بلا هوية، يصبح المرء أشبه ببلور شفاف، يتغير بتغير انعكاس الضوء والألوان عليه. لكن عندما يعتز المرء بهويته وحضارة بلده، ويعرف تاريخها، يتغير كل شيء؛ لأنه يذكر نفسه دائما بمن يكون، ومن أين أتى، وماذا يملك، بل ويعرف قيمة ثقافته وجوهرها النفيس. ينبهر الكثيرون بالغرب، ويعتقدون أنه الأفضل دائما، وأن كل ما هو غربي يعد الأجمل. لكن للشرق أيضا سحره الفريد، وتاريخه التليد. فعلينا أن نذكر أنفسنا- بلا توقف- بهويتنا، ولو بشيء بسيط، ندرجه في حياتنا اليومية، قد يكون قطعة حلي أو ملابس، مستوحاة من التراث، أو حتى يمكن أن يكون لعبة فيديو.

هنا أتحدث عن لعبة "الأسطورة السوداء.. وو كونغ"، وهي لعبة صينية، أصدرتها شركة "علوم الألعاب والتكنولوجيا التفاعلية" (Game Science Interactive Technology Co., Ltd) في مدينة هانغتشو حاضرة مقاطعة تشجيانغ. من المعروف أن الصين تشتهر بصناعة العديد من ألعاب الفيديو سنويا. ولكن اللافت للنظر أمران: الأول، هو الشهرة العالمية التي حققتها لعبة "الأسطورة السوداء.. وو كونغ". الثاني، أنها مستوحاة من رواية ((رحلة إلى الغرب))، للكاتب وو تشنغ أن، والتي تعد من كنوز التراث الصيني، ومن الروايات العظيمة الأربع والأشهر على الإطلاق في الصين. والجدير بالذكر، أن ((رحلة إلى الغرب)) تُرجمت- أكثر من مرة- إلى العربية، ولكن النسخة الكاملة الوحيدة، ترجمها لأول مرة المترجم والكاتب الأستاذ حسين إسماعيل، نائب رئيس تحرير الطبعة العربية لمجلة ((الصين اليوم)).

رغم أنه لم يمر شهران على إصدار لعبة "الأسطورة السوداء.. وو كونغ"- والتي أطلقت في الأسواق والمنصات الإلكترونية المختلفة، في 24 أغسطس 2024، فإنها حققت نجاحا منقطع النظير، فقد ذكرت صحيفة ((تشينا ديلي)) الصينية: "لم تمر أربعة أيام على طرح هذه اللعبة في الأسواق، حتى تجاوزت مبيعاتها عشرة ملايين نسخة، وسجلت أعلى عدد لاعبين متزامنين على المنصات المختلفة على شبكة الإنترنت، حيث وصل عدد لاعبيها إلى ثلاثة ملايين شخص." فهي من الألعاب الإلكترونية الصينية الأكثر تأثيرا في عام 2024. ومن المتوقع أن تبلغ مبيعاتها ملايين النسخ في الفترة المقبلة. صدرت اللعبة بعدة لغات ونسخ، فمنها نسخ للكمبيوتر، والبلاي ستيشن، والإكس بوكس.

حصدت لعبة "الأسطورة السوداء.. وو كونغ" في عام 2023، جائزة أفضل مؤثرات صوتية في معرض "جيمز كوم" ((GAMESCOM في ألمانيا، بل وتصدرت قائمة الألعاب على منصةSteam ، وهي منصة شهيرة لألعاب الفيديو. فنجاح لعبة "الأسطورة السوداء.. وو كونغ"- داخل الصين وخارجها- في وقت قياسي، يجعلنا نتساءل عن مبتكرها، بل ويتملكنا الفضول لمعرفة المزيد من التفاصيل الأخرى، وفي مقدمتها سبب اختيار ((رحلة إلى الغرب)) كخلفية للعبة.

فنغ جي، مبتكر اللعبة، ولد في عام 1982 بمقاطعة هوبي. أسس شركة "علوم الألعاب والتكنولوجيا التفاعلية" (GAME SCIENCE) في عام 2014، وهي شركة صينية لصناعة وتطوير ألعاب الفيديو. وفي عام 2018 بدأ العمل على مشروع لعبة "الأسطورة السوداء.. وو كونغ"، وفي عام 2020 أصدرت الشركة فيلما تروجيا- مدته 13 دقيقة- للعبة، وجذب قطاعا ضخما جدا من الجماهير، وتجاوزت نسبة مشاهدته خمسين مليونا.

قال فنغ جي، في مقابلة صحفية، إن اختيار رواية ((رحلة إلى الغرب)) كخلفية للعبة، أمر لم يكن يحتاج إلى تفكير فيما إذا كان الموضوع يلقى ترحيبا أو عفا عليه الزمن. بل على العكس، عندما نفكر فيه تفيض قلوبنا بسعادة غامرة وحماسة فياضة. وهو يرى أن الألعاب التي تقوم على خلفية الأساطير الصينية، أو تحمل ألوان سحر الخيال الشرقي، لم تكن حاضرة بقوة وبشكل كاف، فشعر بضرورة تطويرها، والرفع من جودتها، ومن هنا كانت البداية.

