يبدو الطريق الممتد كأنه صفحة بيضاء ممتلئة بالتفكير والتأمل في الماضي والحاضر والمستقبل. تتداعى الذكريات، ويقتنص المرء لنفسه وقتا لمراجعة الذات، وإعادة النظر في بعض القرارات. وقد يكون هذا الطريق أيضا قدرا يجمعه ببعض الأشخاص الذين ينتمون إلى الماضي الذي ظل حبيس المكان، ويصله بالمستقبل الذي يشغل المساحة الأكبر من تفكيره.
يحكي الفيلم الصيني ((ستار الليل))، قصة شاب قروي ثلاثيني يعمل في بكين، يعتزم العودة إلى قريته لحضور جنازة جده. لكن بسبب بُعد المسافة بين بكين وبلدته، عليه أن يبدل وسائل مواصلات مختلفة للوصول إلى هناك؛ وفي كل مرة يستقل فيها وسيلة مواصلات، يقابل شخصا مختلفا، فتتشكل قصة. تدور أحداث الفيلم كله أثناء رحلة عودة الشاب، حيث يلتقي في الطريق بالعديد من الأشخاص، أقارب، وأصدقاء، وفتاة يعجب بها، ويصادف حبه الأول، أما رفيقه الملازم له طوال طريقه فهو كلب صغير، كادت الحافلة أن تصدمه.
وفي إحدى محطات العودة، يدخل الشاب إلى معبد، ويؤدي الصلاة ويشعل البخور. وأثناء خروجه، يصادف عرافا ضريرا يجلس بالقرب من المعبد، فيقرأ له الطالع، ويقول إن حظه ونصيبه غير جيدين، ويعطيه تعويذة، ويوصيه أن يتجنب ثلاثة أشياء هذا العام؛ الذهاب إلى تقديم القرابين لميت، وزيارة سيدة وَلَدت في منزلها، وزيارة مريض.
رحلة عودة الشاب الطويلة والشاقة تستغرق يوما كاملا، عند وصوله إلى بلدته البعيدة، يأتي والده ليأخذه بدرجاته النارية، ويكون قد أوشك الليل على إسدال ستاره، فيصل الفيلم إلى نهايته. لذا؛ سُمي الفيلم بـ"ستار الليل". عُرض الفيلم في دور العرض بالصين في يناير 2024.
صُور الفيلم في مسقط رأس المخرج جيان هاو دونغ، بمقاطعة شانشي، وتحديدا في فصل الشتاء. ويصف المخرج برودة الطقس هناك قائلا: "صفحة النهر الأصفر تتحول في الشتاء إلى رقعة من الجليد." الفيلم قصته واقعية، تجسد تجربة المخرج الشخصية في العودة إلى بلدته من بكين. حينذاك، كان وباء كورونا يعرقل حركة تنقل الناس بشكل طبيعي، ولكن جيان هاو دونغ استطاع في نهاية المطاف بعد قطع طريق طويل، العودة إلى قريته لحضور جنازة جده، مما ألهمه كتابة هذا الفيلم.
يتيح فيلم ((ستار الليل)) للمشاهد رؤية ملامح وطباع القرويين البسطاء، فتجدهم يتحدثون إلى الشاب بحميمية ولطف، ويسألونه باهتمام عن أحواله وعمله وحياته في بكين، وإن كان قد تزوج أم لا، بل ويعرض بعضهم عليه مساعدته في أمر الزواج. طريقة تصوير الفيلم والمشاهد، تضفي على الفيلم طابعا حقيقيا، وكأنه فيلم تسجيلي.
لفت نظري في الفيلم، وصول التكنولوجيا إلى كل أرجاء الصين، فنرى انتشار التعامل بالدفع الإلكتروني في أبسط الأماكن، وذلك عبر تطبيق ويتشات، التطبيق الأكثر استخداما وشيوعا في الصين. وكذلك نرى أن دفع كل من أجرة الحافلة، وقراءة الطالع، والحلاقة كلها تكون عبر هذا التطبيق. يعتمد الصينيون في حياتهم اليومية على تطبيق ويتشات، وهو التطبيق الوحيد الذي تجاوز عدد مستخدميه النشيطين عشرة مليارات مستخدم شهريا.
