسلاف الصينيين، وتندمج في الطريقة التي يتصرف بها الصينيون ويفكرون بها في العالم، وتشكل الطبيعة السخية والسلمية للأمة الصينية، وتؤثر بعمق على جميع جوانب التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للصين.
الالتزام بالعهود والسعي للتعايش المتناغم، حجر الزاوية الأخلاقي لسلوك المرء في العالم. ما هو أهم شيء في حياة الشخص؟ البعض يقول الثروة، والبعض يقول السلطة، والبعض يقول الشرف. في الواقع، النزاهة هي الشيء الذي لا غنى عنه في حياة الشخص. قال كونفوشيوس إنه إذا لم يكن لدى شخص نزاهة، فلن يجد لنفسه موطئ قدم في المجتمع. الأمر يشبه عربة ثور بدون عريش، فإذا لم يكن العريش موجودا، فكيف تسير العربة؟ في المسيرة الطويلة للمجتمع البشري، يتمسك الناس من جنسيات وأعراق وأديان مختلفة بمعايير أخلاقية مختلفة، لكن "الالتزام بالعهود" هو نوع من الأخلاق التي تحظى بالاحترام على مستوى العالم. وفي نظر الصينيين القدماء، بالإضافة إلى مراعاة روح "الالتزام بالعهود" بالمعنى العام، فإن "الالتزام بالعهود" أكثر أهمية للاعتقاد بأنه يجب أن ينبع من "الإخلاص". وهذا يعني أن "الالتزام بالعهود" لا يتطلب فقط عدم الخداع بالأقوال والأفعال، وإنما يؤكد أيضا على الولاء وعدم الخداع في قلوب الناس. خلال فترة الممالك المتحاربة في تاريخ الصين القديم، كان هناك أمير يدعى جي تشا في مملكة وو، اشتهر بين الممالك بحكمته. ذات مرة، أمره الملك بزيارة مملكة لو، وعندما مر بمملكة شيوي، لاحظ أن ملك مملكة شيوي معجب كثيرا بسيفه. من أجل إكمال المهمة التي كلفها به ملكه، لم يقدم سيفه لملك مملكة شيوي على الفور، لكنه أسر في قلبه أن يعطي السيف لملك شيوي بعد إنجاز مهمته. ومع ذلك، عندما عاد جي تشا إلى مملكة شيوي، كان ملكها قد مات مريضا. حزن جي تشا كثيرا، وعلق سيفه على شجرة مجاورة لمقبرة الملك. لم يفهم مرافقوه مغزى ما فعل، فسألوه: "ملك مملكة شيوي قد مات، فلماذا تعلق سيفك هنا؟" قال جي تشا: "لقد وعدت أن أعطيه سيفي، لكن الآن بعد أن توفي، كيف لي أن أخالف قلبي؟" فمن وجهة نظر جي تشا، ليس مهما أن يجهر بالوعد أم لا، فحتى إن كان "وعدا قلبيا"، لا بد من الوفاء به. هذه هي الطريقة التي يجب أن يعيش بها الرجل الفاضل في العالم.
إن الالتزام بالعهود والسعي للتعايش المتناغم هو الرابط الذي يحافظ على التناغم القومي ويعزز التماسك الاجتماعي. خلال فترة الربيع والخريف في تاريخ الصين القديم، ساعد قوان تشونغ ملك تشي هوان قونغ في إصلاحاته وجعل مملكته أقوى الممالك في فترة الربيع والخريف. يمكن وصف مساهمة قوان تشونغ بأنها مساهمة عظيمة. قال قوان تشونغ: "الصادقون هم رابط العالم". وهذا يعني أن الالتزام بالعهود هو الرابط الاجتماعي الذي يعزز الثقة المتبادلة بين الناس، ويعزز شعور الناس بالانتماء الاجتماعي، ويساعد في بناء نظام اجتماعي متناغم ومستقر. في الواقع، فإنه في المجتمع الذي يفتقر إلى الالتزام بالعهود، يخدع السياسيون رؤساءهم ومرؤوسيهم، وينتزعون ما لدى الآخرين بالقوة أو الحيلة، ويصبح التجار غشاشين ومرتزقة، ويكذب الأصدقاء ويستخدمون بعضهم البعض. ويؤدي ذلك حتما إلى الفوضى والاضطراب في المجتمع. هناك قصة في كتاب ((ليه تسي)) عن "الاشتباه في الجار لسرقة الفأس". ذات مرة، فقد رجل فأسه واشتبه في أن ابن أحد جيرانه قد سرقه. لذلك راقب هذا الابن سرا، وشعر من سلوك وكلام ابن جاره أنه يبدو وكأنه الشخص الذي سرق الفأس. بعد بضعة أيام، ذهب للعمل في حقله وهناك وجد فأسه المفقود. عندما وصل إلى داره ورأى ابن جاره، بدا له أنه ليس لصا. في هذه القصة، لم يكن ابن الجار هو الذي تغير، وإنما عقلية هذا الرجل. سبب التغيير ليس شيئا آخر، بل أنه كان أعمى بسبب شكوكه وتحامله. في مجتمع اليوم، هناك زيادة تدريجية في عدم الثقة بين الناس، ويبدو أن إعادة قراءة هذه القصة تجلب لنا بعض الإلهام المختلف. بعد كل شيء، في مجتمع يفتقر إلى الثقة، كل شخص ضحية.