نجاح لعبة "الأسطورة السوداء.. وو كونغ"، كان بمثابة نقطة تحول لمسار مستقبل ألعاب الفيديو الصينية، ودخولها إلى عصر جديد، يواكب تطور الصين في كافة المجالات العلمية التقنية الأخرى، وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي. "الأسطورة السوداء.. وو كونغ" هي أول لعبة صينية تصنف ضمن فئة ألعاب 3A، كما أن تكلفة اللعبة وتطويرها عالية، وجودتها ممتازة.

تملكني الفضول لإلقاء نظرة خاطفة على وضع صناعة ألعاب الفيديو في الصين، حيث قرأت في مقال لصحيفة ((قوانغمينغ)) الصينية أن صناعة ألعاب الفيديو في الصين أصبحت مزدهرة وفي تطور باهر. ووفقا لـ"تقرير صناعة الألعاب الصينية لعام 2023"، تجاوز حجم مبيعات سوق ألعاب الفيديو في الصين 300 مليار يوان (الدولار الأمريكي يساوي 7 يوانات تقريبا حاليا).

وتجدر الإشارة إلى أنه في شهر يوليو 2024، أقيمت في مدينة شانغهاي الدورة الحادية والعشرين لمعرض ومؤتمر الصين للترفيه الرقمي، والمعروف باسم "China Joy"، وهو من أكبر معارض الألعاب الرقمية، وأيضا يضم العديد من الفروع الأخرى للترفيه الإلكتروني، ومنها الرسوم المتحركة. وكذلك لا يخلو المعرض من أدب الإنترنت الذي يضفي على المعرض طابعا تفاعليا، حيث يتيح الفرصة لمحبي الألعاب أن يلتقوا بصانعيها، كما أن كل شركة للألعاب تقدم فعاليات وأنشطة مختلفة.

قال فنغ جي، إنه في عام 2016 بلغ حجم سوق ألعاب الفيديو الفردية في الولايات المتحدة الأمريكية عشرة ملايين دولار أمريكي، بينما بلغ في اليابان خمسة ملايين دولار أمريكي، ولكن حينها لم يكن حجم سوق ألعاب الفيديو الفردية في الصين يتجاوز مليون دولار أمريكي، لكن في فترة من 10 إلى 15 عاما سيصل حجم سوق ألعاب الفيديو الفردية في الصين نظيره في اليابان بل وسيتجاوزه.    

لعبة "الأسطورة السوداء.. وو كونغ"، هي نتاج لعمل جماعي مترابط ومتقن، يؤمن كل فرد فيه بقيمة ما يقوم به، فرغم كل العقبات التي قابلت فريق العمل، أكد فنغ جي أن النتيجة التي وصلوا إليها كانت بفعل السعي المستمر، حيث قال: "ربما يعتقد كثيرون أننا فريق، قلوبنا مقتدة بالحماسة وتفيض بالشغف، وحالمون، ولا يهمنا شيء. ولكن في الواقع إن استمرارية هذا العمل، اقترنت بصقل وتهيئة إمكانيات قبوله وإنجازه على أرض الواقع."

وكذلك يؤمن فنغ جي أن الطريق الذي يسير فيه المرء للوصول إلى النجاح، هو أهم من النجاح نفسه، بل وأن المرحلة التي يمر بها، والصبر والمثابرة في سبيل اجتياز العقبات، هي التي تفضي به للوصول إلى ما يسعى لتحقيقه. قال: "أكثر ما يجعلك تعاني ليست القمة البعيدة للجبل السامق، بل الرمال التي تدعس عليها؛ لأنها ببساطة لا حصر لها ولا عدد. لكنك إذا كنت ترغب في الوصول إلى قمة ذلك الجبل، فعليك أن تكابد عناء المرور بهذه المرحلة..."

يؤمن فنغ جي بأن انتشار المنتجات الثقافية لا بد أن يترك بصمة ويؤثر محليا في المقام الأول، كما أن جودتها، وقدرتها على الاستمرارية على المدى الطويل، ستفسح أمامها الطريق للانتشار عالميا، بل وستحدث صدى ونجاحا ساحقا.

قد تبدو "الأسطورة السوداء.. وو كونغ" مجرد لعبة فيديو، ولكن في الواقع أدى انتشارها على نطاق واسع إلى تسليط الضوء على الثقافة الصينية، بل وساهم في نشرها، ولو بشكل غير مباشر. والآن، قد يبحث آلاف من لاعبي "الأسطورة السوداء.. وو كونغ" حول أنحاء العالم، عن رواية ((رحلة إلى الغرب))، لفهم خلفية اللعبة بشكل أعمق، فعلى الأرجح ستكون لعبة "الأسطورة السوداء.. وو كونغ" هي مدخلهم إلى بحر الثقافة والأدب والفن الصيني.

--

 مي عاشور، كاتبة ومترجمة من مصر.