لم يتخصص المخرج جيان هاو دونغ في دراسة السينما أو الإخراج، بل كان مجال تخصصه في الجامعة هو صناعات التعدين، كما أنه عمل في مناجم الفحم في سبيل تحقيق حلمه الذي زاد توقدا في قلبه مع مرور الوقت. وقد حكى جيان هاو دونغ عن تجربته هذه، فقال: "والدي وجدي يعملان في منجم الفحم، لذا؛ حثني والدي على دراسة هذا التخصص. وعندما كنت في السنة الدراسية الأولى بالجامعة، نظم اتحاد الطلاب عرض الفيلم الهندي: ((المليونير المتشرد)) (Slumdog Millionaire)، في صالة عرض ضمت ألف شخص. تأثرت كثيرا بالفيلم، ومن ثم، عزمت على الذهاب للعمل بالمناجم لمدة عام، بهدف ادخار الأموال لتصوير أول فيلم خاص بي. كان عمق المنجم خمسمائة متر تحت الأرض، وهناك، مررت بالعديد من التجارب، بما في ذلك الزلازل، وغيرها من الحوادث، مما ألقى بظلاله على قلبي. كنت أقوم بأعمال بدنية هناك، كتنظيف الفحم وجرفه، وحمل الأشياء على كتفي، وكذلك نقلها من مكان إلى آخر. كنت مشوشا جدا، وجسدي كان منهكا. بعد أن أنتهي من العمل، وأصعد من جوف المنجم، كنت أستحم، ثم أعود إلى سكن الطلاب، وأواصل كتابة سيناريو الفيلم. حينها سيطر على شعور، أن بوسعي خوض تجربة تصوير فيلم، بصرف النظر عن النجاح أو الفشل." بعد عمله في المناجم، تمكن جيان هاو دونغ من ادخار مبلغ، استطاع به تصوير عمله الأول.
قال المخرج جيان هاو دونغ، إنه عندما وصل إلى سن الثلاثين، شعر بضرورة فعل شيء يثبت به معنى وقيمة لوجوده، فعقد العزم على كتابة سيناريو فيلم ((ستار الليل)). أضاف: "كل إنسان تعرقله صعوبة ما، ولكن بالنسبة للمبدعين على وجه الخصوص، فهذه الصعوبات بمثابة حافز، بل وتكون مصدرا للإبداع والإلهام لهم."
لم يصور الفيلم مخرجا مشهورا، ولم يمثل فيه نجوم لامعين في سماء الفن، ولكنه أثبت وجوده، استطاع المنافسة، بل وحصد خمس جوائز؛ فحاز مخرجه على جوائز مهمة في الصين، ومنها: جائزة "أكثر مخرج لافت للأنظار"، في الدورة الثالثة عشرة لمهرجان بكين السينمائي الدولي، وجائزة أفضل مخرج في مهرجان تشونغتشينغ لأفلام الشباب. كما حاز الفيلم على أكثر من جائزة في الدورة السادسة لمهرجان بينغياو السينمائي الدولي. شاهدت مؤخرا عددا من الأفلام لمخرجين شباب، والتي حققت نجاحا كبيرا في الصين وخارجها، واللافت للنظر أن الصدى الذي حققته غير مقترن بشهرة طاقم العمل، وأدركت كيف تفتح الصين الطريق للمبدعين والموهوبين الشباب. فتعدد مهرجانات الأفلام في الصين، يعطي مساحة أكبر للتنوع، ويُظهر دائما الأعمال المميزة، والوجوه الجديدة التي تستحق أن تبرز إلى دائرة الضوء.
--