إن الالتزام بالعهود والسعي للتعايش المتناغم، عامل رئيسي في تعزيز مصداقية الحكومة وضمان السلام والاستقرار على المدى الطويل في البلاد. وفقا لـ((مختارات كونفوشيوس))، ففي حوار بين كونفوشيوس وتلميذه تسي قونغ، سأل التلميذ معلمه: "كيف يجب أن تُحكم الدولة؟" فقال كونفوشوس: "مقومات الحكم هي أن يتوفر طعام كاف وتجهيزات عسكرية كافية وثقة الشعب في حاكمه." فسأل التلميذ: "إن لم يكن من بُد، ويجب الاستغناء عن واحد من تلك، أي منها يجب التخلي عنه أولا؟" رد كونفوشيوس: "التجهيزات العسكرية". فقال التلميذ: "إن لم يكن من بُد، ويجب الاستغناء عن واحد من الاثنين الباقيين، أيهما يجب التخلي عنه أولا؟" قال كونفوشيوس: "جزء من الطعام، فمن قديم الزمان الموت هو مصير كل البشر، ولكن إن لم يكن لدى الشعب إيمان بحكامه، فلا مبرر لوجود الدولة." يمكن ملاحظة أنه من وجهة نظر كونفوشيوس، تكون المصداقية في بعض الأحيان أكثر أهمية للنظام من الجيش القوي والاقتصاد المزدهر. في التاريخ، هناك العديد من الأمثلة على تعزيز قوة البلاد بالنزاهة وتضليل الدولة بالكذب، ويمكن إثبات ذلك من خلال هذا العرض لكونفوشيوس. على سبيل المثال، خلال فترة الممالك المتحاربة، نفذ شانغ يانغ إصلاحات قانونية في مملكة تشين، وتمت صياغة قانون جديد بالكامل، ولكن لم يتم الإعلان عنه. كان شانغ يانغ قلقا من أن لا يثق الناس في فعالية القانون الجديد، فأمر بإقامة سارية خشبية بارتفاع عشرة أمتار عند البوابة الجنوبية للسوق، ووعد بمكافأة قدرها عشرة تايل (التايل وحدة وزن تساوي خمسين غراما) من الذهب لمن ينقل السارية إلى البوابة الشمالية للسوق. ظن الناس أن الأمر فيه خدعة، فكيف تكون مكافأة هذا العمل سخية إلى هذا الحد؟ فلم يجرؤ أحد على الذهاب إلى السارية. أمام هذا الوضع، زاد شانغ يانغ قيمة المكافأة إلى خمسين تايل من الذهب. عندئذ، تقدم رجل وحمل السارية إلى البوابة الشمالية، فمنحه شانغ يانغ حقا خمسين تايل من الذهب. انتشر هذا الخبر بسرعة في مملكة تشين، واكتسب مصداقية كبيرة لحكومة مملكة تشين، مما سهل إلى حد كبير تنفيذ الإصلاحات القانونية، كما نهضت مملكة تشين وازدهرت ووحدت الممالك الست في النهاية.
الالتزام بالعهود والسعي للتعايش المتناغم معيار مهم لتعزيز التبادلات الودية والتناغم بين مختلف الحضارات والبلدان. لطالما كانت الصين واحدة من أقوى الدول في العالم، لكن الصين لم تؤمن أبدا أو توافق على ما يسمى بـ"قانون الغاب"، ولم تسلك طريق "الدولة القوية لا بد أن تكون مهيمنة". لقد حذرتنا حكمة أكثر من خمسة آلاف عام من التاريخ الصيني دائما من أن "الدولة المهيمنة محكوم عليها بالفشل". لذلك، ليس للصين سجل استعماري أو عدواني ضد البلدان الأخرى. لقد نشرنا على الدوام مفهوم السلام للعالم الخارجي، ونؤمن بحكمة "لا تقدم للآخرين ما لا تريده لنفسك". قام تشانغ تشيان من أسرة هان الغربية (202 ق.م – 8م) ببعثتين إلى المناطق الغربية، مما فتح الباب أمام التبادلات السلمية بين الصين ودول المناطق الغربية، وفتح طريق الحرير القديم الذي اجتاز الشرق والغرب وربط بين أوروبا وآسيا. وعلى هذا الطريق، فإن قصص الاحترام والثقة المتبادلين، والتعاون المربح للجميع، والتعلم المتبادل بين الحضارات قد تم توارثها منذ آلاف السنين. خلال فترة أسرة مينغ (1368-1644م)، قاد تشنغ خه أقوى أسطول في العالم إلى المحيط الغربي سبع مرات في أكثر من عشرين عاما، لم يغز خلالها بلدا أو يسلب شبرا واحدا من الأرض. وهذا يتناقض بشكل صارخ مع الفظائع الاستعمارية التي ارتكبها المستعمرون الأوروبيون في أفريقيا والأمريكتين وآسيا لعدة قرون.
في الوقت الحاضر، يمر العالم بتغيرات كبيرة لم يسبق لها مثيل منذ قرن من الزمان، والتغيرات في العالم والعصر والتاريخ تتكشف بطريقة غير مسبوقة. إن كيفية حل مشكلات التنمية والأمن والحكم، والمحافظة على السلام والهدوء العالميين هو اختبار لضمير البشرية وحكمتها. بالنظر إلى السماء المرصعة بالنجوم، نأمل أن ننقل "جين السلام" الموجود في الالتزام بالعهود والسعي للتعايش المتناغم، والعمل مع الأصدقاء من جميع أنحاء العالم للمضي قدما جنبا إلى جنب نحو هدف بناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية.
--
سونغ ينغ، باحثة في قاعدة أبحاث التبادلات والتعلم المتبادل بين الحضارات الصينية والأجنبية بمعهد بحوث كونفوشيوس في مدينة تشيويفو بمقاطعة شاندونغ.